منذ بدء التوغل التركي في سوريا الأربعاء الماضي، أوحت تصريحات مسؤولين أميركيين وأتراك أن العملية حصلت بالتنسيق بين واشنطن وأنقرة على رغم التوتر الكبير القائم بينهما. وأشادت وزارة الدفاع "البنتاغون" علناً بما وصفته بأنه تنسيق وثيق أميركي-تركي.
ويقول تقرير لصحيفة النهار اللبنانية ان القتال الذي اندلع لاحقاً بين فصائل مختلفة تحظى بدعم أميركي أحرج الادارة الاميركية التي واجهت انتقادات جديدة لسياستها السورية.
وفيما بلغت الانتقادات حد القول إن واشنطن تخوض حرباً بالواسطة ضد نفسها في شمال سوريا، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تصريحات لمسؤولين أميركيين عن انهيار تنسيق أميركي-تركي لعملية مشتركة في شمال سوريا، مشيرة إلى أنه بينما كان البيت الابيض يستعد لوضع خطة سرية لاشراك قوات خاصة أميركية مع القوات التركية، أطلقت أنقرة الهجوم في شكل أحادي من دون إخطار المسؤولين في واشنطن. وعندما بدأت الاشتباكات بين القوات التركية والمقاتلين الأكراد الذين يحظون بدعم القوات الخاصة الاميركية، أصدر "البنتاغون" نداء غير عادي للجانبين للتراجع.
ويوضح مسؤولون أميركيون إن قرار تركيا قوض جهوداً خلف الكواليس لإخراج المقاتلين الأكراد السوريين من المنطقة أولاً، وأثار تحدياً جديداً شائكاً للولايات المتحدة، مع دخول اثنين من أهم شركائها في الحملة على داعش في قتال بينهما بدل مواجهة التنظيم المتشدد.
وأثار انهيار التنسيق مستوى جديداً من التوتر بين واشنطن وأنقرة بعد التوترات التي أثارتها حملة التطهير الواسعة التي أطلقلها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعد الانقلاب الفاشل في 15 تموز وفق النهار
تحذير اميركي
إلى ذلك تقول الصحيفة الاميركية إن مسؤولين في واشنطن حذروا نظراءهم الأتراك من أن أميركا لن توفر دعماً جوياً للقوات الكردية التي تندفع جنوباً، داخل الاراضي السورية، وإن تكن ستستمر في دعم القوات التركية التي تتحرك غرباً الى المنطقة الحدودية المهددة من "داعش".
كذلك، أبلغ مسؤولون أميركيون الى الأكراد أن الدعم الجوي الاميركي رهن بتحرك قواتهم شرق الفرات والتقدم جنوباً في اتجاه الرقة، عاصمة الخلافة، وذلك لضمان عدم حصول مواجهة بينهم وبين الأتراك.
ربيع 2015
وفي إعادة بناء للأحداث التي سبقت التوغل التركي الاخير في سوريا استناداً الى مقابلات أجرتها الصحيفة مع مسؤولين أتراك وأميركيين، يبدو أن النقاشات بين واشنطن وأنقرة على عملية مشتركة على طول الحدود السورية-التركية تعود الى ربيع 2015.
وبموجب الاقتراح التركي الاصلي الذي ناقشه أردوغان مع جنرالاته الكبار في حزيران 2015، كانت حكومته سترسل نحو 2000 جندي عبر الحدود. وفي حينه كان المسؤولون الأتراك مقتنعين بالارادة السياسية لاطلاق العملية الى درجة أنهم صاغوا بيانات اعلامية تعلن القرار العسكري.
وإضافة الى القوات التركية، كانت أنقرة تريد من الادارة الاميركية أن تلتزم إرسال كوماندوس، الا أن البيت الابيض لم يتحمس للفكرة، وفقا لمسؤولين أميركيين. وبدل اللجوء الى قوات برية أجنبية، اتفقت واشنطن وأنقرة على استخدام السلاح الجوي والمدفعية لدعم الاف المقاتلين السوريين الذين يتحركون لتطهير 60 ميلاً من الحدود.
