صهيب عنجريني*
على السوريين أن يحفظوا جيداً تاريخ الرابع والعشرين من آب 2016. ومن دون إغفال موافقة التاريخ لذكرى انتصار العثمانيين في معركة مرج دابق قبل خمسة قرون (وهو أمرٌ أكبر من المصادفات حتماً)، فالثابت أنّ هذا التاريخ يُمثّل نقطة تحوّل كبرى في مشهد الحرب السوريّة.
وفي انتظار جلاء المشهد ينبغي التسليم بأنّ مدينة جرابلس ضربت موعداً مع ثلمٍ جديد لحق بالسيادة السوريّة، ووضع واحدة من مدن الريف الحلبي تحت احتلال تركي على المدى المنظور (قد يتحوّل في أحسن الأحوال إلى ما يشبه انتداباً). ويبدو التنبؤ بما ستستتبعه التحركات التركيّة (لاحقاً لاحتلال جرابلس) ضرباً من المغامرة في ظل النقلات الدراماتيكيّة التي باتت السمة الأبرز للمشهد السوري، لكنّ ذلك لا يغيّر من مفصليّة أحداث يوم أمس. المفرطون في التفاؤل رأوا في الخطوة التركيّة مقدمة لإعادة رسم مشهد من التوافقات الإقليميّة والدوليّة يُفضي لاحقاً إلى حل سوري على حساب الأكراد، ولا سيّما في ضوء المعلومات المتداولة عن أنّ موسكو وطهران قد وُضعتا في صورة الخطوة التركيّة سلفاً، فضلاً عن عودة التواصل الأمني بين أنقرة ودمشق بعيداً عن مساقط الضوء. وتفتح إعادة التواصل الأمني الباب أمام احتمال أن تكون التحرّكات التركيّة مستندةً إلى ملاحق سريّة في «اتفاقيّة أضنة الأمنيّة» التي وُقّعت بين الطرفين عام 1998، ونزعت فتيل حرب كانت تدقّ طبولها حينذاك بسبب دعم دمشق لـ«حزب العمال الكردستاني». هذه الأنباء (في حال صحّتها) تضعنا أمام تبادل لافت للأدوار بين أنقرة والأكراد لجهة القدرة على التنسيق مع موسكو وواشنطن في آن واحد، وهو أمرٌ تفرّدت به «قوّات سوريا الديمقراطيّة» حتى وقت قريب. لكنّ ردود الفعل السوريّة والروسية التي خرجت أمس عن خارجيّتي البلدين جاءت بعيدةً عن أجواء «التوافق». الخارجية السورية أدانت «الخرق السافر لسيادتها» وأكّدت أنّ «ما يجري في جرابلس ليس محاربة للإرهاب كما تزعم تركيا، بل هو إحلال لإرهاب آخر مكانه». فيما دعت الخارجيّة الروسية أنقرة إلى ضرورة «التنسيق مع دمشق»، وأعربت عن قلقها من «احتمال استمرار تدهور الوضع في منطقة النزاع». وعلى النقيض من ذلك، جاء الموقف الأميركي داعماً بوضوح للعمليّة التركيّة، سواء من خلال الغطاء الجوي الذي أمّنه «التحالف الدولي» أو عبر تصريحات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي زار تركيا أمس ليكون أرفع مسؤول أميركي يصلها منذ محاولة الانقلاب الفاشلة. وحملت تصريحاته إشارات إيجابيّة تجاه أنقرة، سواء في ما يخصّ العمليّة العسكرية والموقف من الأكراد، أو ما يتعلّق بقضيّة الداعية فتح الله غولن أبرز خصوم الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي تطالب أنقرة حليفها الأميركي بتسليمها إيّاه. وأعاد المسؤول الأميركي «قذف الكرة الكرديّة» عبر مطالبة القوات الكردية بالانسحاب إلى شرق نهر الفرات، في تناغم مع المطالب التركية التي كرّرها وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أمس بأنّ «على المقاتلين الأكراد أن يعودوا إلى شرقي نهر الفرات وإلا فعلت تركيا ما هو لازم». وهدّد بايدن الأكراد بأنّهم «لن يتمكنوا تحت أي ظرف من الحصول على الدعم الأميركي ما لم يفوا بالتزاماتهم»، في ما يبدو «إعادة ترسيم لأحلام الأكراد»، ونعياً أميركيّاً لمشروع «روج آفا» (إقليم غرب كردستان، كما يسمّيه الأكراد، ويمتدّ من ريف الحسكة الشرقي إلى عفرين) الذي ظنّ الأكراد أنّه بات في متناولهم.
