عقيل سعيد محفوض
في آب/ أغسطس من عام 2016 يكون قد مرّ 500 عام على معركة مرج دابق (1516) التي انتصر فيها الجيشُ العثماني بقيادة السلطان سليم شاه على الجيش المملوكي بقيادة السلطان قانصوه الغوري، في معركة فاصلة في تاريخ المنطقة. لم يجلُ مضي خمسة قرون العديد من الإلتباسات المحيطة بتلك المعركة وتداعياتها، بل ان اندلاع الأزمة السورية (آذار/ مارس 2011) زاد في الأمر وجعل من "مرج دابق" تعبيراً رمزياً، ليس عن صراعات الماضي في المنطقة فحسب، وإنما الصراعات الراهنة أيضاً، كما جعل منها، ومن موقعها، ومن الجغرافيا المحيطة به، تعبيراً عن المعركة الأخيرة في التاريخ أو "حرب آخر الزمان".
لكن كيف حدث أن تغيرت اندفاعة العثمانيين من أوربا باتجاه المشرق، ولماذا تحولوا من أولوية الحشد ضد الدولة الصفوية إلى الحشد ضد الدولة المملوكية في الشام ومصر، وما كانت تداعيات المعركة على المنطقة، وأي مقارنة ممكنة اليوم، بعد مضي 500 عام على المعركة/الحدث؟
كانت السلطنة المملوكية في الشام ومصر تتحكم بطرق التجارة بين أوربا وآسيا، ولكن تلك الطرق تعطلت بسبب الضغوط العثمانية، التي دفعت الغرب للبحث عن طرق بديلة، فكان اكتشاف رأس الرجاء الصالح (1497) والعبور منه إلى الهند وجنوب شرق آسيا، كما أدت السيطرة البرتغالية على سواحل شبه الجزيرة العربية والخليج إلى قطع طرق التجارة بين الدولة المملوكية والهند، الأمر الذي مثّل حصاراً مطبقاً على السلطنة المملوكية، وأدى – مع عوامل أخرى - إلى إجهاد وضعف كبيرين، وإخفاق في الاستجابة للتحديات المتزايدة.
يمكن أن نورد مثالاً عن أوضاع السلطنة المملوكية قبيل المعركة المذكورة، إذ يذكر ابن إياس الدينوري في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وكان مؤرخ الفترة المملوكية المتأخرة، ومستشاراً للسلطان قانصوه الغوري، أن العثمانيين هم قبيلة عربية تعود أصولها إلى عثمان بن عفان!
كان ذلك أحد المؤشرات على معرفة السلطنة بأحد أكبر مصادر التهديد لها، والعدو الذي قضى عليها خلال فترة وجيزة. ويبدو أن المماليك لم يحسنوا تدبر سياساتهم وتحالفاتهم، ولم يسعفهم تقاربهم المتآخر نسبياً مع الصفويين في كسر الطوق العثماني (من الشمال) والبرتغالي (من الجنوب).
في ذلك الوقت، كانت اتجاهات القوة تشهد تغيرات ثورية في أوربا، على ما يقول المؤرخ إريك هوبزباوم، إذ حدث "زحفٌ رأسمالي عاصف"، لم تستطع السلطنة مواجهته، فاتجهت شرقاً، وخاضت معارك عديدة مع الصفويين والمماليك، بقصد توسيع السيطرة الجغرافية والتحكم بطرق التجارة والمواصلات والأسواق، وتغيير التوازنات والتحالفات الإقليمية.
وهكذا فقد مثلت معركة "مرج دابق" نقطة تحول تاريخية في طبيعة العلاقات الإقليمية، إذ أدت إلى القضاء على السلطنة المملوكية في الشام ومصر، وأصبح أكثر المجال المشرقي تحت السيطرة العثمانية، وانتقلت حدود وخطوط الصراع بين الفرس والترك إلى كردستان والعراق.
كان لدى السلطان العثماني سليم خان أسباب عديدة لتركيز حروبه ضد خصمين رئيسين في الشرق، حدث أن كان أحدهما مختلفاً عنه مذهبياً، وهو الدولة الصفوية (شيعية)، والآخر مشابه له مذهبياَ وهو الدولة المملكوية في الشام ومصر (سنية). وقد عمل على مذهبة الصراع، وتوظيف رمزية وسلطة الإفتاء في خدمة سياساته الغزوية. وهكذا بدت المواجهة في مرج دابق بوصفها معركة كبرى يخوضها ليس ضد "الروافض" هذه المرة، وإنما ضد "المتحالفين معهم"، أي المماليك، ولو أن الاعتبارات الحقيقة كانت في مكان آخر.
يتحدث فرنان بروديل عن أن اتجاه العثمانيين نحو الشرق كان تعبيراً عن تحول كبير في أنماط المنافسات والحروب في النظام العالمي آنذاك، إذ توقفت المواجهات الكبرى بين العالم الإسلامي والغرب، واتجه الطرفان إلى الحروب الصغيرة، فيما انتقلت الحروب الكبيرة إلى داخل المنطقة، مثل المواجهات الكثيرة بين الصفويين والعثمانيين، والنزاعات والثورات والإبادات داخل المجال العثماني والمشرقي نفسه.
يبدو أن المنطق الحاكم للأزمة السورية، وخاصة المعارك في الشمال السوري، وبالأخص حلب، هو استمرار لمنطق معركة "مرج دابق"، مثل الرهانات الجيوستراتيجية والاقتصادية، والتحالفات والتحالفات المضادة، والمذهبة والتطييف الفائق للسياسات. وهكذا تجد أن التحالف الداعم للجماعات المسلحة، الذي تقوده تركيا والسعودية وأطراف أخرى، يعدّ التحالف بين سورية وإيران والعراق وحزب الله، بمثابة معادل تاريخي وموضوعي للتحالف بين الدولتين المملوكية والصفوية في بدايات القرن السادس عشر. ولذا تجده يكثر من الحديث عن "الهلال السني" في مواجهة "الهلال الشيعي"، و"الأطماع الإيرانية"، وغير ذلك من المقولات الإيديولوجية التي يراد منها "التعمية" على العوامل والفواعل الحقيقية للصراع.
بعد 500 عام على معركة مرج دابق، لا يبدو أن المنطق العميق للأمور قد تغير كثيراً، بل ثمة استعادة نشطة لرمزية المعركة المذكورة في تحفيز مدارك مخيالية جهادية حول "معركة الخلافة" كما يقول تنظيم "داعش"، الذي أصدر مجلة تحمل الإسم نفسه (دابق) لتكون ناطقه باسمه (باللغة الإنكليزية)، وكذلك رمزية المعركة الكبرى أو معارك آخر الزمان! وهكذا يمكن القول -مع نيتشه- ان "المستقبل ينير الماضي"، والعكس صحيح أيضاً، أي أن "الماضي ينير المستقبل".
المصدر: الميادين نت