بعد عقود من الاستقرار العالمي، أصبح القلق واستحالة التنبؤ بما هو قادم في كل مكان. ويؤدي فراغ القيادة الأمريكية إلى تآكل التحالفات القائمة منذ وقت طويل وتشجيع المعارضين للنظام العالمي. ويتجلى هذا الاتجاه بوضوح في الشرق الأوسط أكثر من أي مكان آخر. فالحروب المشتعلة ووسطاء السلطة والتحالفات القديمة والتحالفات الجديدة ستختبر جميعها دونالد ترامب، وتتطلب أن تقوم إدارته بتحديد أولويات أمريكا ومصالحها هناك بشكل واضح. وستراقب آسيا وأوروبا هذا.
انتقد ترامب الحرب في العراق، واستبعد قيامه بمثل هذا الغزو المكلف، ملمحًا إلى أنه سيستمر في توجه إدارة أوباما بعيدًا عن المنطقة، لكن موقفه تجاه تنظيم الدولة وإيران قد يضع الولايات المتحدة على نفس المسار الذي أدى إلى الصراع.
ووعد ترامب بتعاون أوثق مع الحلفاء العرب التقليديين الذين يريدون أن تساعدهم الولايات المتحدة على الإطاحة بنظام الأسد، لكن هذا يتعارض مع أولويات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يدعم بشار الأسد، الذي يريد ترامب التقرب منه. ولا يمكن للولايات المتحدة هزيمة تنظيم الدولة في العراق وسوريا – وهي أولى أولويات ترامب – بينما يواجه روسيا وإيران، اللتين تدعمان بعض أقوى الميليشيات التي تقاتل تنظيم الدولة. ولا يمكنها، بعبارة أخرى، الانحياز لحلفائها العرب وروسيا في نفس الوقت في سوريا، ولا محاربة تنظيم الدولة بينما تختار قتال إيران في آن واحد.
وبينما تعد هزيمة تنظيم الدولة في معاقله بالموصل والرقة خطوة أساسية، إلا أنها تعتبر مجرد خطوة أولى. فمنع ظهور خليفة للتنظيم بالنسبة لترامب سيتطلب جهدا دبلوماسيا يهدف إلى التوصل إلى تسويات سياسية في العراق وسوريا، وهذا يعني حصر الاحتياجات المتغيرة للمنطقة.
ومنذ سيطرة الجمهوريين على البيت الأبيض، اختفى النظام الإقليمي الذي اعتمدت عليه واشنطن لعقود، والذي أدى إلى اشتعال الصراع في المنطقة بعد موجة الاحتجاجات الشعبية ضد الأنظمة الاستبدادية، والقتال القبلي والطائفي على أجزاء من الدول الممزقة، كل هذا بينما تتسابق إيران والسعودية وتركيا على توسيع نفوذهم للحفاظ على مصالحهم أو توسيعها إن استطاعوا.
وتجنب أوباما بشكل كبير التعامل مع أي من هذا، فكان تركيزه بدلا من ذلك منصب على هزيمة تنظيم الدولة، فماذا قد يحدث عندما يكون اهتمام خليفته هو تنظيم الدولة، لا يستطيع ترامب التعامل بهذه اللامبالاة. فقد طغى الشرق الأوسط على موقف أوباما تجاه آسيا، وقد يفعل الشيء نفسه بأولويات الرئيس المنتخب الداخلية والخارجية، ومهمة ترامب هي الوصول إلى نظام عالمي جديد، نظام يصلح خريطة الشرق الأوسط المهترئة ويدعم حكوماتها.
لعقود مضت، اعتمدت الولايات المتحدة على الحكام المستبدين لضمان الاستقرار الإقليمي. وهذا الأساس لم يعد موجودًا. فقد عصفت الانتفاضات الشعبية فيما يسمى “الربيع العربي” بمؤسسات الدولة لتثير في البداية صراعات اجتماعية تنتهي في أسوأ الحالات بالحرب الأهلية. وقد رأت الطوائف والقبائل، من أصحاب الهويات التي طمست خلال حكم الأنظمة الاستبدادية، تهديدًا وفرصة في الفوضى التي تلت ذلك، ما أشعل نوبة من العنف أدت إلى مزيد من الاضطرابات.
التنافس الأقوى بين السنة والشيعة. وهي خصومة سياسية يجسدها انقسام السلطة في عدة دول بالمنطقة، من لبنان وسوريا والعراق شمالًا إلى البحرين واليمن جنوبا. كما أصابت أيضًا السعودية وأفغانستان وباكستان. ونتيجة لهذا تفتت العالم العربي، ولم يعد العراق دولا قومية تستطيع السيطرة على أراضيها.
ونجت السعودية والإمارات من أسوأ الانتفاضات، ولكن بعد وقت طويل من الاعتماد على الولايات المتحدة في حفظ أمنيهما، أصبحتا لا تستطيعان إدارة المنطقة بنفسيهما، كما أن النفوذ السعودي ضعف بعد انهيار أسعار الطاقة واهتزاز قيادتا وحربها المكلفة في اليمن.
