علي عبادي
هل العدوان الاميركي على قاعدة الشعيرات الجوية في سوريا مجرد ضربة تهدف إلى تسجيل موقف أميركي وتلبية احتياجات إعلامية وسياسية تفرضها أزمة ترامب الداخلية وإطلالته الخارجية، أم هو خطوة لها ما بعدها تعكس تغييراً في الاستراتيجية الاميركية في سوريا؟
يميل بعضهم الى اعتبارها مجرد تنفيس عن اضطرابات السياسة الأميركية الخارجية والحاجة الملحة لإعادة حشد واستقطاب الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة الذين يودون رؤية قيادة قوية في واشنطن تعبّر عن نفسها بقرارات وخطوات على الأرض تغيّر الانطباع السائد عن تراجع النفوذ الأميركي على المستوى الدولي والذي شاع في عهد باراك اوباما. وهناك من يعتبر القصف على سوريا أيضاً رسالة غير مباشرة الى اطراف عدة على الساحة الدولية: الى ايران التي توجه الادارةُ الاميركية الأنظار اليها على انها سبب "عدم الاستقرار" في الشرق الاوسط، وفق توصيف مسؤولين أميركيين. كما قد يكون رسالة الى الصين التي كان رئيسها يتناول العشاء مع ترامب في فلوريدا عندما أبلغه الاخير شخصياً بخبر الهجوم على سوريا، ومعلوم ان الصين عززت وجودها في قبالة حلفاء لأميركا في جنوب آسيا مستفيدة من تراجع الحضور الأميركي. وقد تكون رسالة الى كوريا الشمالية التي كثفت تجاربها الصاروخية دون الخشية من ردود فعل اميركية.
لكن هذا التفسير لا يكفي لتفكيك مضمون ما قد يكون "الإنقلاب الكامل" في توجهات الإدارة الأميركية حيال سوريا خلال أسبوع واحد. فبعد تصريحات البيت الأبيض ووزير الخارجية ومندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي التي أكدت جميعها ان أولوية واشنطن هي محاربة داعش وان مصير الرئيس الأسد يقرره الشعب السوري، جاءت حادثة الغاز السام في خان شيخون بريف ادلب لتقلب الاستراتيجية تماماً، وليس لإبداء "رد فعل" موضعي، وهذا غير مألوف في السياسة الدولية وفي استراتيجيات الدول الكبرى، خاصة اذا لم يكن الحدث يتعلق بأمنها القومي مباشرة. الآن بات الحديث الأميركي يركز على ضرورة رحيل الرئيس الأسد، متبوعاً بسلسلة خطط واجراءات يبدو انها محضرة مسبقاً، ومنها عقوبات اقتصادية اضافية وقانون أقره مجلس النواب الاميركي يطالب الرئيس بتزويد الجماعات المسلحة في سوريا بصواريخ مضادة للطائرات تُحمل على الكتف والسعي لإنشاء محكمة بشأن "جرائم الحرب" في سوريا. إذن، أصبحت سوريا في صلب الأولويات الأميركية، على حساب السياسة الداخلية واعادة تنظيم الاقتصاد الاميركي وفق مقولة "أميركا أولاً". وأضحت المواجهة مع الحكومة السورية في طليعة الأجندة الأميركية، وليس قتال داعش، كما كان يقول ترامب قبل ايام فقط. ثمة حاجة للتعمق في أسباب أكثر مقبولية لهذا الانقلاب. ويبدو منطقياً التوقف عند إعادة تركيب المسؤوليات في البيت الأبيض لمصلحة الصقور والمجمع العسكري- الامني. هؤلاء كانت أيديهم مقبوضة الى حد ما في أيام الرئيس السابق أوباما الذي كان يحاول عدم الخوض في حرب جديدة في الشرق الأوسط تبعاً لالتزامه مع ناخبيه، ولو أنه تراجع قليلا عن وعده بعدم وضع "أحذية العسكريين" مجدداً على أراضٍ تشهد حروباً في المنطقة. كان موقف اوباما ينبع من مركز قوة، وهو أنه رئيس لديه رؤية واضحة وليست لديه فضائح يمكن ابتزازه بها.
