تفقد أمريكا اليوم قدرة التحرك تجاه الأزمة السورية والحرب فيها والتسويات المقترحات لها، فواشنطن خسرت الرهان ولم تنجح حتى الآن في المعترك السوري لا عسكرياً ولا دبلوماسياً، والتحالف الدولي الذي كان بقيادتها رغم ولادته الضعيفة بدأ بالضمور بسبب الخلافات الحادة فيما بين دول التحالف، التي تركت شعاراتها السابقة خلف ظهرها، وفي مقدمة ذلك التخلي عن فكرة إسقاط نظام الأسد والابتعاد عن الحليف الأميركي ، الأمر الذي يعكس نتائج مهمة على الأرض في المستقبل المنظور لصالح سورية.
لذلك تعيش الولايات المتحدة أكثر مراحلها المتذبذبة في السياسة الخارجية، حيث فقدت العديد من حلفاؤها التقليديين، كما تبدو أوروبا غارقة في الإضطرابات الأمنية وتردي الأوضاع الإقتصادية وتنامي الهجرة الغير شرعية، وإحتمالات ضعف الاتحاد الأوروبي أو تفتته، وحالة الذعر من الإرهاب في عقر دارها، وهذا مؤشر واضح على بدء انحسار النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأـوسط بأكملها، لذلك باتت شعوب المنطقة تدرك جيداً أن نفوذ أمريكا أصبح في تراجع مستمر والسبب هو عدم قدرة واشنطن على تولي القيادة وتعزيز شعبيتها على مختلف المستويات في المنطقة، فقد رأينا كيف فقدت إدارة أوباما مصداقيتها عند حلفاؤها لا سيما ممن إعتمدوا عليها لحمايتهم وتحقيق مصالحهم، فإمتلاك روسيا زمام المبادرة في الأزمة السورية، أو ما برز من أزمة أمريكية سعودية تركية، أو إرتباك السياسة الأمريكية تجاه ما يمسى بالربيع العربي في مصر وتونس أو في ليبيا واليمن، فضلاً عن إهتزاز علاقاتها بالدول الأوروبية نفسها، كل هذا دليل على عجز المخطط الأميركي من التقدم بسياسات مدروسة ومتماسكة.
يعتقد الرئيس الروسي بوتين أن الغرب تمادى في التدخل في مناطق هيمنة روسيا، وأن الحرب على سورية هو مخطط أعده الغرب، أمريكا بالتحديد، من أجل الإطاحة بنظام الرئيس الأسد، مما أوجب التدخل العسكري الروسي في المنطقة، وأمام التصعيد الخطير في الصراع بين أمريكا وموسكو في معركة حلب، أعلنت أمريكا قائمة من الخيارات العسكرية ردا على إنتصار الجيش السوري وحلفاؤه في معظم المناطق السورية، تضمت هذه الخيارات، توجيه ضربات جوية لمواقع الجيش السوري، بحجة إرتكابه جرائم بحق المدنيين في شرق حلب، وتزويد التنظيمات المسلحة بأسلحة نوعية، منها صواريخ محمولة مضادة للدبابات والطائرات، وفرض منطقة حظر جوي علي الطائرات السورية فوق عدد من المناطق التي تسيطر عليها هذه التنظيمات، لكن موسكو قطعت الطريق أمام كل الخيارات العسكرية الأمريكية بنشر منظومة جديدة من صواريخ إس 300 المضادة للصواريخ والطائرات، والتي يمكن أن تنقل روسيا تشغيلها إلى الجيش السوري إذا تعرض لضربات جوية أمريكية، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا للدور الأمريكي في الأزمة السورية، إلي جانب إرسال 3 قطع بحرية من البحر الأسود إلي ميناء طرطوس، والمزودة بصواريخ متطورة، وإعلان روسيا أن أي إعتداء على الجيش السوري يهدد قواتها، وسيدفعها إلى الرد على الاعتداء، كون روسيا مع دمشق في خندق واحد، وعلى ذلك فإن الحديث عن حرب ضد دمشق يعني حرباً ضد موسكو، وبالتالي لا يمكن لإدارة أوباما أن تستفز موسكو بحيث تدخل معها حرباً في أي منطقة من العالم، هذا مما يجعل الإدارة الأمريكية تتروى كثيراً قبل إعلان الحرب ضد سورية .
إستعادت روسيا ذلك الأدراك بعد شعورها بأن الأمريكيين تمادوا في تطلعاتهم نحو منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر منطقة حيوية وإستراتيجية لروسيا , ولا يستبعد على روسيا ذلك الرد في خطابها السياسي نحو الأمريكيين, لأن سلامة مناطقها من سلامة أمنها القومي , فهي اليوم لا تتوانى عن دعم الجيش السوري ضد أمريكا وحلفاؤها, بصفتها حليف إستراتيجي بالمنطقة ضد توسع النفوذ السياسي الأمريكي الذي بات مهيمن على العالم ، لذلك فأن تحدي سورية لأمريكا وأخواتها نابع من الدعم الروسي وحلفاؤه لدمشق، كما أن صمود سورية وثبات الموقف الروسي والصيني والدعم الإيراني والعراقي مثلت عوامل هامة في بقاء النسق السوري ونجاحه، وقابل ذلك اهتزاز وتراجع مستمر في الموقف الغربي وتخبط كبير في الموقف العربي، و انكشاف دور تركيا ومخططاتها في المنطقة، لذلك ندرك جيداً أن روسيا من هذا المنطلق أسهمت بقدر كبير في تغيير الصورة الجيوسياسية في الشرق الأوسط ما جعل خسائر الأمريكيين تزداد وتتعاظم في المنطقة.
مجملاً....إن المشروع الأمريكي الغربي فقد طابعه الإستراتيجي وسقط الرهان الأميركي على إيجاد إرادة دولية فاعلة تضغط على الروس وحلفاءهم لقبول حل يغير النظام في سورية خاصة بعد شن الطائرات الروسية هجومها على كافة مواقع الجماعات المسلحة والقوى المتطرفة الاخرى وتحقيق إنجازات كبيرة في مختلف المناطق السورية وترسيخ قوة الجيش السوري الذي اثبت أنه عقائدي من الدرجة الأولى ومقاتل شرس في الميدان، وبإختصار شديد يمكنني القول، إن ما تمر به سورية حالياً هي فترة قاسية ولكن مؤقتة في تاريخها، وإن سورية وروسيا في مرحلة بناء استراتيجية جديدة في المنطقة، وأن كلا منهما يحتاج الآخر لإحداث توازن في العلاقات الدولية ، كما "بوتين والأسد" القويان هما الصخرة التى سوف تتحطم أمامها كافة المشروعات الأمريكية الغربية فى المنطقة ، وبالتالي فإن إنتصار السياسة الخارجية الجديدة لروسيا تسهم في إنبثاق عالم جديد, قائم على التعددية القطبية وإنهاء نظام القطب الواحد في العلاقات الدولية.
Khaym1979@yahoo.com