العديد من وسائل الاعلام تتحدث عن تغيير في السياسة الامريكية تجاه سوريا وعلى وجه الخصوص في الموقف من الرئيس الدكتور بشار الأسد. وهذه الاستنتاجات ارتكزت على التصريحات الأخيرة لكل من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيليرسون وكذلك سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي.
فقد كان أن صرح تيليرسون في أنقرة وأثناء المؤتمر الصحفي مع نظيره التركي أوغلو من " أن وضع الرئيس الأسد على المدى البعيد سيقرره الشعب السوري". اتبع هذا التصريح بتصريح هيلي من أن سياسة بلادها في سوريا لم تعد تركز على إزاحة الرئيس بشار الأسد. وقالت لمجموعة من الصحفيين " يختار المرء المعركة التي يريد خوضها....وعندما ننظر الى هذا الامر نجد أنه يتعلق بتغير الأولويات وأولوياتنا لم تعد التركيز على اخراج الأسد".." أولوياتنا هي كيفية انجاز الأمور ومن نحتاج للعمل معه لإحداث تغيير حقيقي للناس في سوريا"..." لا يمكننا بالضرورة التركيز على الأسد بالطريقة التي فعلتها الإدارة السابقة". أما المتحدث باسم البيت الأبيض فقد ذكر في بيان صحفي أنه " فيما يتعلق بالأسد، هناك واقع سياسي علينا أن نقبله ....في ما يخص موقفنا الان ينبغي أن نركز الان على هزيمة تنظيم داعش".
من الواضح ان هناك انسجام كامل في المواقف بين أركان الإدارة السياسية على الأقل وهو ما كان مفقودا أيام إدارة الرئيس أوباما، حيث كانت تصريحات السفيرة الامريكية سامنثا باور تخلف تصريحات وزير الخارجية كيري وخلاف أيضا بين البنتاغون والبيت الابيض. ولم يكن من المستغرب ان يتبع هذه التصريحات تصريحات منسجمة الى حد ما مع الموقف الأمريكي من قبل فرنسا وبريطانيا فالأمريكي هو المايسترو الذي يحدد النغمة والاغنية وعلى الأوروبيين أن يتبعوا خطواته في التانغو السياسي. فقد دعا وزير الخارجية الفرنسي الى "عدم التركيز فقط على مصير الرئيس السوري في إطار المساعي للتوصل الى تسوية في سوريا".
أولا ما نود ان نؤكد عليه أن المسار الذي تنتهجه إدارة ترامب فيما يخص الرئيس الأسد ليس مغايرا لسياسة إدارة أوباما كما يحلو لبعض وسائل الاعلام الامريكية تصويره. فعلى سبيل المثال ذكرت صحيفة انترناشيونال بيزنس تايمز (31 مارس 2017) " ان الولايات المتحدة أعلنت تغيير في سياستها في سوريا ولم تعد تصر على رحيل الرئيس بشار الأسد" واعتبرت الصحيفة أن هذا يشكل " انحرافا واضحا عن موقف إدارة أوباما ومعاكس لسياسة الاتحاد الأوروبي وعلى أن الولايات المتحدة تتحرك الان للتركيز على محاربة تنظيم داعش".
المتتبع لمواقف الإدارة الامريكية أثناء رئاسة أوباما يستطيع أن يرى التغيير في مواقفها منذ بدأ الازمة السورية عام 2011 الى ما قبل نهاية الإدارة. فالعبارة التي كان يطلقها أوباما وبكل وقاحة وعجرفة في بداية الاحداث من أن على الرئيس الأسد أن يرحل وعلى أنه فقد شرعيته وكأن الإدارة الامريكية هي من تعطي الشرعية أو تحرمها كما كان يفعل البابا "بصكوك الغفران والحرمان" في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا. هذا الموقف للإدارة تبدل في النهاية للأسباب التي بات يدركها الجميع، الى "القبول" مكرهة ببقاء الأسد (ما زال الموقف متعجرف) وأن مصيره سيحدد من خلال المباحثات والانتخابات الحرة التي ستجرى حال انتهاء الازمة السورية وتكوين حكومة توافق وطني.
