حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة اندري كارلوف، مُركّبة وشديدة التعقيد. تختزن وتختزل من المعاني والدلالات والأبعاد الكثير منها، وتطرح من التساؤلات أكثر ممّا تقدّم من إجابات.
حادثة الاغتيال غير مسبوقة، فهي أول اغتيال لسفير أجنبي في تركيا منذ بداية تاريخها الحديث عام 1923. في عام 1942، جرت محاولة لاغتيال السفير الألماني فرانز فان بابين ولم تنجح. في عام 1971 اغتيل قنصل اسرائيل في اسطنبول افرايم إيلروم.
والاغتيال هو الحادثة الثانية خلال سنة تقريباً ضدّ مصالح روسيا في تركيا تحديداً. الأولى كما هو معروف إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني 2015.
الدلالة الثالثة أن الحادثتين قد نُفذتا بيد الدولة التركية، سواء بعلمها أو من دون علمها. ففي المرة الأولى، صرّح رئيس الوزراء التركي حينها أحمد داود أوغلو أنه أعطى بنفسه أوامر إسقاط الطائرة. أي أن الدولة تعترف على لسان أرفع مسؤوليها بمسؤوليتها.
وفي حالة اغتيال السفير الروسي، فإن الجاني، مولود ميرت ألتين طاش، شرطي ينتمي لجهاز القوات الخاصة التركية. وكان في مهمّة رسمية ومسدسه مُرخّص له ونفّذ الاغتيال بصفته الرسمية، ولم يكن متنكراً أو مرتدياً ثياباً مدنية بمعزل عما إذا كان الاغتيال عملا فرديا أو بقرار رسمي.
تطرح عملية الاغتيال تحديات كثيرة أمام السلطات التركية. وهي منذ اللحظة الأولى حاولت أن تتنصّل من العملية وتنأى بنفسها عنها عبر الإعلان أن الجاني ينتمي لجماعة فتح الله غولين و..عفا الله عما مضى. شمّاعة الانتماء إلى جماعة غولن تُشكّل مخرجاً لكل الارتكابات التي تُريد السلطة أن تبرئ نفسها منها.
وقد حاولت أنقرة أن تؤكد براءتها، وأن لا شيء تُخفيه بأن تجاوبت مُباشرة مع الطلب الروسي لمشاركة مُحقّقين روس في التحقيقات، وبالفعل وصل وفد أمني قضائي وجنائي روسي، وباشر بمهمّاته من الوقوف عند وضع جثّة السفير المغدور إلى معاينة مكان الحادثة في مركز الفنون المعاصر في منطقة تشانقايا في أنقرة.
أرادت أنقرة أن تتحلّل من مسؤولياتها. لكن التحقيق يطرح عدداً من التساؤلات التي يُمكن أن تفضي، إذا كان التحقيق جدياً أن توصل إلى طرف الخيط.
من ذلك وأهمها: لماذا أردى البوليس لاحقاً القاتل قتيلاً ولم يُحاول القبض عليه حياً؟ فالمكان الذي حوصر فيه القاتل محدود، وليس مبنى مُتعدّد الطبقات أو متداخلا عمرانياً. وكان بالإمكان إطلاق النار على رجليه أو أي مكان آخر من جسمه من دون أن يُقتل أو حتى إطلاق غاز مسيل للدموع يُغمي الجاني. لأنه لو بقي القاتل حياً لأمكن رفع نسبة النجاح في الوصول إلى الحقيقة وتحديد الدافع والجهات المُحرّضة.
وهذا يجعل، برأي الكاتب مراد يتكين في صحيفة «حرييت»، من عملية قتل القاتل تخريباً مقصوداً لعملية التحقيق والوصول إلى الحقيقة.
بمعزل عن الجهة التي تقف وراء عملية الاغتيال، فإن هناك مسؤولية واضحة على سلطة حزب «العدالة والتنمية».
فالمسؤولون الأتراك لم يُوفّروا مناسبة إلا وانتقدوا فيها الحلف الروسي ـ الإيراني ـ السوري. وإذا كان هؤلاء المسؤولون يُحاذرون من التعرّض مُباشرة للرئيس الروسي والدور الروسي في سوريا وفي إسقاط مدينة حلب، فإن الإعلام الموالي لحزب «العدالة والتنمية» بكل صحفه ومحطات التلفزيون، وبكل مقالاته، وبكل جمعياته وناشطيه على الأرض، يتحمّلون الجانب الأكبر من تجييش الرأي العام ضدّ روسيا وإيران وسوريا وكذلك «حزب الله».
