اسكندر حبش
يبدو مسار صادق جلال العظم الفكري، الذي غيبه الموت، أول من أمس في ألمانيا بسبب المرض، متناسقا عند بعض قرائه، ويمتلك خطا بيانيا متماسكا، حاول العمل عليه طيلة حياته، إلا أنه في العمق، يبدو كخط عرف الكثير من التعرجات والانزياحات الداخلية التي تفاجئ حقا. فمن كَتب «نقد الفكر الديني» في ستينيات القرن الماضي، يختلف، في العمق، عن الذي كتب عن «العلوية السياسية»، ونظّر لها، في هذه الألفية الجديدة. ففي الأول، نجد «مفكرا» يحاول أن يقرأ ويناقش تأثير الفكر الديني على حياتنا العقلية، وما أنتج ذلك من تراجع في بنية الفكر العربي، بينما في «نحته» للمفهوم الثاني، تراه يسقط في اللعبة السياسية الراهنة وكأنه يتخلى عن كل ما يفترض أن يمتلكه «المثقف» من «عدة» فكرية، كي ينجو من التعميمات ومن لحظة الحدث الآني، ما يضعه، في نهاية الأمر، في خانة المساجلين، لا المفكرين.
المساجلة كانت إحدى أبرز سمات وخصائص ابن دمشق الراحل. كتابته كلها، لا تشذّ عن هذا المفهوم، وكأنه في لحظة، لم يفعل شيئا سوى الاستقالة من نظرية إيمانويل كانط الذي اختص به. فإذا كان الفيلسوف الألماني قد كتب عن نظرية المعرفة الأوروبية الكلاسيكية وآخر فلاسفة «التنوير» الأوروبي، فإن مشروع العظم الكتابي، وإن حاول التغطي بمزايا تنويرية، وجدت صداها في مرحلة سابقة، إلا أنه لم يستطع الخروج من «عباءة مذهبية» (إن جاز القول) في مراحل كتاباته الأخيرة، وبقي يصارع «ميتافيزقا» وهمية حاول ربطها بصراع فكري، بينما ترتبط في الواقع بصراع سياسي بحت.
مهما يكن من أمر، ومهما يكن من نقاشات واختلافات في وجهات النظر، إلا أننا لا يمكن أن نتخطى ما كتبه ذات لحظة، إذ بدا كأنه يرتبط فعلا بمسار تاريخي، كان يُنظر فيه إلى أمور الدنيا وأحوالها بهذا المنظار. منظار أسس لكتابات كثيرة بعده، وشكّل تيارا في الكتابة «الفكرية العربية» الحديثة. لهذا لا يمكن إعادة النظر ومناقشته، قبل أن تنتهي هذه المرحلة التي لا زلنا نعيش فيها منذ ستينيات القرن الماضي.
مع رحيل صادق جلال العظم، تنتهي مرحلة «تفكيرية» أثرت في كثيرين منّا. ربما لأن هذا التفكير لم ينجب في الواقع، سوى مرحلة «تكفيرية» نعاني من وطأتها. لكن الأهم مع العظم، أنها كانت فترة نقاش بالكلمة والقول، بينما اليوم، تحول النقاش إلى قتل مجاني، مستمر على امتداد هذه الرقعة من خريطة لا تعرف ماذا تريد.
السفير اللبنانية