2024-11-27 05:35 م

نقاط اللقاء والاختلاف بين السلطان و«البزنس مان»

2016-11-12
سركيس قصارجيان
شكل فوز دونالد ترامب لتركيا، كغيرها من دول العالم، مفاجأة مقلقة نتيجة مواقف المرشح «الجمهوري» الخارجة عن العرف الديبلوماسي الأميركي خلال حملته الانتخابية، بما يخص «حلف شمال الأطلسي» والرئيس السوري ومعاداة الإسلام، التي أجبرت الرئيس التركي حينها إلى إطلاق تصريحات نارية رداً عليه، ودفعته للتريث في تهنئة نظيره صباح إعلان النتائج غير الرسمية، مكتفياً بالإعراب عن أمله «باسمه واسم الشعب التركي بأن يكون خيار الشعب الأميركي خيَراً من أجل مستقبل مليء بالنجاحات».
إلا أن المؤشرات في «إكسراي» سرعان ما تغيرت مع حلول ساعات المساء، فجاء إعلان المصادر الرئاسية التركية عن مكالمة هاتفية «ودية» بين الرئيسين، «تم خلالها بعد تهنئة أردوغان نظيره مناقشة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين ومكافحة الإرهاب». فهل يمثل ترامب «خياراً أفضل» بالنسبة لتركيا؟ وما هي نقاط الاتفاق والخلاف المحتملة بين الحليفين في السنوات الأربعة القمقبلة من عهد الرئيس «المفاجئة»؟
قبل الإجابة عن السؤال لا بد من التركيز على نقطتين رئيسيتين:
أولاً تستند السياسة الأميركية إلى مفرزات منظومة معقدة من المؤسسات والمكاتب، ضمن سلسلة يشكل البيت الأبيض أولى حلقاتها مروراً بالخارجية والبنتاغون والاستخبارات بشقيها، وتنتهي عند الكونغرس بغرفتيه. وهذا المشهد تزاحمي أكثر من كونه تكاملياً، تؤدي فيه «اللوبيات» والشركات النفطية والزراعية وتصنيع الأسلحة دوراً محورياً، ليبقى دور رئيس البلاد بآراء مساعديه ومستشاريه أكثر فاعلية في الداخل منه في العلاقات الخارجية.
ثانياً، من الثابت أن تصريحات وآراء الرؤساء الأميركيين من «الديموقراطيين» و «الجمهوريين» على حد سواء خلال الحملات الانتخابية، لا تمثل مؤشراً أحادياً لطبيعة سياساتهم المستقبلية داخل البيت الأبيض، حيث تصنف أكثر كجزء من الدعاية اللازمة لبلوغ سدة الحكم، مع محاولة التركيز على الوفاء بما أمكن من الوعود المتعلقة بالقضايا الداخلية محط اهتمام الناخب الأميركي.

الملفات الشاكئة
على صعيد العلاقات التركية ـ الأميركية المستقبلية في عهد ترامب، فإن ملفات سوريا والكرد وغولن تتصدر قائمة القضايا الإشكالية بين البلدين في فترة رئاسة أوباما، يعقبها الموقف الأميركي من سياسات تركيا الداخلية وقضية انضمامها إلى الاتحاد الأوربي وملف قبرص والإبادة الجماعية الأرمنية وغيرها من المسائل الأقل أهمية.
لم يوفر الرئيس الفائز فرصة خلال حملته الانتخابية لانتقاد سياسات «الديموقراطيين» من الرئيس أوباما وتطلعات كلينتون بما يخص الملف السوري، فأكد بوضوح أن محاربة «داعش» والقضاء عليه أولويــة أميركــية بالنسبة له تتلاقى مع الرغبة الروســية والســورية، رافضاً أيضاً تسليح المعارضة السورية التي وصف مكوناتها بـ «الإسلامية المتطرفة».