وانتقل النفوذ في الشرق الأوسط من قلب الأراضي العربية إلى تركيا وإيران. فقد نجت تركيا من انقلاب فاشل، لكنها لم تفقد شيئًا من سعيها الحثيث لتنفيذ أجندتها في المنطقة. وفي تكرار للحقبة الصفوية العثمانية في الشرق الأوسط، تستعد تركيا وإيران لملأ الفراغ الإقليمي. وأحيانًا ما يتم التنسيق بينهما بخصوص موقفهما من الأكراد، وقد أبدتا استعدادًا لتحمل بعض الأعباء التي قد لا ترغب أو لا تستطيع واشنطن تحملها.
وقد لاقت الجهود التركية لحصد النفوذ الإقليمي نجاحًا متفاوتًا. فقد تبددت آمالها في زعزعة السلطة في مصر وليبيا وسوريا مبكرًا، لكن الطموحات العثمانية للرئيس رجب طيب أردوغان لا تزال قوية. فبينما تجنب الحلفاء العرب لأمريكا التدخل العسكري المباشر في العراق وسوريا، سعت تركيا إلى دور أكبر في العمليات التي تهدف إلى طرد تنظيم الدولة خارج معاقله في الموصل والرقة. وكان تركيزها الأكبر على احتواء القومية الكردية، لكنها أيضا ترى في نفسها حامية لمصالح السنة في العراق وسوريا.
إيران هي عامل مهم أيضا في مستقبل المنطقة. فقد عملت على زعزعة الاستقرار في المنطقة في نفس الوقت الذي تقوم فيه بدور كبير في محاربة تنظيم الدولة، كما أنها القوة الإقليمية الوحيدة التي تتمتع بالنفوذ في بغداد ودمشق وصنعاء. ومن أكبر مصالح واشنطن أن تستغل طهران هذا النفوذ بشكل بناء.
خلال حملته الانتخابية، وصف ترامب المغامرات العسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأنها مهمات حمقاء. كما تعهد أيضا بهزيمة تنظيم الدولة، مما يوحي بأنه إذا لم يغير موقفه ويتبنى تدخلا مكلفا، فسيكون عليه العمل مع الحلفاء العرب وتركيا وإيران. وبشكل مماثل، سيتطلب أي سلام في المنطقة دعما من الأطراف الإقليمية الفاعلة وتعزيز للتسويات السياسية في العراق وسوريا، نظرًا لدور وكلائهم في هذا الصراع.
وتتبع روسيا بالفعل استراتيجية تشمل تركيا وإيران في التخطيط لنهاية اللعبة في العراق. فإذا تعاونت الولايات المتحدة بشكل وثيق مع بوتين في سوريا، فسيكون عليها الانضمام لإطار العمل الروسي. وسيكون من الأفضل أن تكون الولايات المتحدة، وليس روسيا، هي المسؤولة عن تحديد هذا الإطار. فالولايات المتحدة تستطيع ضم العراق أيضًا والحصول على دعم الحلفاء العرب. ومن ثم يمكنها تحجيم قدرة روسيا على المناورة في المنطقة.
“تركيا” هي عضو في الناتو يمكن للولايات المتحدة العمل معها، لكن العلاقات بين أنقرة وواشنطن تضاءلت. ربما يعمل ترامب على إصلاح الضرر. قد تكون السياسة الداخلية التركية نقطة خلاف، لكن الاستثمار الأكبر في الدبلوماسية وبناء الثقة قد يسهل التوافق حول الوضع المستقبلي للمنطقة الكردية في سوريا، ما يمهد الطريق لتعاون أوثق في شن حملات ضد تنظيم الدولة، وقد يكون هذا أساسا لاتفاق أوسع حول الوضع النهائي في سوريا.
وستبدو إيران شريكًا فعّالًا للولايات المتحدة في أي وقت، ولكن الدولتين قللتا من التوترات من خلال الاتفاق النووي، الذي كان أساسًا للتعاون الضمني في دحر تنظيم الدولة في العراق. لكن هذا، بدلا من ذلك، قد يساعد على زيادة حالة عدم الاستقرار في الشرق الاوسط. فالمكاسب التي حققتها الولايات المتحدة في العراق قد تنهار، وقد تستمر الحرب السورية في التفاقم، وقد يتسع نطاق عدم الاستقرار في كل مكان تمتلك إيران نفوذا فيه، من أفغانستان إلى اليمن ولبنان، وقد تضطر الولايات المتحدة إلى مواجهة النفوذ الإيراني، بينما تحارب التطرف السني دون مساعدة إيران.
والأفضل بالنسبة لترامب وإدارته حينها أن تحترم الاتفاق النووي وتنفيذه، فعزل إيران قد يرضي منتقدي الاتفاق النووي، لكنه لن يخدم المصالح الأمريكية الكبرى في الشرق الأوسط.
وتكمن هذه المصالح في إحلال النظام في الشرق الأوسط، وليس في توسيع نطاقات صراعاته، ونفوذ الولايات المتحدة لدى تركيا والحلفاء العرب والاتفاق النووي مع إيران والمكاسب التي حققتها ضد تنظيم الدولة في العراق، قد تكون أساسًا لتحقيق تسويات سياسية أوسع في كل من العراق وسوريا وفي المنطقة كلها. قد يكون هذا صعبا، لكن العيش مع البديل، الحرب الكارثية والمزيد من اللاجئين والإرهاب، سيكون أكثر صعوبة بكل تأكيد.
المصدر: "التقرير"+ "ذا اتلانتك"