2024-11-28 10:52 م

“شعبوية” فيّون تلاقي “شعبوية” ترامب

2016-12-05
فاز فرانسوا فّيون. نجح نائب باريس الهادئ في ان يكون مرشّح حزب اليمين لانتخابات الرئاسة المقبلة. فوزه كان مدوّياً في الدورتين الاولى والثانية. في الاولى اخرج نيكولا ساركوزي رئيس الحزب من السباق ومن الحياة السياسية. وفي الثانية سحق منافسه آلان جوبيه، السياسي العتيق. حصل فيّون على 66.5 في المئة من الاصوات مقابل 33.5 في المئة فقط لخصمه. حسم اليمين مرشّحه للرئاسة. اما اليسار، فتسود اوساطه حالة ارتباك وبلبلة وعدم وضوح حتى الساعة. اعادة ترشّح الرئيس الحالي ستكون كارثية على اليسار وتضمن فوز اليمين. ففي آخر استطلاعات الرأي الفرنسية لم يحصل هولاند على اكثر من 14 في المئة من المؤيدين. إنه في وضع أسوأ من أي وضع مرّ به رؤساء الجمهورية الخامسة على هذا الصعيد. رئيس وزرائه مانويل فالز مرشّح محتمل. ولكن هو ايضاً لا يتمتع بشعبية كبيرة (15 في المئة من المؤيّدين). خط الوسط ينقسم بين فرانسوا بايرو وايمانويل ماكرون. هذا الاخير يدعو بايرو الى الالتحاق به. ولكن هل يقبل وهو مؤسّس الوسط الفرنسي؟ المفاوضات لم تبدأ. في كل الاحوال ماكرون، السياسي الشاب الصاعد، يشكّل حالة يمكن ان تفاجئ المجتمع الفرنسي. اما اليمين المتطرّف فالامر محسوم في معسكره. رئيسته مارين لوبّان ستكون المرشّحة لرئاسيات 2017. إنها مرشّحة جدّية. يحسب لها منافسوها حسابًا اكثر مما كانوا يحسبون لوالدها جان ماري لوبّان، بخاصة مع تنامي موجة التطرّف في العالم وفرنسا.مع بداية العام 2017 ستفتح معركة الرئاسة الفرنسية على مصراعيها. مواضيعها متعدّدة ومثيرة: الركود الاقتصادي، البطالة، الاصلاح الاجتماعي، مستقبل الاتحاد الاوروبي بعد خروج بريطانيا وفي ظل ازمة النازحين، حل الاشكالية بين السيادة الوطنية وصلاحيات الاتحاد، الارهاب وكيفية الحماية منه، الازمة الاوكرانية والعلاقات مع روسيا،… وعلى خلاف الانتخابات الاميركية، ملف الشرق الاوسط والازمة السورية سيكونان موضوعين أساسيين في الانتخابات المرتقبة. في الولايات المتحدة الاميركية كان الموضوع هامشياً، على خلاف ما نعتقد نحن في الشرق الاوسط. غالبية الشعب الاميركي تجهل تماماً ما يدور في منطقتنا. وتجهل سياسات بلادها تجاهنا. فالشرق الاوسط بعيد جغرافياً. ولا يشكّل النازحون تهديداً ارهابياً او ديموغرافياً. والارهاب لم يضرب بقوّة منذ فترة. بينما فرنسا على تماس مباشر مع احداث المنطقة. جيوسياستها تتأثر مباشرة بجيوسياسة الشرق الاوسط، وتؤثّر فيه. لها حدود بحرية معه. وترتبط معه بشراكة أورو – متوسطّية. وقد ضربها ارهاب “داعش” بقوّة في السنوات الاخيرة. من هنا كانت خطابات المرشحين حول الشرق الاوسط، وتحديداً الازمة السورية، موضع اهتمام المتابعين والاعلام في فرنسا. فما هي رؤية الفائز في انتخابات اليمين التمهيدية حول المنطقة وسوريا والارهاب والاسلام المتطرّف…؟