انتقادات قد تعطي القارئ في الوهلة الأولى انطباعاً عن احتمال نشوء هوة بين الرؤية التركية والأميركية المستقبلية، استنادا إلى طروحات أردوغان المطالبة برحيل الأسد وضرورة تقديم دعم أكبر لفصائل المعارضة.
لكن بالتدقيق أكثر في النقاط السابقة، مع التركيز على أن «الأعمال في السياسة لا ترتبط بالنيات»، يتبين أن أولوية القضاء على «داعش» هو هدف معلن من قبل تركيا أيضاً، وبالتالي فقد يشكل الأمر أرضية خصبة للتقرب أكثر من رجل الأعمال المفرط الحساسية تجاه الإسلاميين. كما أن إسقاط الأسد لم يعد أولوية بالنسبة للحكومة التركية برغم رغبتها بذلك، بالمقارنة مع ملفي الكرد وغولن. فيما يبقى القلق الأكبر بالنسبة لتركيا متمثلاً بمستوى التقارب الأميركي -الروسي، الذي قد يخسرها ورقة اللعب على التناقضات بين القطبين الأكبر، وهو في طبيعة الأحوال، إن تحقق، فلن يكون تقارباً استراتيجياً نظراً لطبيعة التركيبة السياسية الأميركية وحاجتها القوية إلى الدعاية «الهوليوودية» عن الشر الروسي المهدد للسلم الأميركي.
في الملف الكردي يبدو السيد «الجمهوري» أقل حماسة في التعامل مع الكرد ضمن مسار سياسي معلن يدعو إلى الالتفات أكثر نحو الداخل، مع التذكير بالتصريح الذي أدلى به خلال لقاء مع صحيفة «نيويورك تايمز» في تموز الماضي، عندما أعرب عن حبه للكرد، مؤكداً في الوقت ذاته أهمية تركيا كدولة صديقة للولايات المتحدة، ومتمنياً أن يتمكن من جمع النقيضين معاً.
ويعتبر ملف إعادة الداعية الإسلامي المقيم في بنسلفانيا الأميركية فتح الله غولن، والمتهم تركياً بالوقوف خلف الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز الماضي، الهدف الأول بالنسبة لأردوغان وحكومته، حليفي غولن بالأمس وعدوّيه اليوم. فالاعتقالات الأخيرة التي طالت المعارضين الأتراك من عسكريين وقضاة وأكاديميين وأصحاب رأي وحتى نواب برلمان منتخبين، كلها أدرجت أردوغانياً تحت بند الانتساب لحركة غولن أو دعم الإرهاب. لذلك من الطبيعي بل من الواجب أن تكون المواقف التركية المطالبة بتسليمه صارمة.
وبرغم إدراك تركيا استحالة استصدار قرار رئاسي أميركي مؤثر على المجرى القانوني والقضائي للدعوى في ظل غياب أي أدلة ملموسة بتورط غولن مباشرة في الانقلاب، تعول أنقرة على ضغط سياسي يجبر الأخير على مغادرة البلاد إلى وجهة يكون «اصطياده» فيها أقل صعوبة.

نظرة ترامب وفريقه المحتمل
يعطي مايك بينسي مساعد الرئيس ترامب المنتخب، عبر تصريحاته لصحيفة «حرييت» التركية مساء الأربعاء، التي أكد خلالها أهمية تحالف الولايات المتحدة مع تركيا وأعرب عن أمله عودة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها، مؤشراً قوياً للانحياز نحو علاقة مستقرة بعيداً من توترات عهد أوباما، علماً أن التصريح يأتي من شخص يُنتظر منه تأثير كبير على سياسات ترامب المستقبلية. فيما يبدو وزير دفاع ترامب المحتمل الجنرال المتقاعد مايكل فلن أكثر حماسة نحو تركيا من خلال مقالته في موقع «ذي هيل» الالكتروني المتخصص بالمقالات السياسية والعسكرية بعنوان «حليفتنا تركيا في أزمة وتحتاج إلى مساعداتنا». حيث اعتبر تركيا الحليف الأقوى ضد «داعش» في كل من سوريا والعراق ومصدر استقرار في المنطقة، منتقداً وجود غولن في الولايات المتحدة. ولم يكن النائب العام المتوقع رودي جولياني أقل حماسة حيال تركيا، حينما أشاد بموقعها المتطور في المنطقة خلال لقاء مع «فوكس نيوز» أواخر حزيران الماضي تعقيباً على حادثة مطار إسطنبول التي تبناها «داعش».
