طرحت الأحداث المتعاقبة في اليمن، وفقدان إيران وحليفها الحوثي مناطق استراتيجية في منطقة باب المندب، وانتهاجها أسلوب شن هجمات بحرية تستهدف البوارج الحربية لكل من الولايات المتحدة والإمارات والسعودية، التساؤلات عن أهمية هذا المضيق الحيوي بالنسبة للأطراف الفاعلة في المنطقة والعالم.
فبعد سلسلة الهجمات الحوثية، والتي كان آخرها استهداف فرقاطة عسكرية سعودية، قررت الولايات المتحدة الأمريكية إرسال مدمرة إلى منطقة باب المندب، رداً على رسائل إيران البحرية، لا سيما أن واشنطن حمّلت طهران مباشرة مسؤولية الاعتداءات البحرية التي يرتكبها الحوثيون.
يعد البحر الأحمر من أهم الممرات المائية في العالم، ويكتسب مدخله الجنوبي؛ باب المندب، أهمية دولية كونه طريقاً حيوياً تشقه ناقلات النفط في طريقها من منابع الجزيرة العربية وإيران إلى القارة العجوز والعالم الجديد، عبر قناة السويس، ويقدر عدد السفن وناقلات النفط العابرة من مضيق باب المندب بالاتجاهين 21000 سفينة، تساوي بحسب بعض المصادر، 30% من حمولات النفط في العالم.
ولعل في تمسك فرنسا بعد خروجها من أكثر مستعمراتها، بقاعدتها البحرية في جيبوتي، مؤشراً بالغ الدلالة إلى الأهمية التي توليها لباب المندب. وفي عصر الحرب الباردة تناوبت القوتان العظميان في حينه محاولة السيطرة على هذا المضيق من خلال الوجود الشيوعي في اليمن الجنوبي وفي إثيوبيا، التي أزاح شيوعيوها في سبعينات القرن الماضي الإمبراطور هيلاسلاسي رجل أمريكا القوي في شرقي أفريقيا، فيما تحتفظ أمريكا الآن بقاعدة عسكرية في جيبوتي، تتضمن نحو 4000 جندي أمريكي، وتستخدمها في إطلاق طائرات من دون طيار إلى اليمن ومنطقة القرن الأفريقي، في إطار حربها على الإرهاب.
ولأن أحكام الجغرافية دوماً أبقى من تقلبات التاريخ فإن الحرب الباردة تلك ما تزال مستمرة بأبطال جدد هذه المرة.
- إيران هنا
إيران الساعية إلى ترسيخ نفوذها الإقليمي نفذت إلى شاطئ البحر الأحمر من خلال الحليف الحوثي الذي استطاع الوصول إلى ميناء الحديدة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، مذكراً بنبوءة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي التي قال فيها، قبل أشهر، إن هدف الحوثيين هو الوصول إلى البحر الأحمر، وإن السيطرة على باب المندب تغني عن امتلاك قنبلة نووية. في إشارة لا تخفى إلى إيران ومشروعها النووي.
ولا ريب أن هذه الخطوة كانت إضعافاً للخطط الخليجية، ولا سيما الإماراتية، للخروج من مأزق سيطرة إيران على مضيق هرمز من خلال إنشاء موانئ تصدير جديدة في سلطنة عمان، كما أنها تمثل نوعاً من التطويق للسعودية من الجنوب، بعد أن أصبحت لها الكلمة العليا في العراق الجار الشمالي للملكة.
وضمن الاستراتيجية الإيرانية للتوسع في شرقي أفريقيا، فإن لإيران وجوداً في الطرف الآخر للمضيق الواقع في دولة إرتريا، وهو وجود يلفه نوع من الغموض الناتج عن تكتم الطرفين عليه، ففي مايو/ أيار عام 2008، قام الرئيس الإرتري بزيارة إلى طهران، ووقع الطرفان عدة اتفاقيات لتقوية التعاون بين البلدين في مجالات التجارة والاستثمار.
ورغم النفي الرسمي الإرتري، فإن ثمة تقارير غير مؤكدة عن مصادر في المعارضة الإرترية عن احتفاظ إيران بوجود عسكري في منطقة عصب، مقابل تزويد إرتريا بالنفط الإيراني بسعر مخفض، ويرى باحثون أن إيران استفادت من وجودها في المنطقة لتدريب المقاتلين الحوثيين وتأهيلهم عسكرياً، بالإضافة إلى تهريب السلاح إلى داخل اليمن.