إدارة أوباما أكرهت على تقبل الواقع الميداني والسياسي في سوريا في نهاية الامر. هذا الواقع الذي أفرزه الصمود الأسطوري للثالوث المقدس الشعب والجيش والقيادة في سوريا المدعوم من الحلفاء والأصدقاء المخلصين وعلى كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية. الإدارة السابقة أدركت هذا بعد فشل أدواتها وعملائها وجميع حثالة الأرض من الإرهابيين الذين جمعوا من أكثر من ثمانين دولة بحسب مصادر أجهزة الاستخبارات الغربية ومئات المليارات الخليجية التي دفعت لإسقاط الدولة السورية. والادارة الجديدة أخذت من حيث تركت إدارة أوباما فالمتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض أقر بان "هناك واقع سياسي علينا أن نقبله". الرئيس أوباما قال بأن أولوية ادارته هي محاربة داعش والسيد كيري قال " على السوريين أنفسهم أن يقرروا ماذا سيحدث للأسد. هم المفاوضون وهم من سيقرر مستقبل سوريا" ( AP 25 Jan 2016). وهذا بالضبط ما قاله وزير الخارجية الجديد تيليرسون في أنقرة. فأين هو الجديد الذي يطبل ويهلل له البعض؟
وبالتالي الامر لم يمثل "انحرافا واضحا" عن المسار الأخير للإدارة السابقة نهائيا والتي حاولت ومنذ البداية شخصنة الصراع وحصره في بقاء الرئيس الأسد أو تنحيه عن السلطة ضمن السياسة الخارجية للولايات المتحدة "تغيير الأنظمة" التي مورست على العلن منذ تولي بوش الابن للرئاسة. نقول علنا لان الدور القذر الذي لعبته الولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها كان في السابق دورا "خفيا" أو دون الإعلان عنه على الملأ على الاقل. ولا نريد ان نستطرد هنا بل نقول على سبيل المثال اسقاط حكومة مصدق في خمسينات القرن الماضي في إيران واسقاط حكومة الليندي في تشيلي في بداية السبعينات وغيرهم كثيرون.
الإدارة الجديدة أدركت أنها لا تستطيع أن تفعل في سوريا ما لم تستطع أن تفعله الإدارة السابقة وأن الولايات المتحدة لم يعد بإمكانها أو هي قد فقدت قدرتها على أن تقيم أنظمة وتقعد أخرى في المنطقة. وهو اعتراف رسمي على مضض طبعا بأن جميع الجهود التي بذلتها الدول الغربية في سوريا للإطاحة بالدولة السورية وتغيير النظام قد باءت بالفشل، الى جانب القبول بان هناك لاعبين أخرين في المنطقة لهم ثقلهم ووزنهم الفاعل ولا يمكن تجاوزهم كما كانت تفعل في السابق عندما كانت الساحة الإقليمية والدولية تسرح وتمرح بها الولايات المتحدة بلا منازع أو رادع.
الإدارة الجديدة تأتي لتكملة مسار الإدارة القديمة وذلك بتعزيز موطىء قدم على الأرض السورية وبالتحديد في الشمال السوري حيث أقامت ما يقرب من ستة قواعد عسكرية في المناطق التي تسيطر عليها وحدة حماية الشعب الكردية الى جانب سعيها للسيطرة على الرقة في "حربها" على داعش وبالتالي اقتطاع جزء من شرقي سوريا ان أمكنها ذلك بالاعتماد على "قوات سوريا الديمقراطية" والتي في معظمها من وحدة حماية الشعب الكردية التي طعمت بقوات تركمانية وسريانية وعربية لتغطية الطابع الكردي المؤيد لأمريكا لهذه القوات. وهذه القوات كانت قد أنشأتها المخابرات المركزية الامريكية في أكتوبر عام 2015 في الشمال السوري بهدف تقطيع الوطن السوري. وقامت الإدارة الجديدة بزيادة ليس فقط المستشارين الأمريكيين في الأراضي السورية بل قامت بزيادة عدد القوات الخاصة من الجنود الأمريكيين أيضا في الشمال السوري الى جانب عملية إنزال لجنود المارينز حول مدينة الطبقة لتقديم الدعم لقوات سورية الديمقراطية هناك وقطع الطريق على تقدم الجيش السوري الى الرقة لتحريرها من داعش.