وبرغم تصريحات ترامب لصحيفة «نيو يورك تايمز» التي أعلن فيها عدم اكتراثه بالسياسة الداخلية لأردوغان في مجال الاعتقالات والديموقراطية وحقوق الانسان، إلا أن طبيعة النظام الأميركي المجبر على رفع تقارير سنوية عن الحريات الدينية والفكرية ومستوى حقوق الانسان في دول العالم للكونغرس، تحتم على ترامب التعامل مع هذه التقارير أو على الأقــل التعليق عليها، مع احتــمال عدم اســتغلالها كورقة ضغط لانتزاع مكاسب من الحــلفاء، خلافاً لسابقيه من الرؤساء، ما يشكل دفعاً أكبر لأردوغان للتوجه نحــو النظام الرئاسي من دون التعرض لانتقادات مؤثرة.
خلفية الرئيس الجديد الاقتصادية كمستثمر ناجح في مجال العقارات بعيداً من التجارب السياسية، تعزز فرضية إدارته البلاد ضمن الهوامش المتاحة له كرجل أعمال محب للصفقات الثنائية وميال للمكاسب السريعة والمضمونة، وتوحي بمتابعته سياسة «الديموقراطيين» المرتكزة على المكاسب التكتيكية ولو على حساب التحالفات الاستراتيجية. وهذه الخاصية، وإن كانت تتيح سهولة لدول «خائفة» من مصير علاقاتها مستقبلاً للتفاهم مع ترامب كالخليج مثلاً، تعطي في الوقت ذاته فكرة عن النتائج الكارثية في حال محاولة أي دولة المراوغة والتهرب من تنفيذ الالتزامات المتفق عليها، ما يعني أن على تركيا أن تكون أكثر وضوحاً في شرح طبيعة أدائها العدواني ضد الكرد والانقلابيين والمساومة على موقف داعم لها من قبل للولايات المتحدة عبر تقديم تنازلات جدية في المقابل.
كذلك فإن الشخــصية المضطربة والإشكالية لترامب، من المحتمل أن تلجم من تصريحات أردوغان العالية السقف التي اعتاد إطلاقها في وجه أوباما سابقاً، وتخفف من الأداء المعادي للغرب والولايات المتحدة من قبل وزرائه وحتى إعلامه، على مبــدأ أن «الرجل لا مزاح معه»، برغم الحــرج الظــاهري الذي قد تتسبب به مواقف ترامب الداعمة لإسرائيل للخليفة العثماني أمام الرأي العام الاسلامي.
ختاماً، برغم تصريحات ترامب بشأن «حلف شمال الأطلسي» وضرورة تحمل الدول الأعضاء أعباءه ومصاريفه وإجبار دول الخليج واليابــان على دفع «أجور الحماية» وخطــته المعتــمدة على الانكــفاء نحو الأطلسي، التركيــبة المعقــدة بين السياسة والاقتصاد في دولة الشركات المتعددة الجنســية ستجبر رئيسها، أياً كان، على الاعتماد على الذراع الطويلة للولايات المتحدة، «الناتو»، وبالتــالي على الحلفاء ضمنه، بالتزامن مع تحــالفات تكتــيكية مع مجمــوعات وتنظــيمات خارجة عن إطار الحكومات الشــرعية، كذراع أخرى لهذا الجسـم الامبريالي المتين.
المصدر/ السفير اللبنانية