وقدمت أنقرة أسماء الوحدات المقاتلة التي تريدها أن تنفذ العملية البرية، مفسحة لوكالات الاستخبارات الأميركية المجال للتدقيق في صلات محتملة لهم بارهابيين. وفي حينه، رفض الاميركيون مشاركة "أحرار الشام" إحدى اكبر الجماعات التي أدرجها الاتراك على القائمة، بحجة أنها "متطرفة جدا".
ولكن محادثات بين الاميركيين والاتراك في شأن العملية المشتركة انهارت الصيف الماضي، عندما شكك "البنتاغون" وبعض الجنرالات الاتراك في قدرة أنقرة على تعبئة ما يكفي من المقاتلين لتنفيذ المهمة المقترحة.
وصُرف النظر عن العملية على اعتبار أنها صارت غير ممكنة بعد التدخل الروسي المباشر في سوريا العام الماضي لدعم الرئيس السور بشار الاسد، وخصوصاً بعد اسقاط المقاتلات التركية مقاتلة روسية على الحدود الروسية-السورية. وانشغلت فصائل من المقاتلين الذين تدعمهم تركيا برد الهجوم على حلب.
وتنقل "الوول ستريت جورنال" عن مسؤول تركي بارز إن المحادثات تجددت في الشتاء خلال وقف قصير للنار ثم قدمت تركيا في آذار لائحة بأسماء 1800 مقاتل سوري لتنفيذ العملية.
وزادت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في تموز التوترات مع الولايات المتحدة، ولكن قيادات عسكرية من الطرفين كانوا مصرين على عدم السماح للخلاف بالتأثير على التنسيق ضد "داعش".
وبعدما التقى أردوغان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التاسع من آب، أرسلت أنقرة بعثة عسكرية رفيعة المستوى الى روسيا لمناقشة العملية المقررة في سوريا. وطمأن الروس المسؤولين الأتراك الى أن موسكو لن تستهدف القوات التركية إذا تحركت عبر الحدود، استناداً الى مسؤولين أتراك كبار.
وتطورت خطط تركيا في 13 آب عندما استولت قوات سوريا الديموقراطية التي يسيطر عليها الأكراد، بدعم من قوات كوماندوس أميركيين على منبج الواقعة على طريق الامداد الاستراتيجي ل"داعش" بين الرقة والحدود التركية. والاسبوع التالي، دقت أجراس الانذار في أنقرة وواشنطن عندما بدأ بعض الوحدات الكردية التحرك شمالاً في اتجاه الحدود التركية.
ووافقت تركيا على العملية الاميركية لتحرير منبج من "داعش" بعد تلقيها ضمانات من واشنطن بأن وحدات حماية الشعب التي تتولى قيادة الهجوم ستغادر البلدة ذات الغالبية العربية بعد الحاق الهزيمة بالجماعة الجهادية، وتعود الى شرق الفرات.
وبحلول 17 آب، كانت تركيا تستدعي الفصائل السورية المشاركة في الهجوم المخطط له، وبدأت قوى الامن التركية تنقل هؤلاء المقاتلين الى مواقع على الحدود التركية. في غضون ذلك، كانت عناصر كردية تحتل مزيداً من القرى حول منبج بدل أن تنحسب كما وعدت الاميركيين. كذلك، أشار بعض الزعماء الأكراد إلى أن هدفهم العسكري التالي هو جرابلس الواقعة على الحدود التركية، لا الرقة، وإن يكن مسؤولون أميركيون أكدوا أن القوات الكردية التي يدعمونها لم تهدد قط بالذهاب الى جرابلس.
وبحلول 20 آب، كان لتركيا سبب جديد لشن الهجوم، مع استهداف انتحاري من "داعش" احتفال زفاف في غازي عنتاب ما أدى الى مقتل 54 شخصاً على الاقل.