الإدارة الجديدة وضعت في أولوياتها محاربة تنظيم داعش الإرهابي في الساحة السورية وقامت بإدخال الجنود الأمريكيين الى الأراضي السورية كما كان الحال مع الإدارة السابقة دون تنسيق مع الدولة السورية مما يشكل اعتداء على السيادة السورية وهذا أيضا استمرارية لسياسة الإدارة السابقة. إذا ما كانت الإدارة الجديدة عازمة على حد قولها على محاربة الارهاب في سوريا فمن الضروري أن تنسق مع الدولة السورية والجيش السوري القوة الفاعلة والذي أثبت قدرته على محاربة تنظيم داعش وأخواته من الإرهابيين على الساحة السورية وكذلك عدم الاكتفاء بالتنسيق السلبي مع القوات الروسية لتفادي عملية الاصطدام سواء في الجو أو على الأرض.
محاربة الارهاب يجب أن لا يقتصر على محاربة داعش بل يجب أن يشمل النصرة الموضوعة على لائحة الارهاب الدولية وكذلك كل التنظيمات التي تحارب تحت رايتها. وإذا ما كانت الإدارة الجديدة جادة في محاربة الارهاب فان عليها تجفيف منابع الارهاب الفكرية والمالية الاتية من دول الخليج العربي وخاصة تلك الاتية من السعودية وقطر والامارات. وأن تضع الضغط على تركيا لإقفال حدودها بالكامل أمام دخول الإرهابيين وإدخال المساعدات والأسلحة الى الساحة السورية.
ولكن من الواضح أن الإدارة الجديدة كغيرها من الإدارات تعتبر صفقات الأسلحة لدول الخليج خاصة ومليارات الدولارات من الأرباح التي يحققها المجمع الصناعي العسكري الأمريكي تأتي في مقدمة أولوياتها. أما حقوق الانسان فلا تتواجد في لائحة الأوليات لأنها لا تدر لا ذهبا ولا مليارات الدولارات عند الطلب. ويكفي أن ننظر الى أطفال اليمن الذين تحولت أجسادهم هياكل عظمية تنتظر الموت بسبب الدعم الأمريكي المتواصل للهمجية السعودية. وكأن هذا لا يكفي فقد قامت إدارة ترامب برفع القيود التي وضعتها إدارة أوباما على بيع الأسلحة الى البحرين بسبب عدم احترام حقوق الانسان من قبل النظام والممارسات والسياسات التعسفية للمعارض السلمية البحرانية والقمع الوحشي للتظاهرات السلمية هناك. مزيد من البترودولار الى جيوب المجمع الصناعي العسكري الأمريكي والخزينة الامريكية ووداعا وطلاق كاثوليكي لحقوق الانسان واستخدامه لوضع القيود مهما كانت بسيطة أمام تجار الدم ودعم للأنظمة القمعية التي تحكم بالسيف وقطع الرقاب في المنطقة.
وأخيرا نؤكد ان رموز إدارة الرئيس ترامب تحدثوا عن تغيير في الأولويات وهذا كما أوضحنا له أسبابه. ولا شك ان الوقائع الميدانية هي التي فرضت تغيير الأولويات ولكنها لم تغير من طبيعة الاجندة الامريكية ولو تمكنت القوى المعادية للدولة السورية من تحقيق أية مكتسبات حقيقية يمكن صرفها سياسيا لرأينا تبدلا في الأولويات. وبالتالي لا يمكننا الرهان على هذه الإدارة التي وأن بدا للبعض أنها مختلفة شكلا الا أن المحتوى والمضمون يبقى واحدا لأنه ببساطة أن من يدير السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل عام هي المؤسسة الامريكية وليس الرئيس. فكم من الوعود أطلقت أثناء الحملة الانتخابية لترامب ولكنه في النهاية رأى ان المؤسسة الامريكية لن تسمح له بذلك. وثانيا التجارب اثبتت أن السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الأوسط تحاك في الكيان الصهيوني واللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة وعلى رأسها منظمة AIPAC .
سياسة الإدارة الجديدة في البيت الأبيض ما هي الا استمرارية لما كانت عليه الإدارة السابقة للرئيس أوباما ان لم تكن أكثر جرأة ومجاهرة ومغامرة لا تأبه بالنتائج أو الارتدادات وخاصة مع وجود الصقور من حوله وعشعشة المحافظين الجدد في المؤسسة الامريكية وتأثيرهم في السياسة الخارجية ونزعتهم العدوانية والمغامرة التي بدأت بالنمو منذ عهد الرئيس ريجان في ثمانينات القرن الماضي الى أن تمكنت من مفاصل القرار الأمريكي.
لا جديد في لسياسة الخارجية الأمريكية تجاه سوريا!!
2017-04-03
كتب الدكتور بهيج سكاكيني