عميرة ايسر
تشهد فنزويلا حالياً مجموعة من التجاذبات السِّياسية بين أحزاب المعارضة التي تمثل اليمين السِّياسي والتي تكتَّلت في ما عرف بطاولة الوحدة الدِّيمقراطية والتي تسيطر على الجمعية الوطنية أو البرلمان الفنزويلي وذلك منذ انتخابات كانون الأول ديسمبر2015 وذلك للمرة الأولى منذ17عاماً منذ وصول الرئيس الفنزويلي السَّابق هوغو شافيز لسدَّة الحكم في2فبراير1999وبين الرئيس الفنزويلي الحالي الذي يعتبر نهجه الإصلاحي السِّياسي والاقتصادي والثقافي امتداداً لثورة البوليفارية التي استمد روحها هوغو تشافيز من نهج الثائر البوليفاري سيمون بوليفار الذي قاد الثَّورة وحرر معظم دول أمريكا اللاتينية من الاحتلال الاسباني ومنها كولومبيا وفنزويلا وبيرو وبوليفيا وبنما،هذا الثائر الذي كان متأثراً بفلسفة وأفكار جون جاك روسو الإصلاحية إلى حدٍّ بعيد،فمنذ وصول الرئيس نيكولاس مادورو بتاريخ14أفريل2013إلى الحكم بتأييدٍ ودعم مباشر من هوغو تشافير الذي كان مريضاً وقتها قبل أن توافيه المنية.فمادورو الذي كان وراء تأسيس حركة الجمهورية الخامسة والذي ساهم في الإفراج عن تشافيز عندما كان في السّجن سنة1998كان يريد الحفاظ على مكتسبات الثورة والتي أنقذت البلاد حسب ما يؤكد ذلك سفير فنزويلا في تونس السيّد عفيف تاج الدين من أنياب كترتيلات ولوبيات المصالح والمتنفِّذين من رجال المال والأعمال الذين كونوا ثرواتهم من خلال الفساد والعمل المصرفي دون أن تكون لهم استثمارات حقيقية في فنزويلا،وتفضيلهم لتبعية لغرب الرأسمالي وعدم تكوينهم لبرجوازية وطنية تحافظ على الثَّروة المالية والاقتصادية لبلاد وتسعى لتطوير الاقتصاد الفنزويلي على غرار رجل الأعمال مندوسا بولار صاحب شركات بولار الاقتصادية والذي يعتبر ربَّما رجل الأعمال الوحيد في فنزويلا الذي كوَّن ثروته بعيداً عن الفساد ويعمل من أجل تطوير فنزويلا وازدهارها،فهذه الطبقة المالية الفاسدة عملت منذ سنوات على نخر الاقتصاد القومي الفنزويلي من خلال تهريب السِّلع والبضائع إلى الخارج وتكديس العملة الوطنية الفنزويلية في بنوك ومستودعات عدَّة دول كدول الخليج وتركيا وهو ما خلق أزمة مالية عويصة في نهاية شهر ديمسبر2016حيث لم تجد الحكومة الفنزويلية سيولة كافية لدفع رواتب الموظفين.فالبضائع التي تباع بسعر رمزي في فنزويلا يتمُّ إعادة بيعها لدول الجوار وبأسعار مرتفعة،وهذا ما خلق نوعاُ من الندرة السِّلعية وأدى ذلك لارتفاع مهول في نسب التضخم والتي كانت سنة2013في حدود40.6بالمائة لتصبح حوالي1133.8سنة2017،وهذه الأرقام التي قدَّمها صندوق النَّقد الدولي وكذلك فإنَّ نسبة النمو الوطني الخام كانت في نفس السنة أي2013حوالي1.3بالمائة لتنخفض لأكثر من-4.5بالمائة في سنة2017 بينما ارتفعت نسب البطالة حوالي25بالمائة في العام الماضي،رغم أن البلاد تعتبر أغنى بلدٍ في أمريكا اللاتينية باحتياطي نفطي مؤكد يعتبر الأعلى في العالم بأزيد من300مليار برميل بالإضافة إلى أنها تحل المرتبة الثالثة في إنتاج واحتياطي الذهب بحوالي367طنّ من هذا المعدن النفيس،رغم أنَّ احتياطاتها منه قد تراجعت بشكل ملحوظ العام الحالي لتبلغ170طناً