ناشيونال إنترست – التقرير
في كتابها، وفي فيلمها الوثائقي القادم “الحكم الأمريكي”، شبهت المؤرخة “إليزابيث كوبس”، الدور العالمي لأمريكا بذلك الرجل الذي يلبس الأزرق في ملعب البيسبول، بعد تأسيسها لقوانين النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وفرضها هذه القوانين على العالم، بينما كان الآخرون في ضلالهم، إلا أن العم سام سمح للجميع بدخول اللعبة.
لكن لم يكن الأمر بتلك السهولة، بل إن التكلفة في ارتفاع. وكانت خلاصة الفيلم (تنبيه بالإفساد)، الاعتراف بأن أفضل حكّام البيسبول يحتاجون المساعدة. ليس من المعقول أن يقوم الحكم “جون هيرشبيك” بتسمية الكرات والضربات، التي داخل مركز الملعب، بشكل آمن أو خارج القاعدة الأولى، أو تسمية “قبض عليه وهو يسرق” –مصطلح في كرة البيسبول- في الضربة الثانية، بنفسه. لهذا يوجد أربعة حكام يعملون بشكل نموذجي في لعبة البيسبول، إضافة إلى ستة أو سبعة حكام يعملون في تنظيم التصفيات والدورات العالمية.
وعلى نحو مماثل، لن يكون من الواقعية أن نعتقد أن دولة واحدة، حتى لو كانت بعظمة وقوة مثل الولايات المتحدة، أن تدير النظام الدولي لوحدها، دون أن ترتكب أي خطأ. لكن هذا لم يمنع “السابقون أو البريماسيسيت” من التصريح بأن الإله أراد أن تكون القوة بيد صانعي السياسات في البيت الأبيض، وفي “فوغي باتم” –حي تاريخي بالعاصمة واشنطن- للتذكير يمكننا نقل تصريح مادلين أولبرايت المشهور في البرنامج التلفزيوني “اليوم” مع مات لوار: “إن كنا نسمح لأنفسنا باستخدام القوة، ذلك لأننا أمريكا، نحن الأمة التي لا غنى عنها، نحن الشامخون نحن من يستشرف المستقبل”.
كان ذلك في عام 1998، قبل كوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا. بعد كل هذه التدخلات وغيرها الكثير، خلف أولبرايت في وزارة الخارجية، مرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، هلاري كلينتون لتقدم دليلا واضحا لا يدع مجالا للشك في قدرة أمريكا على المحافظة على علو قامتها واستشرافها للمستقبل. كما قال الصحفيان مارك لاندلر وميكا زينكو: “تحتفظ هلاري كلينتون بغرائز الصقر”.
خلال مهاجمتها لدونالد ترامب في يونيو، أكّدت هيلاري التزامها بالمحافظة على قيادة أمريكا للعالم، فقالت: “أؤمن من أعماق قلبي أن أمريكا دولة استثنائية، لأننا ما زلنا متمسكين بكلمات لنكولن: نحن آخر وأفضل أمل للكرة الأرضية.. نحن نقود ونسود وفق رؤية واضحة”.
من الجيد أن يحب أحدنا بلده، وتصريح ترامب بأن أمريكا هبطت إلى الدرجة الثانية يستوجب ردا قويا، وكرد ضمني لهذا نصرح “بأن أمريكا لا ترتكب الأخطاء أبدا، وهي دائما من يسود”، لكن هذا لا أساس له من الصحة. مثل أي حكم، بل حتى أفضلهم، نحن نرتكب بعض الأخطاء. هناك دائما حكمة وسط الزحام. عندما يرفض غالبية أصدقائك إتباعك نحو الحافة، فهذا يعني ألا تقفز.
يقترح فيلم كوب بشكل عقلاني أن نتراجع عن موقعنا الشامخ “كأمة لا غنى عنها”، ونبدأ في مشاركة أعباء قيادة العالم مع الآخرين. الفكرة جديرة بطرحها للنقاش على نطاق واسع. لكن يوجد خلل آخر في صلب فكرة أن تكون أمريكا حكما عالميا: فالحكم لا يمارس اللعبة، فلا يلوح بمضربه أو يضرب الكرة ولا يركض بين القواعد. فهو يلبس زيا مختلف اللون، كما هو متعارف عليه، ليس له مصلحة في نتيجة المباراة. يمكنه أن يعتقد أن أليكس رودريغيز شخص خارق للعادة –لكن هذا لا يهم؛ إن رمى الكرة خارج الملعب، فعليه أن يكمل دورته.
