بقلم: د. أنور العقرباوي
أيام قليلة تفصل الأمريكيين عن الإقتراع على ضيف البيت الأبيض الجديد، أو كما يصرون على تسميته بزعيم "العالم الحر". وكلما ضاق الوقت على يوم الفصل، كلما اشتد وطيس الحملات الإنتخابات، في سابقة لم تشهد له الولايات المتحدة مثيلا من قبل. وعلى النقيض من الحملات التقليدية البرامجية، اللتي يتبارز فيها المتسابقون على سبيل نيل ثقة القواعد الإنتخابية، فإن اللذي يميز الأيام الأخيرة في السباق هذه المرة، هو التركيز على السيرة الذاتية والصفات الشخصية لكلا المرشحين، أكثر منه على ما يمس الإهتمامات الحياتية اليومية للناخب العادي، واللتي أهمها توفير فرص العمل وإستحداث نظام ضريبي عادل ورعاية صحية عملي أكثر إستجابة لإحتياجات المواطن العادي!
وبينما يتنافس في السباق على المقعد الرئاسي في هذه الدورة سبعة مرشحون، هم المرشحون المدرجون على قسيمة الإقتراع، فإن اللذي يبرز من بينهم جميعا ويسلط الإعلام الأضواء عليهم من دون غيرهم، هم مرشحوا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث لا يسمح لمن لا يحصل على نسبة أقلها 15% من إستطلاعات الرأي بالمشاركة في الحوارات الإعلامية المرئية!!
على غير المألوف من المرشحين للمنصب الرئاسي من الأسماء التقليدية للحزبين الرئيسيين، فقد ترشحت في هذا السباق أسماء من خارج العرف التقليدي، أهمها المرشح اليساري المستقل السناتور Bernie Sanders اللذي يتحالف عادة مع الديمقراطيون، واليميني رجل الأعمال الثري Donald Trump اللذي يحسب نفسه على الحزب الجمهوري! وبينما استطاع الأول خلال مرحلة الفرز الأولية للمرشحين أن يستقطب قطاعات واسعة من الجماهير، بلغت رقما قياسيا غير مسبوق في تاريخ مرشح غير تقليدي قبل أن يتبين لاحقا من خلال تسريبات Wikileaks حجم التآمر عليه حتى تم إسقاطه ، فقد استطاع المرشح الغني كذلك أن يجمع حوله أعدادا من الناس لفتت إنتباه كل متابع لهذا السباق، لكن دون أن تتمكن قوى المطبخ الداخلي للحزب الجمهوري من إيصال بديل عنه، ليصبح المنافس للمرشحة الديمقراطية Hillary Clinton، اللتي يخشون أن تكون إمتدادا لعهد الرئيس المغادر Obama، اللذي ينعتونه بتراجع مكانة أمريكا دوليا ناهيك عن مواقفهم من برنامجه للرعاية الصحية والمديونية والوضع الإقتصادي العام.
يعتبر الكثيرون من المراقبون والمحللون، أن السبب الرئيسي اللذي يكمن وراء الإلتفاف الغير مسبوق حول مرشحين غير تقليديين، هو سأم الجماهير من الرتابة في تبادل السلطة بين أكبر الحزبين، وعدم ثقتها بوعودهم الإنتهازية، وبرامجهم الموسمية عند موعد كل إنتخابات، وإن كنت أسمح لنفسي أن أضيف ولا أظن أنه اكتشاف جديد، وهو تطور فضاء الإتصالات وخاصة وسائل الإتصال الإجتماعي منها، اللتي كان لها الأثر الملموس على الإنفتاح ليس على الناس فيما بينها وحسب، ولكن الإطلاع على تجارب مجتمعات أخرى، خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار أن المجتمع الأمريكي، وعلى غير ما يتوهم الكثيرون فهو مجتمع كان حتى وقت قريب مغلق على نفسه، بالكاد يدري عن جفرافية البلاد اللتي تخوض بلاده فيها الحروب، اللتي امتصت خزينته وتسببت في مآس على صعد داخلية، و نالت من طمأنينة شعوب لم تنجو من جشع القائمون على صناعة الأسلحة، ناهيك دون عناء الإستطالة في التفسير عن دور اؤلئك اللذين يسيطرون على صناعة القرار السياسي، سواء القابعون منهم في البيت الأبيض أو داخل مطابخ الخارجية الأمريكية!
إذن هي أيام قليلة تلك اللتي تفصلنا عن مشاهدة الدخان الأبيض، وهو ينبعث مبشرا بالزعيم الجديد "للعالم الحر"، ولكن أيتها كانت النتائج فإن اليوم اللذي سيتلو إنقشاع ذلك الدخان، فلن يكون مثل سابقه من الأيام اللتي تعودنا فيها على الإنصراف كل لعمله وشأنه لحين قدوم موعد إنتخابي جديد، لكنه في تقديرنا سيكون هو اليوم اللذي لن يتردد التاريخ في تسجيله، أنه اليوم اللذي استفاق فيه الأمريكيون وبعد غفلة ليست بالقصيرة من الإستخفاف بعقولهم والعبث بمقدراتهم ومستقبلهم، حين سترفض الملايين نتائج الإنتخابات في حالة فوز المرشح اليميني السيد Trump، و حين ستحمل مسؤولية تلك الخسارة في الإنتخابات على السيدة Clinton، اللتي تبين أن منافسها في الإنتخابات الأولية كان قد أقصي عمدا على الرغم من برنامجه اللذي اصطف وراءه الكثيرين، و بالمثل فسوف ينطبق السيناريو نفسه كذلك في حالة فوز المرشحة الديمقراطية على المرشح الجمهوري، حيث سيشير أنصار الأخير بأصابع الإتهام على الحزب اللذي تبناه على مضض دون أن يقدم له أي نوع من الدعم الحقيقي نتيجة إنعدام الثقة في إمكانية مجاراته لمنافسته، على الرغم من تجاوب الأعداد الغفيرة من اليمينييون معه! ولكنه أيا كانت مبررات هذا الفريق أو الآخر، فإن الشيء اللذي يجمعون ويتفقون عليه في كلا المعسكرين وجلهم من الشباب وكثيرون بينهم من المستقلون، هو أنه لابد من التغيير و التمرد على الوضع التقليدي الراهن (Status quo) اللذي هو أسير مصالح الحزبين الرئيسيين، ولا نستبعد أن نرى تقاطعا في المواقف، بل وأحيانا الإنتقال من صف إلى آخر، من المرجح أن تؤدي في النهاية إلى ثورة بكل ما تحمل هذ الكلمة من معان في ثناياها، سيقودها الجيل الشاب الجديد اللذي يظهر إنفتاحا عقليا وفلسفة عميقة وتفهما قل نظيره فيما عهدناه عمن سبقه واللذي كنا نصفه بالساذج!
كاتب فلسطيني - واشنطن