يريد فرانسوا فيّون ان تعود فرنسا لاعباً اساسياً في قضايا المنطقة. وينتقد في خطاباته ومقابلاته السياسات السابقة (على رغم انه كان رئيس الوزراء في بداية “الربيع العربي”) التي اخرجت فرنسا من معادلة الشرق الاوسط. ويعتبر انه ابتداءً من صيف 2013 اصبحت الدبلوماسية الفرنسية “خارج  اللعبة” (السورية). ويضيف: ان “الاميركيين والروس وضعونا خارج المفاوضات”. ولكن ماذا عن التدخّل العسكري الروسي في سوريا؟مرشّح اليمين الفرنسي يهنئ نفسه بهذا التدخّل (في تصريح له في تشرين الاول 2015). ويعتبر انه لولا هذا التدخّل لكان “داعش” قد سيطر على جزء كبير من سوريا وعلى العاصمة دمشق”. ولتمكّن من الوصول الى البحر المتوسط. ما كان سيكسبه موقعاً استراتيجياً كبيراً. انطلاقاً من هذه المقاربة، التي تشبه الى حد بعيد تلك التي للرئيس الاميركي الجديد، يدعو فيّون الى التفاوض مع فلاديمير بوتين من اجل بلورة استراتيجية موحّدة لمواجهة ارهاب “داعش” واعادة تحرير الاراضي السورية من سيطرته. ولكن ماذا عن المعارضة السورية التي كانت فرنسا من اولى الدول الداعمة لها؟بالنسبة الى فرانسوا فيّون يتواجه في سوريا معكسران، لا ثالث لهما: “معسكر اولئك الذين يسعون الى نظام اسلامي توتاليتاري، والآخرون”. وهو يختار “الآخرين”، اي روسيا والنظام السوري. لذلك وعد في احدى مقابلاته التلفزيونية بإعادة فتح القنصلية الفرنسية في دمشق لإعادة خلق قناة تفاوض مع النظام السوري! ولكن ماذا عن علاقة فرنسا مع الدول العربية الحليفة والداعمة للمعارضة والمطالبة برحيل بشار الاسد؟في الجواب عن هذا السؤال، يدعو الفائز بترشيح اليمين الى خلق “توازن بين ايران من جهة وتحالفات فرنسا في الشرق الاوسط”. فهو يعتبر ان فرنسا راهنت على القوى السنّية، وبخاصة المملكة العربية السعودية. ولكن هذه الدول، ودائما بحسب فرانسوا فيّون، هي “في اساس ظاهرة التطرّف في الاسلام”!!!تطبيق هذه الرؤية في حال فوز فرانسوا فيّون في الانتخابات الفرنسية المقبلة ليس بهذه السهولة. فهي ستخلق إشكالية كبيرة في فرنسا وخارجها، لسببين:اولاً، لأنها تُعد “ثورة” على السياسة التي اعتمدتها الدبلوماسية الفرنسية منذ اكثر من عقد من الزمن. ففي عهد جاك شيراك، وبعد محاولة تقارب واحتضان لبشار الاسد بين عامي 2000 و2003، قاطعت باريس دمشق ووجّهت اليها اصابع الاتّهام، ولو سياسياً، باغتيال “الصديق” رفيق الحريري. وهي كانت في العام 2004 قد شاركت الاميركيين في صياغة القرار 1559 الذي يدعو الى “خروج كافة الجيوش الاجنبية من لبنان”، اي الجيش السوري. ومع بدء “الربيع العربي” اتّخذ عهد نيكولا ساركوزي، الذي كان فرانسوا فيّون رئيس وزرائه، موقفاً داعماً لا بل حاضناً للمعارضة السورية وداعياً بشار الاسد الى مغادرة السلطة. كما كان من ابرز الداعمين لـ “مؤتمر جنيف 1” حول سوريا الذي يدعو الى مرحلة انتقالية لا يشارك فيها بشار الاسد. واستمر فرانسوا هولاند في اعتماد سياسة متشدّدة ضد النظام السوري وداعمة للمعارضة.