وعلى ما يبدو فإن إرتريا كانت تحاول من خلال هذا التقارب التأثير على إسرائيل للحصول على مساندتها، عسكرياً وسياسياً، أمام جارتها اللدود إثيوبيا.
- إسرائيل أول الواصلين
رغم النفي الإرتري الدائم لوجود إسرائيلي أمني واستخباراتي على الأرض الإرترية، لكن الكثير من اللغط يدور حول هذا الوجود، ولا سيما في ضوء العلاقات التي توصف بالمميزة بين البلدين بعد استقلال إرتريا، والزيارات المتبادلة، ولا يغيب عن الذهن مقولة بيريز المشهورة، في تسعينات القرن الماضي: "لقد ربحنا أصدقاء جدداً"، قاصداً الرئيسين الإرتري أفورقي، والرئيس الإثيوبي السابق زيناوي.
ومما رشح من مصادر إعلامية أن ثمة وجوداً إسرائيلياً عسكرياً استخباراتياً على مدخل البحر الأحمر في أرخبيل دهلك وميناء مصوع، لمراقبة المضيق الفائق الأهمية للدولة العبرية، ومحاولة النفوذ إلى منطقة شرقي أفريقيا التي يوليها الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي أهمية منذ نشوء الكيان، التي تمثلت واقعياً في جهوده في دعم الجبهة الشعبية لتحرير السودان التي تكللت بانفصال دولة جنوب السودان، وقد وصف بيريز ولادتها "بالعلامة الفارقة في تاريخ الشرق الأوسط"، مع مسارعة إسرائيل للاعتراف بها بعد يوم واحد من إعلان استقلالها، وكان حصاد ذلك كله إقامة جنوب السودان علاقات على أكثر من صعيد مع الدولة العبرية، كما أن الأخيرة كانت تسعى من خلال هذا الوجود إلى غايات منها رصد النشاط الإيراني في شرقي أفريقيا، ومحاولة إحكام الحصار على النظام الإسلامي في السودان، صاحب العلاقة التي وصفها أحد وزرائه بـ"المثالية" مع إيران، التي طالما اتهمتها الدولة العبرية بتهريب السلاح المرسل إلى غزة عبر البحر الأحمر إلى السودان، الذي طاله القصف الإسرائيلي للحجة ذاتها أكثر من مرة.
- تركيا القوة الناعمة
كما أن تركيا لم تكن بعيدة عن هذا المشهد والقوى المتنافسة فيه؛ فبجانب علاقاتها القوية مع السودان، فقد قام السيد داود أغلو بزيارة إلى إرتريا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، وأجرى محادثات مع مسؤوليها، وبعد ذلك بعام افتتحت السفارة التركية في إرتريا واعتُمدت السفارة الإرترية في الدوحة ممثلاً في أنقرة، وفي أغسطس/ آب الماضي بدأت الخطوط الجوية التركية تسيير رحلات منتظمة بين إسطنبول وأسمرا.
ومن بوابة النشاط الاقتصادي والإنساني الإغاثي، دخلت تركيا حلبة التنافس في تلك المنطقة ولا سيما في الصومال، وقد تمكنت شركة تركية من الفوز في سبتمبر/ أيلول 2014 بعقد لإدارة ميناء مقديشو لعشرين عاماً، مما يرسخ النفوذ التركي في تلك المنطقة بشكل أكبر.
- العرب الحضور أخيراً
يندرج في هذا السياق الاتفاقية العسكرية التي عقدتها الإمارات أواخر 2014 مع دولة الصومال، بهدف تعزيز التعاون الثنائي في "الشؤون العسكرية" بين البلدين.
وفي وسط هذا التنافس الدولي على الوجود وترسيخ الوجود في تلك المنطقة الحيوية، تأتي العاصفة الخليجية التي فتحت صفحة جديدة في التعاطي مع واقع هذا التنافس، وتبقى مآلات هذا التدخل مرهونة بمجموعة من العوامل والتوازنات الإقليمية والدولية.