بقلم: عميرة ايسر
الاستفتاء الذي دعي إليه رئيس وزراء بريطانيا المستقيل ديفيد كامرون حول مستقبل بريطانية في علاقتها مع المنظومة الأوروبية , إذ أن كانت نتيجته في غير صالحه وهو الذي يحدد بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيث صوت 51بالمئة من الشعب في هذا الاستفتاء بأنه يجب علي بلدهم ترك هذه المنظمة الأوروبية في مقابل 49بالمئة كان يرون العكس,هذه النتيجة التي كانت صادمة ليس لأوروبا وإنما لكل المجتمع الدولي الذي لم يكن يتوقع أن تكون نتيجة التصويت سلبية , بريطانيا التي تعتبر من أهم الدول المؤثرة في أوروبا والتي كانت من ضمن المؤسسيين الفعليين لهذه المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأوروبية التي تضم 27دولة وتشكل احد مراكز صنع القرار المالي والاقتصادي والى حد ما السياسي في العالم,ولكن هذه النتيجة كانت متوقعة لعدد من المراقبين والساسة في بريطانيا وعلى رأسهم البرلماني السابق والناشط والإعلامي البريطاني المخضرم جورج غالاوي وكذلك زعيم حزب العمال جرمي كوربن الذي يتفادى الحديث عن هذا الموضوع ولكن الخلافات المحتدمة في حزب العمال تعكس تضاربا في الآراء فهو من المعارضين للاتحاد الأوروبي بينما نائبه توم واطسون يعتبر من اشد المؤيدين للبقاء ضمن دوله لان ذلك حسب رأيه فيه مصلحة اقتصادية وحماية اجتماعية لبريطانيا التي يشهد اقتصادها حالة من الركود الحاد بعد هذا القرار,وحتى الناخبين اليساريين منقسمون على ذاتهم بهذا الشأن إذ أن هناك حوالي 61بالمئة يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي بينما يعارض أزيد من 26بالمئة منهم ذلك,ومهما تكن النتيجة فان ديفيد كامرون حسبما يري ذلك الأستاذ حسن خليل المحلل السياسي والاقتصادي البريطاني قد أخطا أصلا عندما طرح فكرة تنظيمه لهذا الاستفتاء الذي كان يظن بأنه سيكون في صالحه وهذا ما سيزيد شعبيته في بريطانيا ويقوي موقفه الحزبي والحكومي ولكن انقلب السحر على الساحر,وحدث خلاف ما توقعه كلية وازدادت الانقسامات الحادة داخل المملكة المتحدة بعد أن بدأت تطفو على السطح رغبة انفصالية لدى سكان اسكتلندا الذين كانوا مع البقاء في الاتحاد الأوروبي ,إضافة إلى توقيع عريضة من مليونا شخص داخل بريطانيا تدعو لإعادة الاستفتاء لان النتيجة بين المؤيدين والمعارضين كانت متقاربة إلى حد كبير,وهذا أمر في نظر الكثيرين منطقي ولكنه صعب التطبيق,ولكن إن أخذنا هذه النتيجة بعين الاعتبار والتي جاءت نتيجة عوامل وأسباب وجيهة أهمها تقديم بريطانيا 30مليار جنيه إسترليني سنويا لمفوضية العليا للاتحاد الأوروبي من اجل مساعدة دول كبلغاريا أو اليونان وايطاليا اقتصاديا ودعم موازناتها السنوية أو عدم قدرتها على التخلص من العقبات والضغوطات التي يضعها الاتحاد من اجل التدخل لإنقاذ الصناعات الثقيلة الوطنية كصناعة الحديد والصلب الهامة والرئيسية لدولة صناعية كبرى كبريطانيا وكذا فالعقلية البريطانية الشابة والتي تعودت على الحرية والاستقلالية لم تعد تتقبل أن تدار شؤون لندن من بروكسل أو جنيف عبر المفوضية الأوروبية العليا والتي لم يقم الشعب البريطاني بانتخابها وهي ليست مسئولة أمامه بأي حال من الأحوال ولا يستطيع محاسبتها أو تغييرها لأنها معينة وليست منتخبة فأوروبا التي لطالما تغنت بحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية كالحق في الانتخاب.