فقبل أسبوع من اغتيال السفير الروسي، نظّمت جماعات مؤيدة لـ «العدالة والتنمية» احتجاجاً حاشداً أمام القنصلية الروسية في شارع الاستقلال في اسطنبول. ورفعوا شعارات وهتافات بالموت لبوتين وخامنئي والأسد. وتُظهر مراجعة شاملة للصحف الموالية لحزب «العدالة والتنمية» منذ بوادر سقوط حلب الشرقية بيد الدولة السورية أن هذه الصحف قالت في بوتين وخامنئي والأسد ما لم يقله مالك في الخمر. بل في اليوم نفسه، لاغتيال السفير الروسي كان محمد اوجاكتان أحد أبرز الكتّاب المؤيدين لأردوغان في صحيفة «قرار» يكتب أن خامنئي يتسابق مع بوتين والأسد في مَن يقتل أكثر من الآخر الأطفال في حلب، وبأنه لم يعد هناك من الكلمات ما يكفي للعن هؤلاء القادة الثلاثة.
على هذا المنوال، صيغت عشرات المقالات ونُشرت آلاف الصور المُحرّضة على روسيا وإيران.
ولا شكّ بأن لهذا التجييش والتحريض أثراً بالغاً في توجيه الرأي العام، وتوفير المظلّة الشرعية لممارسة عمليات اعتداء وتعرّض للمصالح الروسية والإيرانية. ولهذا السبب، أجّل نائب الرئيس الإيراني زيارته، التي كانت مُقرّرة يوم الاثنين الماضي وقبل اغتيال السفير الروسي، لتركيا احتجاجاً على هذا التعرّض لإيران في الشارع التركي. وبالتالي سواء كان المُنفّذ منتمياً لحزب «العدالة والتنمية» أم لا، فإنه حصل مُسبقاً على «إجازة شرعية» بمشروعية اغتيال كارلوف أو غير ذلك من أحداث تمسّ المصالح الروسية أو الإيرانية. ومسؤولية حزب «العدالة والتنمية» أن وسائل إعلامه قادت هذه الحملة، وأن مسؤوليه لم يُحاولوا أن يُخفّفوا منها بل اعتقد أنها مُفيدة لجهة تنفيس الاحتقان في الشارع الإسلامي التركي ممّا يجري في حلب فكانت النتيجة اغتيال السفير الروسي.
من هي الجهة التي يُمكن أن تقف وراء عملية الاغتيال؟
توجّهت أصابع الاتهام الأردوغانية مُباشرة إلى فتح الله غولن، وفتحوا ملف الجاني وأنه ينتمي إلى هذه المُنظّمة، وكان على علم بانقلاب 15 تموز 2016.
كليشيه الانتماء إلى غولن جاهز في عملية تصفية اردوغان لكل خصومه. التهمة جاهزة وكفى.
لكن ظهر في التحقيقات أن مولود ميرت ألتين طاش قد شارك ثماني مرات، بحسب صحيفة «حرييت»، وعلى لسان أقرب الكتّاب من حزب «العدالة والتنمية» بل من اردوغان، عبد القادر سيلفي، في جهاز أمن اردوغان منذ الانقلاب العسكري حتى الآن.
فكيف يُمكن في ظلّ كل حملة التصفية هذه، ألا يتمّ التدقيق على الأقل في هوية فريق حماية اردوغان، وعدده ليس بالآلاف، وسهل التحقّق من انتماءات عناصره؟ خصوصاً بعد انقلاب 15 تموز؟ ولو أن القاتل فعلاً ينتمي إلى غولن، فلماذا لا يكون الهدف حينها اردوغان، ما دامت فرصة اغتياله في متناول اليد كون القاتل من فريق حمايته، ولغولن ثأر طويل جداً مع اردوغان بعد عمليات تصفية جماعة غولن؟ يُضاف إلى ذلك، ما ذكرناه سابقاً عن سبب عدم إبقاء القاتل حياً، على الرغم من أن إمكانية جرحه أو شلّ حركته من دون قتله كانت عالية النسبة.
لا يفترض هذا الكلام بالضرورة أن يكون النظام التركي مُتورطاً في عملية قتل السفير الروسي ولا تبرئة جماعة غولن. لكن المسؤولية المعنوية والتحريضية وأدوات القتل تُلقى بالكامل على عاتق سلطة «العدالة والتنمية» ولا تنفع في الإعفاء من هذه المسؤولية برقيات تعزية، واعتبار أن الاغتيال يستهدف تخريب العلاقات التركية ـ الروسية، وتأكيد عدم السماح بتوترها مجدداً. وكم كان الموقف الروسي سليماً وحذراً عندما قال إنه من المبكر الحديث عمن يقف وراء عملية الاغتيال.