من الذهب،فهذه الدَّولة الريعية تعتمد على أكثر من95بالمائة في صادراتها على تصدير النَّفط رغم أن تكلفة إنتاجه تعتبر من الأغلى في العالم،وبلغت مداخليها منه سنة2013أكثر من80مليار دولار أمريكي وهبطت إلى ما بين20إلى25مليار دولار سنة2015ولم تتجاوز أكثر من6مليار دولار العام الماضي حيث تراجع سعر برميل النفط الفنزويلي من110دولار لبرميل سنة2010في عهد الرئيس الفنزويلي هوغو تشافير إلى أقل من30دولار في هذا العام،وهو ما دفع المعارضة الفنزويلية لمطالبة الرئيس مادورو بالرحيل عن سدَّة الحكم لأنه لم يستطع أن يخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية الخانقة التي تتخبط فيها،وهو ما دفعها لتظاهر في العاصمة كاراكاس بتاريخ19أفريل2017يوم عيد الاستقلال الفنزويلي حيث حشدت أكثر من600ألف شخص،بينما استطاع أنصار الرئيس مادورو حشد أكثر من1.5مليون شخص يؤمنون بقيم هوغو تشافيز ونهجه المدافع عن الفقراء والطبقة الكادحة من أبناء الشعب.
-ومنذ عهد الانقلابات العسكرية التي انتهت في فنزويلا سنة1952حيث كان أخر انقلاب عسكري جرى في البلاد بقيادة الجنرال لابيرس هيماتي وتمَّ التأسيس لثنائية سياسية ديمقراطية على النَّمط الأمريكي حيث يتمُّ التناوب على حكم البلاد بينَ الحزب المسيحي والذي يدعا"الكوباي"وحزب العمال الاشتراكي أو"ADIR"ومن خلالها مرت البلاد على كافة المستويات بتحولات فكرية وإيديولوجية ارتبطت ضمنياً بالثروة الباطنية الطاقية لدَّولة، فالحكم رغم أنه كان ديمقراطياً نوعا ما،ولكن ما ميَّز هذه التجارب السِّياسية كلها هو استشراء الفقر والفساد الاقتصادي وانتشار الرشوة والطبقية المجتمعية حيث تمَّ خلق أثرياء جدد مرتبطين عضوياً بالاقتصاد الرأسمالي الأمريكي.فالولايات المتحدة الأمريكية تعتبر فنزويلا كالعديد من دول أمريكا اللاتينية عبارةَ عن حديقة خلفية لا يجوز لأحد أن يسيطر عليها وهي بمثابة مستعمرات لها ليس من حقَّها التطور أو الازدهار،فأجبرت كل الحكومات المتعاقبة في فنزويلا على رهن اقتصادها بالدولار الأمريكي ووضع مدخراتها من العملة الصعبة في البنوك الأمريكية،كما أن النِّظام السِّياسي في البلاد كان عليه أن يوظف أموال بلاده في شراء أصول عينية في الاقتصاد الأمريكي بما فيها الشركات الأمريكية التي كانت على وشك الإفلاس فتمَّ شراء مثلا19مصفاة نفط أمريكية كانت تعاني من مشاكل مالية عويصة وأكثر من16400محطة بنزين،مع اشتراط أن من يديرها ويعمل بها يكونون من الأمريكيين ولا وجود لعامل فنزويلي هناك حتىَّ لو كان مقيماً بصفة شرعية فوق أراضي العمِّ سام،ولكن ومنذ وصول الرئيس هوغو تشافيز إلى هرم السُّلطة واتخاذه مجموعة من الإجراءات الرامية لإعادة الهيبة لبلاده في المحافل الدَّولية،فقام باتخاذ مجموعة من الخطوات التي رأت فيها الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية على حدٍّ سواء تحدٍ لنفوذها على أمريكا اللاتينية.