هذا المبدأ الأساس في التحكيم -التجرد-، وهذا ما لا تتصف به الولايات المتحدة في قيادة الشأن العالمي. لكن حتى الآن يتمسكون بالأسبقية، هؤلاء المدافعون عن أسبقية يكررون دائما أن العم سام يمكنه أن يلعب دور الحكم، دون أن يثير غضب الأطراف الأخرى. وهذا من المفروض أن يشرح لماذا لا يظهر المنافسون إلا القليل من التوازن ضد قوة الولايات المتحدة.
لكن حقيقة عدم التوازن مخيبة جدا، فالصين تحرك قوتها نحو بحر الصين الجنوبي، وروسيا تحرك قوتها نحو الدول الموجودة على حدودها الغربية. بكين لا تثق في دور أمريكا “الحكم” بإعلان الصواب من الخطأ حول الأراضي المتنازع عليها. أما بوتين وحلفائه فيتحدون سلطات الولايات المتحدة في ترجيح كفة الأقليات الروسية في أوكرانيا أو في دول البلطيق. لا يتوقعون من الولايات المتحدة أن تلعب اللعبة دون خداع، لأن مسؤولي الولايات المتحدة يتجاهلون مبدأ إدماج الأراضي، عندما يوافق ذلك مصالحهم. كذلك ترفض الصين حيادنا المزعوم في آسيا للسبب نفسه.
حتى الدول الفقيرة والضعيفة ترفض بشكل متكرر دور أمريكا “الحكم”. كم من رئيس حاول التخلص من نظام عائلة كيم في كوريا الشمالية؟ عندما يقول حكم البيسبول “لمدرب مشاكس”: “أنت مطرود” فلا مصلحة له في ذلك؛ فربان السفينة لا يجب عليه أن يختبئ.
يمثل سوء التوازن، الذي نراه في هذا العالم، مشكلا لضمان أسبقية الولايات المتحدة الأمنية، بالنسبة لحلفائنا الذين يشاطروننا نفس الفكرة: مثل ألمانيا وبولندا واليابان وكوريا الجنوبية، الذين قللوا من دعمهم المادي على أنظمتهم الدفاعية.
كما أخذ التحالف الأمريكي بعين الاعتبار قرار عديد دول التحالف تجنب الأسلحة النووية. وبهذا المعنى، وعلى الرغم من أنه يمكن القول إن السياسة الخارجية لأمريكا قدمت (بشكل غير تام، مع المملكة المتحدة البريطانية وفرنسا وإسرائيل) خدمة جليلة بتثبيط حلفائها حول خطورة انتشار الأسلحة النووية، فإها قامت بأعمال رديئة تجاه أطراف سيئة أرادت النووي (مثل العراق وليبيا وكوريا الشمالية).
عشر سنوات من التعثر بين نوعين من الفاعلين حول هذا المشكل الرئيسي، وهو الأسبقية، أو الهيمنة الخيرية –أسطورة عدم الاكتراث- على الرغم من اختيار الطرفين عيش الدور، عبر أسلوبهما الفكري. أحدهما شكّل المحافظين الجدد، الذين بدؤوا بالتشكيك منذ مهمة العراق عند توجهها إلى جنوب العراق. أما الآخر فانتقد سياسة بيل كلينتون الخارجية في أواخر التسعينات بشكل قاس، لكن مع بلوغ سنة 2005 زادت الانتقادات.
في مفترق الطرق الأمريكي، شكك فرانسيس فوكوياما في بقاء قوة الهيمنة الخيرية، التي تحتوي “عددا من التناقضات والعيوب الهيكلية”. ضافة إلى تشكيكه في قدرات القوة المهيمنة في إدارة شؤون العالم، كما تحدثت النظرية:
“الاعتقاد بأن أمريكا استثناء، يراه أغلب الأمريكيين اعتقادا غير جدير بالثقة، فكرة أن أمريكا تتحرك دون حسابات خاصة في هذا العالم، هي خطوة لا يؤمن بها الكثيرون حول العالم، ببساطة لأنها في المجمل غير صحيحة، لأنه في الواقع لم ينجز المسؤولون الأمريكيونن التزاماتهم تجاه الشعب الأمريكي. فالولايات المتحدة قادرة على التحرك بسخاء من أجل توفير المنافع العامة العالمية، وتكون أكثر سخاء عندما تتلاقى أفكارها ومصالحها الخاصة. لكن الولايات المتحدة قوة عظمى بمصالح لا ترتبط بالمنافع العامة”.
