إيلي حنا
في المضمون والخلفيات، لا يُعتبر تصريح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأنّ «الشعب السوري هو من سيحدّد مصير الرئيس بشار الأسد» مفاجئاً أو مخالفاً للتوقعات. عدلت واشنطن عن أولوية إسقاط النظام منذ فشلها في تحقيق ذلك في سنين الحرب الأولى. ثم جاء التدخّل العسكري الروسي، وتبعاته، ليُنهي هذا «البند»، ويأخذ إطار الاشتباك الأساسي نحو تحديد أحجام كل القوى في ظلّ وجود الأسد رئيساً في دمشق.
اليوم، لا تبحث (ولا تستطيع) واشنطن عن هوية الجالس في قصر المهاجرين. هي جاءت بالمئات من قوّاتها المدعومين بقواعد جوية داخل سوريا وجوارها، وبالآلاف من المقاتلين المحليين المدرّبين لتقيم منصة عسكرية تحمي مشروعها السياسي والأمني في سوريا والمنطقة.
أصبحنا في مرحلة لم يعد الوكلاء قادرين على إتمام المهمة وحيدين، وحضور الأصيل يشكّل نتيجة للإنجازات الأخيرة للجيش السوري وحلفائه، خصوصاً مع حسم معركة حلب. الأطراف الأساسية المعادية لدمشق لم يعد لديها رهانات جدية لإحداث تغيير جذري في موازين القوى، كذلك فإنّ أغلب نقاط الارتكاز الأساسية في الساحة السورية بيد دمشق وحلفائها.
هذه المعادلة رتّبت شراكة بين الأصيل والوكيل، بعدما بدأت الأطراف المعادية للدولة السورية بالتعامل مع «انتصار» الطرف الآخر كحقيقة واقعة، لذلك تحاول واشنطن بلورة خيار ما بين عدم وقوفها مكتوفة الأيدي وعدم انخراطها بالشكل «الروسي» في المعركة، لذا نراها تشارك بقدر مدروس عبر ضخّ جرعات عسكرية تحصّن فيها «ساحتها» وتواصل قضم الأراضي من «داعش».
وتحت عنوان «هزيمة داعش»، تصاعدت وتيرة وراثة التنظيم الارهابي. وبالذراع القوية المتمثلة بالقوات الكردية وحلفائها، أضحى لـ«المارينز» ممرّ من العراق إلى منبج في ريف حلب الشرقي.
لذلك، رُسمّت منطقة النفوذ شمال الفرات، وكان «اتفاق منبج» إشارة أميركية ــ روسية لأنقرة بحجم «حدودها» في مثلث جرابلس الباب أعزاز، ولتكون مدينة دير الزور القابعة على تخوم النهر معركة مؤجلة حالياً بالنسبة إلى الجميع.
إذاً، دخلت سوريا مرحلة جديدة من الحرب. مرحلة تبتعد أكثر عن المعارك بأبعادها العسكرية لتتجه إلى الحرب السياسية. فمع اقتراب مرحلة أفول الحرب بالوكالة، لم تعد «فوضى» الجبهات المفتوحة مسألة أساسية. عملية ترسيم حدود جرت وتتواصل بين العواصم المتدخّلة. ولعلّ اللاعب الروسي هو الأكثر مشاركة وفعالية، وهو «يستدرج» عروضاً من الأطراف كافة: يستمع إلى التركي والأردني والإسرائيلي والسعودي. يأخذ ما يناسبه من الجميع. يغري واشنطن في أماكن ويحثّها على «الشراكة» في أماكن أخرى. لا يريد خسارة أحد بشروطه.
ولعلّ إنزال مطار الطبقة الأخير خير دليل على «الرضى» الروسي. لا مشكلة لدى موسكو في رؤية الأميركيين في الرقة. أكثر من ذلك، لم «يُغطِّ» الرغبة الإيرانية والسورية في الانتقال من ريف حلب الشرقي (بعد الوصول إلى غربي ضفة نهر الفرات) إلى الطبقة عبر مسكنة.
مصادر في «قوات سوريا الديمقراطية» تشير إلى تفاجئها بالخطة الأميركية في القيام بإنزال قرب مطار الطبقة جنوبي الفرات. يعلم القيادي أنّ «حدود قواته» بالتعاون مع الأميركي هي شمال الفرات. في النتيجة، أقفلت واشنطن الطريق على السوريين وحلفائهم نحو المدينة الرقّاوية.
الاتفاق الأوّلي بخطوطه العريضة بين واشنطن وموسكو يشير إلى تقاسم النفوذ شمالي نهر الفرات وجنوبه: منطقة الجزيرة وصولاً إلى محافظة الرقة منطقة عمليات وتثبيت أميركية. ومن الجزيرة إلى الحدود العراقية، حيث ترفض الإدارة الأميركية أي حضور «خصم» لها، تتعامل مع احتمال تعاون «الحشد الشعبي» مع القوات السورية كأنّه خطّ أحمر. واشنطن تنظر إلى الساحتين العراقية والسورية كساحة واحدة وتقيم حساباتها على هذا الأساس.
وفي هذا السياق، لا صلة لاجتماعات «جنيف 5» المتواصلة بأرض الواقع. عندما ينتهي التموضع الأميركي في سوريا يبدأ البحث عن الحل. موسكو ودمشق والحلفاء يعملون على أن يكونوا جاهزين في تلك الفترة، عبر محاولة الحد من التأثير السياسي للمنجزات الميدانية الأميركية. في المحصّلة، كان الأميركي يريد كل سوريا، وهو الآن يحارب في جزء من الساحة. وزير الخارجية الأميركي كان واضحاً أمس حين قال من أنقرة «ما ناقشناه اليوم هو الخيارات المتاحة لنا. إنها خيارات صعبة. ولأكن صريحاً للغاية... إنها ليست سهلة... إنها خيارات صعبة يجب أن نتخذها».
موسكو، أيضاً، تنظر إلى ما بعد المعركة. تبحث عن طاولة سياسية تجلس على كرسيّها الأول بوصفها «سيدة البيت». وقد يكون توصيف «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب للمرحلة السورية الحالية بـ«مرحلة تشكيل الوجه السياسي لسوريا المستقبلية» دقيقاً جداً. الكل قابض على أوراقه ليرميها دفعة واحدة يوم تُعلن «سوريا خالية من الإرهاب».
المصدر// الاخبار اللبنانية