فقام تشافيز بالانسحاب من منظمة الدول الأمريكية ونجح في نقل التجربة اليسارية الاشتراكية البوليفارية لدول عدَّة كالبرازيل والأرجنتين وكولومبيا،كما أنه قام بتأميم أكثر من22شركة أمريكية تعمل فوق الأراضي الفنزولية ومنها شركة إكسن موبيل التي كان رئيسها التنفيذي آنذاك وزير الخارجية الأمريكي الحالي ريكس تليرسون،ورفض المبالغ التي عرضتها الحكومة الفنزويلية لشرائها وخسر وقتها أكثر من10مليار دولار وهو ما يجعله من أشدّ المدافعين على المعارضة الفنزويلية التي تخدم الأجندات الأمريكية،وصرَّح قادتها أكثر من مرة بأنهم في حال فوزهم سيعيدون الامتيازات لشِّركات الأمريكية الكبرى ويتخلون على النهج الاقتصادي الاشتراكي للبلاد،فأمريكا لطالما رأت في الزعيم هوغو تشافيز خطراً يهدد مصالحها الإستراتيجية العليا في فنزويلا،وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي السَّابق باراك اوباما إلى القول:بأنَّ فنزويلا تشكل خطراً استراتيجياً على أمريكا،نتيجة وقوفها إلى جانب القضايا العادلة في العالم ودفاع هوغو تشافيز ثمَّ مادورو المستميت على القضية الفلسطينية والقضايا العربية المحقة وانتقادهم الدَّائم لإسرائيل.إذ قام تشافيز بطرد السَّفير الإسرائيلي من كاراكاس بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ومحاولة الاغتيال التي تعرض لها بتاريخ11أفريل2002والتي بينت التحقيقات الأمنية بأنَّ الموساد والمخابرات الأمريكية من يقفون خلف منفذيها،فالولايات المتحدة الأمريكية لم تسنى لتَّيار اليسار الاشتراكي بأنه سبب الإطاحة بأزلامها في فنزويلا في نهاية ستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي ثمَّ عندما استطاعت أن تسيطر على معظم الطبقة السِّياسية في فنزويلا وحتىَّ الجيش.تمرد ضبَّاط الطبقة الوسطى في المؤسسة العسكرية الفنزويلية وكان منهم هوغو تشافيز والذي قام بثورة داخلية أدَّت إلى أن يسانده الشعب في حركته التغيرية رغم أنه سجن بعد فشله.ولكن ثقافته القومية ذات الطابع الاجتماعي وإيمانه بالقوى الحيَّة لعمال والشعب الفنزويلي أدى بعد ذلك بوقت قصير إلى نجاح ثورته وفوزه بالرئاسة،وأجبر الجيش والمعارضة على القبول بنتائجها وهذا ما أزعج كثيراً السَّفارة الأمريكية في كاراكاس ثمَّ بعد أن تسلم نيكولاس مادورو قيادة البلاد سرعان ما حرضت الولايات المتحدة عملائها من أحزاب المعارضة الفنزويلية في بداية شهر فبراير2014وحدثت مواجهات أدت لمقتل43شخصاً،وقامت واشنطن بإصدار بيان إدانة شديدة لنظام في فنزويلا وتحميله دم الضَّحايا ودون حتىَّ إجراء تحقيقات معمقة حول الحادث،وأكدت في بيانها دعمها الكامل لمعارضة وأهدافها وأهمها إسقاط النِّظام هناك،فالتحركات السِّياسية التي قامت بها المعارضة مؤخراً وادَّعت بأنها دستورية ومنها جمعها لأكثر من1.8مليون توقيع أي أكثر من9مرات ما يطلبه الدستور الفنزويلي من أجل المطالبة العاجلة بإجراء انتخابات رئاسية مسبقة،متجاهلة عمداً بنود الدستور في فنزويلا والتي تؤكد بأنه يجب احترام الآجال القانونية الدستورية في هذه الحالة وتقديم هذه التوقيعات في آجالها القانونية أي شهر يناير/جانفي2016وليس في بداية العام الجاري،وترفض بشدَّة مطالب الرئيس مادورو بإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية وطنية تكون اللبنة الأولى لبناء بلد ديمقراطي حضاري.