وقال مسؤولون أميركيون وأتراك إن الجيش التركي أراد أن يبدو حاسماً ويظهر ولاءه لأردوغان، بعد الانقلاب الفاشل.ومع بدء المقاتلين السوريين تعبئة صفوفهم، أطلع العسكريون الأتراك نظراءهم الاميركيين في تركيا على خططهم، وطلبوا فرقة من قوات العمليات الخاصة الاميركية لدخول جرابلس مع قوات الكوندوس التركية، على أن يتولى الكوندوس الاميركيون استدعاء الغارات والتنسيق مع مقاتلي المعارضة على الارض.
ودعم "البنتاغون" الخطة التي نصت على نشر 40 من قوات الكوماندوس الاميركيين. وفي وقت مبكر من الاسبوع، بدأ محادثات مع البيت الابيض في شأن عملية برية مشتركة.
وكان "البنتاغون" يتطلع الى رد سريع، ولكن البيت الابيض الحذر حيال نشر قوات أميركية على جبهة أخرى داخل سوريا، رد بأنه يريد بعض الاجابات قبل أن يتحرك.
وكان البيت الابيض يريد خصوصاً معرفة كيف ستتم حماية القوات الخاصة نظراً الى وجود مقاتلين على صلة ب"القاعدة" في المنطقة.
واعتبر مسؤولون عسكريون أن طلب البيت الابيض مزيداً من المعلومات يعادل رفضاً للخطة لأنه يعرف أن الاتراك يريدون التحرك سريعاً.
وبينما كان البيت الابيض ينتظر إجابات على أسئلته، ضغط "البنتاغون" على أنقرة لمنح النقاشات الاميركية مزيداً من الوقت، في الوقت الذي كان مسؤولون أميركيون يحاولون إقناع القوات الكردية بمغادرة المناطق التي ستنتشر فيها القوات التركية.
وفي وقت متأخر من 23 آب، أبلغ البيت الابيض الى "البنتاغون" أنه مستعد لاجتماع رفيع المستوى في اليوم التالي للنظر في اقتراحه لمشاركة قوات اميركية خاصة في العملية التركية، ولكن خلال الليل أطلقت تركيا هجومها من دون اعطاء واشنطن انذاراً مسبقاً.
وقال مسؤول أميركي رفيع المستوى أن الاقتراح لم يصل أبدا الى مكتب الرئيس باراك أوباما. وفيما صورت تركيا الحملة على أنها عملية مشتركة مع التحالف الذي تقوده أميركا، نفذت المقاتلات التركية الغارات الأولى وحدها من دون مظلة التحالف الدولي.
وأكد مسؤولون اميركيون أن مقاتلة تركية قصفت مواقع في سوريا انطلاقاً من المجال الجوي التركي.
وعندما أدرك القادة العسكريون الاميركيون في المنطقة أن القوات التركية أطلقت عمليتها من دون الاميركيين، استخدم قائد القيادة المركزية الاميركية سلطاته للطلب من القوات الاميركية في المنطقة توفير دعم جوي محدود للأتراك بواسطة مقاتلات "أف 16" و"أ10".
وبدل المشاركة في الخط الامامي، اتخذت قوات العمليات الخاصة الاميركية مواقع على الاراضي التركية المطلة على جرابلس، محاولة توجيه الغارات الاميركية من هناك.ولكن مسؤولين قالوا إن الكوماندوس لا يستطيعون الا القيام بأمور صغيرة من بعد.
وانتهت معركة جرابلس التي اعتقد مسؤولون أميركيون أنها ستستغرق أياماً أو أسابيع في غضون ساعات من دون مقاومة كبيرة.
واستغل مسؤولون أتراك سرعة تحرير جرابلس كدليل على أن الاميركيين كانوا مخطئين في التشكيك بقدراتهم.
ويقر مسؤولون أميركيون بأنهم أساؤوا تقدير تصميم "داعش" على التمسك بالبلدة، إلا أنهم يبدون قلقاً أكبر حالياً من خطر غرق دولة في حلف شمال الاطلسي في سوريا وتخفيف الضغط من دون قصد عن "داعش".