-غير ملزمة أن تسيرها هيئة عليا منتخبة وهذا ما أصبح شيئا يشكل هاجسا لدي النخب المثقفة والسياسية التي صوتت لصالح انسحاب بلدهم من الاتحاد الأوروبي ,ولكن أهم سبب بحسب المراقبين هو تدفق أعداد كبيرة من ألاجئين السوريين والعراقيين والأفغان والسود إلى أوروبا وبريطانيا والذين يشكلون عبئا اقتصاديا إضافيا على الشعب البريطاني الذي لا يريد أن يغير هؤلاء المهاجرون من المعادلات الديمغرافية داخله وكذلك أن يأخذوا مكان مواطني البلد في التعليم والرعاية الصحية والوظائف وهذا ما يؤثر سلبا في عجلة التنمية والاقتصاد البريطاني, بريطانيا التي لها عملتها المستقلة وهي الجنية الإسترليني بخلاف عملة منطقة اليورو والتي تضم 19دولة كما أن مواطنيها يتمتعون بميزة شنعن وهو الحق في التواجد على أراضي دول الاتحاد الأعضاء دون تأشيرة سفر أو تعقيدات بيروقراطية أو أمنية حتى بعد التفجيرات الإرهابية في باريس وبروكسل,ويلزم بريطانيا التي لها مهلة عامين قبل الانسحاب الكلي من الاتحاد الأوروبي موافقة دوله كلها وهي 27ان أرادت العودة وذلك طبقا للمادة 50من قانونه الأساسي وهى المهمة التي تركها ديفيد كامرون لخليفته في منصب رئاسة الوزراء,ويبدو أن الشركاء الأوروبيون وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا لن يجعلوا الأمر يبدو سهلا على الإطلاق لان هذا الزلزال ستكون له تبعات مهمة ,وهذه الدول تخشي بان تكون خطوة بريطانيا نبراسا لكثير من الدول التي بدأت تعلو فيها أصوات تطالب دولها بان تحذو حذوها ومنها الجبهة الوطنية الفرنسية بقيادة ماري لوبان والحزب اليمني المتطرف في ايطاليا واسبانيا وغيرها من دول الاتحاد,فأوروبا القديمة كما وصفها دونا لد رامسفيلد قد تبدأ في التآكل وربما الانهيار التدريجي بعد قرار كهذا,والذي لن يؤثر على أوروبا وحدها بل سيكون له تأثير كبير على سياسات بريطانيا في الشرق الأوسط والذي تعتبر بريطانيا لاعبا فعالا وتاريخيا فيه منذ اتفاقيات سايس بيكو سنة 1916وتوقيع وعد بلفور المشئوم سنة 1917الذي تعهد السير آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا وقتها.
- لأل روتشيلد بتنفيذه خدمة لحركة الصهيونية وعلى أساسها تم إنشاء دولة إسرائيل سنة 1948طبعا بدعم ومباركة بريطانية واضحة,وحتى بعد الحرب العالمية الثانية وتراجع دور بريطانيا الجيواستراتيجي في المنطقة لصالح قوي عظمي كفرنسا وأمريكا وروسيا ولكنها بقيت متواجدة بقوة سواء عبر شركاتها النفطية أو من خلاف قواعدها العسكرية أو المشاركة في احتلال البلدان العربية وغزوها في تماهي جلي مع السياسة العسكرية والأمنية والإستراتيجية الأمريكية في هذه المنطقة البالغة الأهمية من الناحية الجغرافية والطاقية ,وغزوها للعراق ومشاركتها بقوات التحالف الأمريكي خلال حرب تحرير الكويت سنة 1991او خلال الغزو الأمريكي للعراق سنة2003او في الأزمة السورية أو الليبية من خلال قوات حلف الناتو تحت ذرائع شتى ومتعددة أهمها نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب,فالسياسة البريطانية الخارجية في المنطقة ستتغير ولكن ليس كلية وإنما بما يخدم الأهداف الاقتصادية العليا لبريطانيا وبما يخدم أمنها القومي ,وستزيد من حجم تعاملاتها الاقتصادية مع دول الخليج الغنية بالنفط ,في مجالات بيع الأسلحة ومكافحة الإرهاب وزيادة الصادرات الصناعية والتكنولوجية البريطانية إليها ,وعموما فان التبادلات التجارية بين أوروبا ودول الخليج كانت تفوق 150مليار دولار منها,100مليار دولار استيراد وتصدر دول الخليج 50مليار دولار معظمها منتجات نفطية,ومنذ سنة 2008ومفاوضات التجارة بين أوروبا ودل الخليج مجمدة وتوقع اقتصاديون أن خفض قيمة اليورو والجنيه الإسترليني سيخفضان الواردات الأوروبية إلى دول الخليج العربي,ويرفعان بالتالي من حجم الاستثمارات الخليجية في بريطانيا,حيث يتوقعون تراجع أسعار العقارات إذ قد تتأثر بسبب هبوط قيمة الأصول,أما في منطقة الشام وسوريا فان الأهمية الإستراتيجية لها في السياسة الخارجية البريطانية ظهرت في وقت مبكر إذ جاء في كتابات اللورد ستافيكسري إذ يقول أنها ضربة لانجلترا إذا استولت أي من الدول التي تنافسنا على سوريا فإمبراطوريتنا التي تمتد من كندا في الغرب إلى استراليا في الجنوب الشرقي تقطع إلى قسمين.