أما إذا كان الاغتيال يستهدف فعلاً العلاقات التركية ـ الروسية، فبطبيعة الحال ستتوجّه أصابع الاتهام إلى أجهزة استخبارات غربية وبأدوات غولنية أو غير غولنية. ولقد كانت بعض صحف «العدالة والتنمية» في اليوم التالي للاغتيال صريحة في اتهام الولايات المتحدة، بأنها هي التي قامت بعملية الاغتيال حيث ذكرت صحيفة «يني شفق» على صفحتها الأولى أن حلف شمال الأطلسي هو الذي قام بعملية اغتيال السفير الروسي. وهنا من الواضح والجازم أن لا موسكو ولا أنقرة تُريدان تخريب العلاقات وقرار «الدوما» الروسي بمنع ذلك أكثر من رسالة، كما أن تخريب العلاقات لا يصبّ في مصلحتهما من أكثر من زاوية، حتى لو ثبت أن هناك صلة للنظام التركي في عملية الاغتيال. ولعلّ حرص الجانب الروسي على تمتين العلاقات مع تركيا لأسباب تتعلّق بالمصالح الروسية الاقتصادية، وعلى رأسها تنفيذ خط «السيل التركي» الذي سيصل إلى أوروبا، هو الخاصرة الرخوة لروسيا في العلاقة مع تركيا، والتي تدفعها إلى تقديم هدايا لتركيا، ومن ذلك إدخالها إلى سوريا. كما أن الرهانات الخاطئة وغير الدقيقة لروسيا على إبعاد تركيا عن الغرب، وعلى إحداث تغيير جدي في الموقف التركي من روسيا، هو الذي يجعل تركيا تتسلّل وتتلقّى المزيد من الهدايا، وآخرها قطع طريق الجيش السوري عن مدينة الباب، والاستعداد لدخولها بين يوم وآخر.
في هذا الإطار، فإن المستهدف حينها من عملية الاغتيال لا يقتصر على تخريب العلاقات التركية ـ الروسية، بل يشمل أيضاً المسار الثلاثي التركي ـ الروسي ـ الإيراني الجديد الذي بدأ في موسكو وتُوّج بإعلان موسكو.
لكن التصويب على المسار الثلاثي ليس موضوعياً. لأن تركيا في الأساس ليست مهتمة كفاية بتبلور هذا المسار الجديد مع روسيا وإيران. ففي الوقت الضائع، إلى حين تسلّم دونالد ترامب مقاليد الرئاسة، وفي ظلّ هزيمة تركيا في حلب، فإن تركيا تحاول إعادة تموضع يقطع الوقت في انتظار تبلور السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة.
فإعلان موسكو برأينا لا يحمل جديداً. هو عناوين عامّة. والأهم منه هو ما صرّح به وزراء خارجية تركيا وإيران، في المؤتمر الصحافي المُشترك الذي أظهر تبايناً جدياً في النظرة إلى سوريا. محمد جواد ظريف أشار بصراحة إلى هذه الخلافات. أما وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو، فكان من المستغرب أن يُشير إلى «حزب الله» وضرورة إلزامه بوقف النار في مُحاولة ليس لإلزامه بوقف النار بل بإقامة رابط بين اسمه واسم «داعش» و «جبهة النصرة» في موقف سيئ النيات لإلصاق تهمة الإرهاب به. تماماً كما استخدم جاويش أوغلو بيروت، وإلى جانبه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل(!)، منصّة للتهجّم على الرئيس السوري بشار الأسد، واتهامه بقتل 650 ألف إنسان، وأنه يجب ألا يكون جزءاً من العملية الانتقالية. وكل هذا يعكس ليس فقط عدم جدية تركيا في إيجاد تسوية سلمية في سوريا، بل في الإمعان في تشويه صورة المحور المقاوم للمشروع التركي من طهران والأسد إلى «حزب الله».
الطائرة التركية لا تفعل سوى الهبوط الاضطراري بمطاري طهران وموسكو، حتى إذا انقشعت السياسات الجديدة للإدارة الأميركية أقلعت من جديد لتحطّ في مطارها الأساسي الأطلسي الغربي. وإذا كان من اختبار جدي لنيات تركيا، باعتبار «جبهة النصرة» إرهابية، أو في الإيمان بالمسار الثلاثي الجديد، فإن «الوصفة الطبية» جاهزة ومكتوبة بخط واضح: أن تُنهي، بالتعاون مع الجيش السوري والطيران الروسي، وجود عناصر هذه الجبهة في إدلب وعددهم بعشرات الآلاف وحيث لا منفذ لهم ولا ظهير سوى الحدود التركية عند لواء الإسكندرون، وأن تُغلق الحدود مع سوريا، وأن تنسحب من الأراضي السورية المُحتلّة وتُسلّمها للجيش السوري وحلفائه، لا أن تتذاكى وتُناور لتتقدّم أكثر في الداخل السوري كما يحصل في الباب وفي غير الباب.
المصدر: "السفير" اللبنانية