2024-11-29 07:42 ص

الطبخة أمريكية والحطب تركي

2016-10-30
بقلم: لؤي توفيق حسن*
سيكتشف اردوغان بأنه يقاتل نيابةً عن امريكا وأسرائيل في هذه اللعبة مبدداً ما راكمه من انجازات منذ وصول حزبه للسلطة، لاسيما بعدما اصبح المساهم الأول في تدمير سوريا،متوهماً بانه سيستطيع ان يضعها تحت جناحيه مستنسخاً في ذهنه الأحلام العثمانية، ولعل ما سمح لأحلامه ان تبالغ في تحليقها، وصول إخوان مصر إلى السلطة ما اغراه بإعتماد الوسيلة ذاتها في سوريا وفي خطوة تنطوي على حماقة سياسية كبيرة، ومسلك اخلاقي جاحد.
أما الحماقة السياسية فتبدت في ثلاثة أمور: اولهما أن التاريخ  لايمكن ان يعيد نفسه – هذا في المبدأ - لأن الشروط التي تنضج ظاهرة ما لا يمكن ان تتكرر بحكم حركة التاريخ وسنة التطور، فالدولة العثمانية ما كانت لتتمكن في القرن السادس عشر من هذا التوسع لولا الفراغات السياسية المحيطة بها ؛ ولتبيان ذلك حديث أخر خارج بحثنا الحالي.
والأمر الثاني أن اردوغان أساء في تقدير أمكانيات الفرع السوري للإخوان، تنظيمياً او حضورا أو بالحد الأدنى خبرةً سياسية. ولو قرأ اردوغان التاريخ السياسي لسوريا سيتضح له بأن أخوانها كانوا خارج الحياة السياسية كلياً منذ مطلع الثمانينات مع تصفية تنظيمهم، فضلاً أنهم في احسن حالاتهم في خمسينات القرن الماضي كانوا خارج دائرة التأثير السياسي مقابل الأحزاب السورية التقليدية مثل الحزب الوطني او حزب الشعب، او العابرة للحدود  كالحزب السوري القومي، وغيره من قومية ويسارية. 
وقد دفعه سقوط رهانه على الإخوان للهروب إلى الأمام متعاملاً مع الذئاب من «داعش» و«النصرة» وما شابهها، فإذا بهذه تنقلب عليه لتنهش  في الداخل التركي، ما أضطره لقطع حبل السرة معها. الأمر الذي حرمه حتى من فرصة المبادلة عليها في بازار التسويات كما كان يحلم !، لينطبق عليه قول المتنبي : ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده.. يصيره الضرغام فيمن تصيد.
والأمر الثالث أن ما حصل عليه من مكتسبات ومزايا اقتصادية من نظام الرئيس بشار الأسد، هو في ميزان الواقعية السياسية اجدى وأضمن من مغامرة الأنقلاب على خياراته التي اعتمدها في السابق: «صفر مشاكل مع الجوار»!. وهي في ميزان الأخلاق غدر وجحود، وهنا تنتصب الأرقام إثباتاً. حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وسوريا في عام 2011 قرابة 3 مليار دولار . وكان المقرر أن تصل في السنوات الخمس التالية له إلى 8 مليار دولار وذلك من خلال 51 اتفاقية وبروتوكول بين البلدين اضافة الى اتفاقيات ذات طابع امني وذلك كله تحت جناح «مجلس التعاون الاستراتيجي السوري التركي»، في ظاهرة غير مسبوقة بين سوريا وأي دولة أخرى بما فيها ايران. وتظهر الإحصائيات ارتفاع عدد المشاريع الاستثمارية التركية في سورية خلال 5 سنوات بنحو 100%، منها على سبيل المثال استثمارات لمتمولين أتراك في المدينة الصناعية بحلب شكلوا وحدهم نحو 40% من مجمل المستثمرين العرب والأجانب، وللمفارقة فإن هذه العلاقات كانت غالبيتها لصالح تركيا،  حتى أثرت سلباً على قطاع الأعمال السوري، إذ تعرضت «صناعة المفروشات المنزلية لمنافسة قوية أدت إلى إغلاق 20% من المنشآت في هذا القطاع».
 كما تراجعت صناعة الملابس والنسيج السورية؛ وقدرت «هيئة تنمية وترويج الصادرات السورية» عدد المنشآت النسيجية التي أغلقت بشكل جزئي أو كامل، جراء ذلك بما يتراوح بين 70 و100 منشأة.!