-فنزويلا التي تقدِّم مساعدات أسبوعية للأسر الفقيرة تقدر بحوالي6دولار لسَّلة الغذائية الواحدة وهو مبلغ كبير نسبياً في فنزويلا بالمقارنة مع سعر صرف عملتها المتدني جداً،بالإضافة إلى أنها قامت بتنفيذ برامج سكن مجانية ساهمت في خفض مشاكل السَّكن التي تؤرق الشعب الفنزويلي.إذ حتىَّ شهر أفريل2017قامت بتوزيع أكثر من1.6مليون شقة،وبالتالي لو افترضناَ بأن كل عائلة في فنزويلا تضمّ ما بين5إلى6أفراد فإنَّ مشكلة السَّكن قد حلت بالنسبة لأكثر من15مليون شخصاً كانوا بدون سكن لائق،ولكن رغم كل هذه الإجراءات والتحفيزات الاجتماعية وتنفيذ سياسة القيمومة في الزراعة والذي تبناها تشافيز في بداية فترة رئاسته الأولى،ولكن وحسبما يرى الأستاذ جبران عريجي الرئيس السَّابق لحزب السوري القومي في لبنان والذي عاش لفترة طويلة في فنزويلا،فإنَّ المعارضة الفنزويلية محقة في بعض مطالبها إذ لا يجوز برأيه تحميل كل سلبيات ومشاكل فنزويلا إلى أمريكا التي لا ينكر بأنها تسعى جاهدة لإدخالها بيت الطَّاعة والولاء الغربي وتصريحات دونالد ترامب إبَّان حملته الرئاسية قال:بأنَّ الشعوب في كوبا وفنزويلا تحت رحمة أنظمة استبدادية ديكتاتورية قمعية وكذلك في كل أنحاء دورال،ويقصد بذلك دول أمريكا اللاتينية التي لا تسيطر عليها الامبريالية الأمريكية،فالسِّياسات الاقتصادية التي تفتقد لرؤية اقتصادية علمية واستمرار نيكولاس مادورو في تبنيِّ نفس الخطط الاقتصادية التي كانت في عهد سلفه تشافيز،وعدم قراءة المتغيِّرات السِّياسية والاقتصادية والمالية ومنها الانخفاض الحادّ لأسعار الطاقة والأزمة التي تضرب كبريات الاقتصاديات العالمية،كل هذه العوامل التي ركزت عليها المعارضة في حراكها السِّياسي على المسئولين في فنزويلا أخذها بعين الاعتبار والاعتماد على سياسة اقتصادية مرنة تعتمد على الانتقال المرحلي من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الحر التقني،الذي تتحكم في مفاتيحه الدولة المركزية حيث هي من يحدد حجم أرباح الشركات الاستثمارية وأسعار صرف العملات الأجنبية وإشراك أكبر عدد ممكن من الفنزويليين في العجلة الاقتصادية وإنشاء أحلاف عسكرية واقتصادية في القارة الأمريكية ومع دول قوية كروسيا والصين من أجلِ الاستفادة من خبراتها في هذا المجال،وكذلك لمحاولة احتواء النفوذ الأمريكي الذي بدأ في العودة إلى القارة اللاتينية الأمريكية وبالقوة بعد نجاح المخابرات الأمريكية في الإطاحة بالنظام في الأرجنتين والبرازيل وهي الأنظمة الحليفة لكاراكاس،لأنَّ إدارة دونالد ترامب بما فيها ريكس تليرسون ستفعل ما أمكنها لإخضاع فنزويلا وابتزازها مالياً وسياسياً وأكبر سلاح قد تستعمله هو المعارضة الفنزويلية وكذلك استغلال الأزمة الاقتصادية فيها لتأثير على قراراتها السِّيادية لتصبح دولة تابعة تنفذ السِّياسة الأمريكية في القارة اللاتينية كما كانت قبل استلام البوليفاريين الحكم فيها.*كاتب جزائري