خليل صويلح
«أدرك التعب القافلة/ فمزيداً من التعب». هذه المرّة أنهى الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور (1946ـــ 2017) الرحلة فعلياً، وليس على سبيل المجاز. انطفأ فوق تراب أرضه الأولى. رحلة مضنية قذفته باكراً من فلسطين النكبة إلى مخيّم اللاجئين في مدينة حمص السورية.
وسوف تتشكّل ذاكرته عن حيفا من حكايات الآخرين في المخيّم الذي كان بمثابة فلسطين مصغّرة، قبل أن يحتل بنفسه كرسي الحكواتي ليقرأ لأهالي المخيم فصولاً من حكاية الزير سالم. سوف تسحره الأشعار المكتوبة في السيرة، ليجرّب لاحقاً الكتابة على منوالها. لكن معلم العربية في المدرسة، سيلفت انتباهه إلى ضرورة تعلّم الأوزان الشعرية.
هكذا وجد «الولد الفلسطيني» نفسه في مخاضٍ آخر، خصوصاً إثر تعرّفه إلى موريس قبق، أحد أكثر شعراء حمص رهافةً وشفافية وموهبة. وما إن اكتشف خليل حاوي (1919 ـــ 1982) حتى وقع تحت تأثيره. هذا ما يبدو واضحاً في مجموعته الأولى «الضواري وعيون الأطفال» (1964)، إلى أن انخرط بهموم المخيّم ومعنى أن يكون الشعر جماهيرياً تحت سطوة مصطلح «شعراء الثورة» في مواكبة فترة الكفاح المسلح.
لكن قصيدته الأخرى ستجد بوصلتها على مهل، عن طريق مزج الملحمي بالشعبي، مشكّلاً غنائيته المحمولة على وجعٍ شخصي، فهو أحد الذين خبروا عن كثب معنى أن تولد في مخيّم، وأن تعيش في عراء العزلة. يقول: «كان لوالدي الشيخ مهنة غريبة، فقد كان يغسل الأموات ويقدّمهم للدفن، وكان يسحّر في رمضان، ويقرأ القرآن على القبور، وكان هذا يعطي انطباعاً في المخيم أنّنا أسرة على علاقة وطيدة بالموت، وكنا فقراء إلى حد يصعب وصفه، ويمكن القول إنّنا كنا أفقر أسرة في المخيم».
في حقبة لاحقة، سينخرط في تجربة أكثر التصاقاً بالذاكرة الشعبية الفلسطينية، عبر كتابة نصوص أغاني «فرقة العاشقين» بالتعاون مع الموسيقار حسين نازك، مستمداً نسغ عاميته مما كانت تردّده جدته العمياء في ليالي وحشتها. وستحظى أغنية «والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر» بشعبية لافتة، وبدت كما لو أنها أغنية فولكلورية فلسطينية. وسيكتب أشعاراً لمسرحية «المؤسسة الوطنية للجنون» عن نصّ لسميح القاسم، وإخراج فواز الساجر. كما سيكتب سيرة «عز الدين القسّام» في مسلسل تلفزيوني أخرجه هيثم حقي بالعنوان نفسه (1981).
هكذا التفت هذا الشاعر الشفيف إلى ترميم صورة فلسطين في مرايا أخرى، تعمل على تأصيل الذاكرة وثقافة المكان بإزاحة الغبش عن تاريخ البلاد المنكوبة، فيما تراوحت قصيدته بين الحماسة والتجريب، والاتكاء إلى الموروث الأسطوري والمقدّس، من دون أن يفارقها شقاء المخيّم. وربما لهذا السبب بقي اسمه في الشوارع الخلفية للمدوّنة الشعرية الفلسطينية... هذه المدوّنة التي اكتفت بحفنة من شعراء الواجهة، بصرف النظر عن تنويعات المشهد، فيما توارى شاعرنا إلى موقع «شعراء الظل» لجهة الشهرة والحضور الإعلامي بالمقارنة مع محمود درويش وسميح القاسم، مراهناً على الصدق وحده في تأكيد فلسطينيته التي لم يساوم يوماً على تمزيق خريطتها «فلسطين ليست فلسطين إلا إذا طُلبت كاملة». لكنه سيعود مرغماً من تعب المنافي إلى ما تبقّى من فلسطين «الجزء المتاح من الوطن»، وسيختار غزّة أولاً، مكاناً لهجرته الأخيرة، نظراً إلى قربها من حيفا التي لم تفارق ذاكرته يوماً. وستتاح له فرصة استثنائية لزيارة حيفا بتصريح مؤقت. بدا خلال الزيارة كمن في حلمٍ مستحيل، وهو يجول في البيت الذي ولد فيه، ويتفقّد الأمكنة التي سمع بها من دون أن يراها، والشوارع المفتوحة على البحر، إذ لطالما ردّد بشجن «كل حيّ وله حيفاه، إلا أنت دون حيفا».
في سنواته الأخيرة، دأب هذا الشاعر «المقيم المسافر» وفقاً لعنوان إحدى قصائده على ترويض حماسته الشعرية نحو ما هو تأملي، بنبرة هامسة تنأى عن صخب نصوصه القديمة ونزعتها الغنائية العالية، وبمقترح شعري مختلف يتطلّع إلى إعلاء شأن الملموسات، واكتشاف قوة الهامش: «تطلب الياسمينة ماء، ولا ماء. لا ضوء يكفي ليغسل وجه المكان. تضمر المزهرية، والعطر يرسله الياسمين إلى لا أحد. وكأن الزمان يتجعد في المزهرية. لو جاءت المرتجاة لهشّ لها. وانفرد. لم تجيء. لم تضيء شمعة. لم تمرّ على المزهرية، منّا يدان. كل ما كان أني هنا وهناك. جفاء ذهبت مع الياسمين، ويمكث حيث تركت، الزبد».
في مراجعة تجربته الشعرية الطويلة بزخمها وشفافيتها، سننتبه إلى اعتنائه الاستثنائي بأهمية الإيقاع في تأثيث الصورة الشعرية بما يشحنها درامياً وبلاغياً في آنٍ واحد، ويضعها في مقامٍ آخر، بناء على قناعته بأنّ «الشعر عدو الطمأنينة». رحل الشاعر الأليف في رام الله بعد مكابدات طويلة مع مرض الفشل الكلوي، وهو يرنو إلى حيفا، مردّداً «في قلبي جياد خاسرة».
عن الاخبار اللبنانية