فضلاً عما سبق فقد شكلت سوريا ممراً مثالياً للبضائع التركية التي اجتاحت الأسواق اللبنانية والأردنية والمصرية، فضلاً عن أسواق بلدان الخليج (الفارسي) ناهيك عن السوق السورية. يضاف إلى ماسبق ذكره على المستوى الاقتصادي، ابعاد أخرى ثقافية وفرتها اتفاقيات ذات صلة حتى شاعت موجة الدراما التركية في الفضائيات.
ترى أليس كل ما سبق هي القوة الناعمة او لغة العصر الجديدة  الكافيةً ليلج بها «الحلم العثماني» لأردوغان!.
بل هي الأكثر ثباتاً. هل كان يمكن لأردوغان ان يحصل على ما هو اكثر من هذا حتى لو كان على رأس النظام السوري حكومة إخوانية!!. ولو قرأ أردوغان تاريخ الدولة العثمانية لإستخلص العبر، وفي مقدمتها ممانعة الغرب لأي خطوة جدية هادفة لبناء منظومة مشرقية عابرة للحدود سواء كانت على قاعدة أسلامية او اقتصادية. بمعنى انه لو قبل الواقع جدلاً قيام «كمنولث إخواني» من انقرة إلى القاهرة مروراً بدمشق وعمان فإن اول ما سيستشعر خطره «اسرائيل» وعرابتها أمريكا. كان على اردوغان في حمأة هذا الإرباك الأمريكي في منطقتنا أن يمرر إتفاقياته مع سوريا ويعممها مع العراق بوصفها البديل الممكن والواقعي. والنواة الصلبة لمنظومة اقليمية في وجه العواصف التي لن توفره كما سيأتي لاحقاً.  
يتحول أردوغان بعد تكسر حلمه العثماني على الصخرة السورية لينتهج الخيار «الكمالي»!، أي توسيع حدود تركية  كما فعل كمال اتاتورك مع تعديلات في العناوين!، وهذا أيضاً نوع من المعاندة التاريخية الفاشلة لأنها خارج الزمن!!، فقد جرى ذلك ذات يوم وسوريا مكبلة بالإنتداب الفرنسي. فضلاً عن ان بديله «الكمالي» يقع خارج سياق القواعد الاستراتيجية حيث الأمن القومي لتركيا لا يبدأ بالقطع من جرابلس أو الباب، ولامن الموصل أيضاً!
 وقد ثبت في المبدأ فشل «الأحزمة الأمنية» أبتداءً من جنوب لبنان. غير أن هذا الخيار لو تأملنا فيه بعقل بارد سيشكل منزلقاً أخر لتركيا يقودها إلى توسيع دائرة أعدائها، أو ربما مدخلاً لحروب تستنزفها وتضعف مناعتها!  وهاهي تشكيلات مقاومة عربية كردية تتجهز للتصدي للخرق التركي، سيقابله بالتواتر تحرك كردي لحزب العمال على الجانب التركي. إن كل ما سبق ربطاً بمحاولة الانقلاب الفاشل في تركيا الصيف الماضي، ليس مصادفةً بل يصب في طاحونة «الفوضى الخلاقة» وبالتالي إضعاف تركيا، يلاقيه الاستثمار الجيوبوليتيكي لأمريكا واسرائيل  بدعم واحتضان كيانات كردية في الجانب العربي، مما سيتداعى مع الزمن -«بقانون الدومينو»-  إلى الضفة التركية مهدداً وحدة أراضيها التي يقع فوقها موزاييك من الأثنيات. وبذات الكيفية وبمنصة الكيانات الكردية المستحدثة ستكون ايران أيضاً في دائرة الأستهداف!. واضعين نصب أعيننا الثابت الأستراتيجي لأمريكا وربيبتها «اسرائيل» في تقزيم الدول الأسلامية الكبرى في المنطقة من وزن ايران وتركيا ومصر!
 لقد جرى توريط تركيا في المستنقع السوري والعراقي من قبل امريكا، وما حصل عليه اردوغان من وضع اليد على أراضي الجوار السوري والعراقي لا يصلح في بازار مفاوضات الكبار، فأمريكا ستفاوض عليها سواء بسواء كما على رأس داعش والنصرة  لتقبض هي الثمن! كما ان روسيا ستصبح معنية باستنزافه- اذا استمر اردوغان على عناده-  لمنعه من الأمساك بورقة تجني امريكا ثمارها في سوريا وفق ما اسلفنا، وذلك تحصيناً للموقع  الجيوستراتيجي السوري. الباب ليس موصداً امام اردوغان ليراجع حساباته. فهل من مخرج؟. لهذا حديث أخر.
*كاتب لبناني