يوضح فوكوياما هذا، فيقول: سوف تُختبر مدى تسامح الشعب الأمريكي المحدود في دفع التكاليف المرتفعة للسياسة الخارجية الأمريكية، إذا لم تنجح مشاريع ما وراء البحار في جلب المنفعة الواضحة للمصالح الأمريكية. الشعب الأمريكي في باطنه ليس شعبا إمبراطوريا.” وأضاف: “حتى أن الهيمنة الخيرية أحيانا تتصرف بقسوة، وهم يحتاجون إلى قوة لا تهاجم الشعب السعيد بحياته الشخصية وبمجتمعه”.
شعر مايكال مانديلبوم بهذا أيضا. في كتابه “قضية جالوت”، فتوقع أن قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم متعلقة بتكلفة القيادة ومدى رغبة الشعب الأمريكي في دفع ذلك الثمن. كانت خلاصة قوله، على الرغم من أنه لم يكن متفائلا، أن شارك فوكوياما فكرة أن الشعب الأمريكي والمصلحة القومية لديهما الأولوية، وقال: “هذا لا ينم عن شح مالي غير عادي أو قسوة معنوية: الشعب الأمريكي يقترب من العالم كما تفعل بقية الشعوب.. بالنسبة للشعب الأمريكي فالسياسة الخارجية، مثل فعل الخيرات، تبدأ من البيت” فإذا شعروا أن القيام بدور الشرطي العالمي سيجلب المصلحة ويخدم الولايات المتحدة والمصالح القومية وبتكلفة معقولة، فسيواصلون دورهم المهيمن”.
لكنه يخشى أن ليس كل الأمريكيين يرون الموضوع بهذا الشكل، وقد توقع مانديلبوم أن تواصل هيمنة أمريكا مرتبط بالأمريكيين الذين لا يدققون كثيرا.. لكن الأمريكيين بدؤوا يدركون هذا؛ فلم تساعد الهيمنة العراق، لكن قد يكون العامل الأكبر في وعيهم بهذا هو الأزمة المالية عام 2008. فلهجة ومضمون مانديلبوم في الكتاب القادم، “اقتصاد القوة العظمى”، الذي يقترح أن الحقائق المالية قيّدت مغامرات واشنطن، لا يزال له عرض آخر أكثر تشاؤمًا بعنوان “فشل البعثة”، العنوان يتحدث عن مضمونه.
ربما قد تأقلم الأمريكيون مع تكاليف المغامرات السياسية الخارجية، وكثيرًا ما حارب نيابة عن الآخرين الذين لم يعترفوا بالجميل، ما دامت هذه الرحلة لم تقلل من الميزانية الشعبية القومية، أو لم تقد لارتفاع الضرائب. بقدرة أقل على تغطية ديون تكاليف الحرب، واستشعارها بتقلب مزاج الجمهور، وتردده في التخلي عن الأسبقية، تبنت واشنطن سياسية الحروب الرخيصة: عبر تقليل أعداد الجنود وخوض الحروب عن بعد. تخيل حكم كرة البيسبول يقود المباراة من خلال شاشة تحكم في غرفة في نيويورك (لحظة.. هذا ما يحدث الآن).
هناك توافق في الآراء حتى الآن في واشنطن. بالكاد حفّز اعتداء ترامب المباشر على النخبة السياسة الخارجية في الحزبين، على فعل ما يمكن التنبؤ به من هذه النخب نفسها، وهو أن تحدثت بصوت مسموع ضد تصريحاته. وسر رجل الأعمال برد الصاع صاعين، لكن كما هو الحال في الكثير من حملاته الانتخابية، لم يكن هنالك الكثير ليقوله من حيث المضمون.. لم يطلب نقاشاً جديا حول مستقبل الاستراتيجية الأمريكية الكبرى. كما أنه لم يكشف العيوب والمفاهيم الخاطئة لمعنى الأسبقية، لم يقدم بديلا متماسكا. لذلك علينا أن نبحث في مكان آخر.
المصدر: التقرير