ثانياً، ان هذه الرؤية تُعد انقلاباً على مبادئ فرنسا في الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان وسيادة الدول. فهي تدعو الى التعامل مع نظام بشار الاسد الذي يحكم سوريا منذ ما يقارب الخمسة عقود من خلال نظام امني مخابراتي. قتل الالآف من شعبه وسجن عشرات الالوف. وهو، منذ خمس سنوات، يستعمل اكثر انواع الاسلحة فتكاً لاخماد ثورة بدأت سلمية تطالب بالحرية. كما تدعو الى التعامل مع نظام فلاديمير بوتين الديكتاتوري في روسيا وخارجها. فهو يسجن معارضيه في الداخل ويغتالهم في الخارج. ويتخطى القوانين الدولية ويضمّ شبه جزيرة القرم الى روسيا. ويستعمل آلته العسكرية في سوريا ليس لمحاربة ارهاب “داعش” إنما ضد الشعب السوري للقضاء على معارضته. ولا تقف رؤية فرانسوا فيّون عند هذا الحدّ، إنما تدعو الى الربط مع ايران التي أسّست ميليشيات لها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وحرسها الثوري يخوض القتال مباشرة على مختلف الجبهات السورية ضد الشعب السوري!لا شك ان رؤية فرانسوا فيّون فيها الكثير من الـ “شعبوية” تلاقي “شعبوية” دونالد ترامب الاميركية. فهل سيتراجع عنها في حال فوزه كما بدأ يفعل ترامب حتى قبل تسلّمه مقاليد الحكم؟
رئيسة “الجبهة الوطنية” مارين لوبّان هي أكثر المتضرّرين من فوز فرانسوا فيّون في الانتخابات التمهيدية لحزب اليمين. حزبها نشأ وتطوّر على خطاب شعبوي متطرّف نجح في محطات انتخابية باستقطاب قسم من اليمين المعتدل. وهي تعوّل عليه للوصول الى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فأصوات “الجبهة” وحدها لا تسمح بإيصال مرشّحتها الى الدورة الثانية. في انتخابات العام 2002 واجه جان ماري لوبّان جاك شيراك في الدورة الثانية بفضل تكتيك هذا الاخير الذي نجح في اخراج منافسه اليساري من السباق من الدورة الاولى. في العام 2007 سقط لوبّان الأب من الدورة الاولى ولم يحصل على اكثر من 10.5 في المئة من الاصوات. وفي العام 2012 تقدّمت شعبية ابنته وحلّت ثالثة بـ 18.5 في المئة من الاصوات مستفيدة من أخطاء نيكولا ساركوزي بخطاب شعبوي متطرّف. على رغم ذلك خرجت من الدورة الاولى.خطاب فيّون حول “التوتاليتارية الاسلامية” والارهاب ومراقبة الحدود للحد من الهجرة وغيرها من الملفات يقطع عليها الطريق. لذلك يتّفق المحللون الفرنسيون على ان مرشّح اليمين سيكون اسوأ خصم لمارين لوبّان في انتخابات 2017، خصوصًا وان لدى فيّون مشروع اقتصادي اجتماعي متكامل للخروج من الازمات التي تعاني منها فرنسا. ولكنه في الوقت نفسه نقطة ضعف في حملته. فهو، وبخلاف الـ “شعبوية” في الطروحات السياسية، يقترح خطوات عملية “موجعة” في الشأنين الاقتصادي والاجتماعي، مثل إلغاء 500 الف وظيفة في القطاع العام، وزيادة ساعات العمل الى اكثر من 35 ساعة، ورفع سنّ التقاعد… لذلك يبدو ان رئيسة اليمين المتطرّف ستتّجه الى خطاب شعبوي في هذا المجال لتعتمد طروحات اشتراكية. فتقترب بذلك من اليسار! إنها المفارقات الغريبة في الحملات الانتخابية.