الوضع يختلف مع ترامب الذي يبدو "سويعاتياً" (متقلباً في تصريحاته) الى حد كبير: ليست لديه رؤية للسياسة الخارجية، حتى ان وزيره للخارجية ريك تيلرسون يبدو ضعيف الحضور ومهمَّشاً لحساب طغيان شخصية الرئيس وحتى صهر الرئيس جاريد كوشنر وابنته ايفانكا اللذين يحضران لقاءات رسمية مع قادة أجانب بدون صفة واضحة. زدْ على ذلك ان الرئيس يعاني ملفات فضائحية يمكن ان تشكل خطراً على مستقبله السياسي.
ترامب رهين الجنرالات
ما قد يفسر الحلقة المفقودة في سلسلة إخفاقات ترامب وتقلباته العنيفة هو حاجة مستجدة لديه الى اتخاذ مواقف تماشي توجهات مجموعة النخبة العسكرية – الامنية التي باتت تمسك على نحو غير مسبوق بتوجهات البيت الابيض والى إظهار ابتعاده عن روسيا واستعداده لمواجهتها اذا اقتضى الأمر. الرئيس الأميركي بات رهين مجموعة من الجنرالات الذين يستغلون العطب الكامن في شخصيته المتهورة وجهله بالسياسة الخارجية وعدم وجود سياسيين مخضرمين الى جانبه ويلجأون الى الإفادة مما يُنشر يوميا في الصحافة الاميركية عن ارتباطه بروسيا وعن مشاكله مع صقور الكونغرس من الجمهوريين (آخرها عدم مسايرته في مشروع الرعاية الصحية الذي طرحه بديلاً عن مشروع اوباما) لانتزاع مجموعة قرارات تتعلق بزيادة الموازنة العسكرية 10 بالمئة (54 مليار دولار) على حساب حلم ترامب بتجديد البنى التحتية، وتتعلق كذلك بتصعيد المواجهة مع روسيا وايران.
ويستند هذا التفسير خصوصاً الى التغييرات في فريق ترامب (استقالة او إقالة مستشار الامن القومي مايكل فلين الذي كان على اتصال مع ممثلين عن روسيا خلال الحملة الانتخابية لترامب، وإقالة كبير المخططين الاستراتيجيين ستيفن بانون من عضوية مجلس الأمن القومي وهو الذي كان يفضل إعادة تركيب السلطة في واشنطن بعيدا عن الطبقة السياسية التقليدية)، هذه التغييرات تدفع ترامب الى الإرتهان الى مجموعة من الجنرالات والصقور من السياسيين بعيدا عن شعاراته التي رفعها بشأن تغيير الحكم وإعادته الى الشعب، كما تعهد في خطاب التنصيب. كما يستند هذا التفسير الى الملاحقات وحملة التشكيك التي تهدد مستقبل الرئيس الاميركي، خاصة بعد إبداء فلين الاستعداد للإدلاء بشهادة أمام الكونغرس بشأن الاتصالات مع روسيا مقابل منحه الحصانة من الملاحقة القضائية.
سوريا ساحة الإختبار
المجموعة التي باتت تسيطر على توجهات البيت الأبيض تتبنى مقاربة مناهضة لروسيا بشكل عام، وتعيد إنتاج المناخات الحربية والعدائية في وجه ايران، وهي ترى في الساحة السورية اختباراً لإرادة ترامب في تحدي روسيا والاضطلاع بدور فاعل في قيادة الحلفاء السعوديين والأتراك لتغيير الخارطة الجغرافية - السياسية في المنطقة.
القصف الصاروخي الأميركي على سوريا هو بداية لتوسيع الدور الأميركي الذي يأخذ أشكالاً متعددة ويهدف الى إعادة تركيب سوريا على أسس تقسيمية والسيطرة على الحدود السورية – العراقية ومنع أية قوة منافسة من أخذ دورها في هذه المنطقة. وقد يتطلب ذلك أكثر من جولة نار لرسم خطوط وقائية حول الحضور العسكري الأميركي. وتدل المستجدات الاخيرة مرة اخرى على ان اميركا لا تتبادل الثقة مع روسيا، ولا مع تركيا (هناك مسعى لإعادة تنشيط مطار الطبقة العسكري في الرقة لكي يأخذ محل قاعدة انجرليك التركية) ولا مع أي قوة سورية محلية، بل ان القادة الاميركيين لا يدركون حجم المناخ العدائي المحيط بهم، مهما تلونوا بذريعة "الدفاع عن الأطفال" في خان شيخون او محاولة إرضاء اي طرف بإطاحة الرئيس السوري من الحكم.
المصدر: العهد الاخباري