-وعلى انجلترا أن تصون سوريا لنفسها,و ألا تستخدم السياسة الخارجية في تنمية الشعور القومي اليهودي ومساعدتهم في بناء وطنهم,فبريطانيا لها نفوذ تاريخي في هذه المنطقة تريد الحفاظ عليه واستمراره بعيدا على حلفاءها في الاتحاد الأوروبي إذ أن لها قوات خاصة منتشرة في كل من سوريا والعراق وليبيا وتعمل على إيجاد حلول لمشاكل هذه الدول العربية التي تشهد حروبا مذهبية وطائفية نتيجة السياسة الغربية الصهيونية التي عملت طوال عقود على إذكاءها بشتى الطرق والوسائل ,وذلك بما يخدم ضمان مصالحها لأطول مدة ممكنة ويثبت وجودها الأمني والاقتصادي على الأقل,وإسرائيل التي تشكل اكبر حليف موثوق ومعتمد لدى بريطانيا في الشرق الأوسط والتي لطالما راعت بريطانيا مصالحها على حساب حلفاءها العرب كمصر والسعودية وغيرها من الدول,شكل انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صدمة غير متوقعة في الأوساط السياسية والأكاديمية الصهيونية وهذا ماجاء في احد أعمدة صحيفة هارتس الصهيونية التي تعتبر ذات توجهات ليبرالية ,بان تل أبيب قد خسرت يوم الجمعة شيئا مهما من الناحية السياسية داخل الاتحاد الأوروبي,الأقوال التي تحدث بها رئيس الحكومة ديفيد كامرون في اللقاء مع الجالية اليهودية قبل الاستفتاء ببضعة أيام,عكست جيدا ما يفكر فيه الكثيرون في وزارة الخارجية الإسرائيلية,هل تريدون بريطانيا الصديق الأكبر لإسرائيل هناك في الداخل تعارض المقاطعة وتعارض إبقاء العقوبات وسحب الاستثمارات من إسرائيل؟أم تريدونها خارج الغرفة,من دون قوة تأثير على ما يحدث في الداخل,بريطانيا دولة مركزية في الاتحاد الأوروبي وفيها جالية يهودية كبيرة وحكومة صديقة.
-وقد كان لها في الفترات الأخيرة تأثير ايجابي في صالح إسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي,وتعكس هذه الرؤية مدي الامتعاض الإسرائيلي حتى في الصحف العبرية من هذه الخطوة البريطانية إذ ستكون لها تداعيات سلبية ومؤثرة على القرارات التي تتخذ في الاتحاد الأوروبي ضدها ,في ظل ازدياد حملات المقاطعة الأوروبية لبضائع المستوطنات الصهيونية,ولكن رغم أن بريطانيا لم تعد مرتبطة بهذا الكيان والوعاء السياسي الذي يعتبر الأقوى في القارة الأوروبية,ولكن عقيدتها الاستعمارية لن تتغير كما يري المفكر العربي والاقتصادي الدكتور جورج قرم,لأنها تحررت من عبئ الاتحاد الأوروبي حتى تكون حرة في اتخاذ القرارات السياسية المصلحية التي ستزيد من قوتها ونفوذها على كافة الأصعدة وفي شتى الميادين لكي توازن بين تحالفاتها الإستراتيجية مع أمريكا والقيم الغربية الانجلوسكسونية ,وبين رغبتها في إحياء إمبراطوريتها القديمة والتي كانت لا تغيب عنها الشمس,فالعقلية الانجليزية لم تتغير بل يراد لها أن تتغير بما يتناسب مع المتغيرات الدولية والإقليمية في ظل النزعة الفردية لدى دول عدة في إعطاء الأولوية لخدمة مصالحها القومية القطرية على حساب مصالح التكتلات السياسية التي تنتمي إليها وهذه الظاهرة ليست حكرا على الاتحاد الأوروبي إذ لطالما اتخذت دوله مواقف تخدم مصالحها كدول بعيدا عن المصلحة الجمعية لاعضاءه,فروسيا قامت بنفس الشيء في منظومة البر يكس وإيران وغيرها,فلندن تريد أن تبني علاقات مع الدول العربية بما يوسع من رقعة تواجدها الجغرافي ليس في الشرق الأوسط بل في دول وبلدان المغرب العربي,وربما مستقبلا تقيم قواعد عسكرية دائمة لها في دول كالمغرب أو ليبيا.
-ورغم أن أمريكا التي ساءها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تعتبر ألاعب الأكثر حضورا في منطقتنا العربية ولكن الدور البريطاني سيتعزز أكثر مع مرور الوقت لان بريطانيا في ظل كل ما يحدث لن تقف مكتوفة الأيدي من الصراع والتكالب لدول عظمى وإقليمية لسيطرة على مقدراتنا وخيرانا فهي تريد أن تكون من يقرر ويضع القواعد وليست مجرد تابع ومنفذ للسياسات الأمريكية وما يؤيد هذه القراءة هو أن البحرية الملكية البريطانية على غير المتوقع قد زادت من عدد قطعها البحرية الحربية والعسكرية في البحر الأبيض المتوسط بدليل أنها أنقذت مؤخرا حوالي 500 مهاجرا غير شرعي من الغرق في منطقة المتوسط ,وهذا يعكس الرغبة البريطانية في العودة وبقوة إلى أن تعود قوة بحرية يحسب لها ألف حساب إضافة إلى زيادة عدد قواتها البرية في سوريا ,بل وتدريبها لتنظيمات تقاتل النظام السوري كجيش سوريا الجديد وهذا ما يؤكد أن بريطانيا تكون قد جعلت من أولويات سياساتها الخارجية بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي استعادة نفوذها الاستعماري القديم في الدول العربية.
*كاتب جزائري