لكنّ الدخول التركي المباشر على الخط، والتصريحات الأميركية المطالبة بعودة «قسد» إلى شرق الفرات يعني بطبيعة الحال تقويض آمال «قسد» بوصل مناطق نفوذهم في عين العرب (كوباني) بنظيرتها في عفرين. لكنّ هذا لا يعني التسليم بتحوّل أميركي في مقاربة الصراع الكردي ــ التركي، ومن المستبعد أن تغامر الولايات المتحدة بالتخلي عن الذراع الكرديّة التي أثبتت فاعليتها حتى الآن. لكنّها تبدو في المقابل حريصةً على عدم خسارة أنقرة التي حافظت على مركزيّتها لاعباً محوريّاً في الحرب السوريّة. ويبدو واضحاً عزم واشنطن المضيّ في استثمار الصراع الكردي ــ التركي لمصلحتها عبر إبقاء بؤرة هذا الصراع ملتهبةً ومفتوحةً على كل الاحتمالات. تركيّاً، جاءت الخطوة بمثابة اندفاعة جديدة لتثبيت دور محوري بعدما سادت أوهام عن انحسار دور أنقرة في الملف السوري إثر الانقلاب الفاشل. ورغم كل ما أثير عن انكفاء مرتقب للسياسات الأردوغانيّة وانشغالها بالملف الداخلي، جاء عبور الحدود في زمن قياسي ليثبت مركزيّة الصراع مع الأكراد في حسابات أنقرة و«أمنها القومي». ويبدو احتلال جرابلس صالحاً ليكون لبنةً أولى في مشروع «المنطقة الآمنة» الذي طالما شكّل حلماً تركيّاً بدا في بعض الأوقات بعيد المنال، لكنّ الأكراد (من حيث يعلمون أو لا يعلمون) لعبوا دوراً في إعادة إحيائه، بل ووضعه موضع التنفيذ. ومن المستبعد أن يُقدم الطيران الروسي على استهداف المنطقة بعد أن أصبحت نظريّاً في عهدة «الجيش الحر» (الذي يُتوقّع أن يخضع لعمليّات تلميع مكثّفة)، فيما هي عمليّاً في عهدة أنقرة واستخباراتها وقوّاتها الخاصّة. ويثير الانسحاب السريع وغير المسبوق لتنظيم «داعش» من جرابلس علامات استفهام كثيرة، ويجعل العمليّة أشبه بـ«تسليم وتسلّم» متّفق عليهما. ويُخالف تخلي التنظيم بسهولة عن واحد من منافذه الحيويّة ما اعتاده في كل الهجمات السابقة التي استهدفت مراكز نفوذه. ويكتسب هذا التفصيل أهمية إضافيّة في ظل المقومات التي كان من شأنها أن تمنح «داعش» فرصة خوض معركة استنزاف تؤجل هزيمته (على الأقل). وتشير المعلومات الواردة من جرابلس إلى أنّ التنظيم كان قد استعدّ على مدار شهور لمعركة كهذه عبر حفر الأنفاق وتفخيخ مداخل المدينة ومراكزها الحيوية، لكنّ مجريات أمس تدلّ على أن استعداد «داعش» كان صالحاً للاستثمار في حال مهاجمة المدينة من قِبل الأكراد فحسب. ومن شأن انسحاب التنظيم نحو معاقله في الباب أن يدفعه نحو التفكير في شن هجمات جديدة جنوباً نحو مناطق الريف الحلبي التي سبق أن طرده الجيش السوري وحلفاؤه منها، أو شرقاً نحو منبج المتاخمة للباب، والتي انسحب منها قبل فترة وجيزة. وفي الحالتين يصلح هروب «داعش» نحو الداخل ليكون وسيلة لاستنزاف جديد للقوّات السوريّة أو الكرديّة تبعاً للبوصلة التي ستوجّه معارك التنظيم في المرحلة المقبلة.
العملية والتحضير
وكانت عمليّة «درع الفرات» قد انطلقت في الخامسة من فجر أمس، بعد أن شهدت المنطقة الحدودية قبالة جرابلس تحشيداً للقوّات على امتداد أسبوع سابق. وأقيمت معسكرات مشتركة على الحدود منذ ثمانية أيّام تجمّعت فيها وحدات من القوّات التركيّة الخاصة إضافة إلى قرابة 1500 مسلّح ينتمون إلى «حركة أحرار الشام الإسلاميّة»، و«فرقة الحمزة»، و«حركة نور الدين زنكي»، و«الفرقة الشماليّة» وغيرها من المجموعات المحسوبة على «المعارضة السورية المفحوصة» (vso). وشاركت في العمليّة عشرات الدبابات والمدرعات التركيّة بغطاء ناري كثيف وفّره طيران «التحالف الدولي» والمدفعية التركية. ووفقاً لما أكّده مصدر من داخل «فرقة الحمزة» لـ«الأخبار»، فقد «لحظت خطة الهجوم في الدرجة الأولى أهمية السيطرة على التلال والمناطق المرتفعة، لقطع طرق إمداد داعش». وسيطرت القوات المتقدمة سريعاً على قرية وتلة كلكجة (5 كيلومترات غرب جرابلس)، وتعمّدت إبقاء منفذٍ جنوب جرابلس استخدمه مسلّحو «داعش» في الانسحاب، من دون أن يختبروا فعليّاً نيران «طيران التحالف». وعلى الرغم من التصريحات التركيّة التي أشارت أوّل الأمر إلى أن «العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش التركي في الشمال السوري، ستكون قصيرة وفعالة»، حجم الحشودات التركيّة المستمرّة على الحدود يبدو أكبر مما تستدعيه عملية خاطفة. ومساء أمس نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤول تركي لم تسمّه أنّ «تركيا ستواصل عملياتها في سوريا لحين تحييد التهديدات الوشيكة المحدقة بأمنها القومي». وفي تفصيل لافت، قال المسؤول إنّ «الهدف من العملية وقف تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب بشكل دائم وقطع خطوط الإمداد إلى الجماعات المتشددة». بدوره، أكّدت الإدارة الأميركية في أوّل تعليق على العمليّة أن «الولايات المتحدة تشجع تركيا على إغلاق حدودها مع سوريا». وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إيرنست إنّ بلاده «تشجع الأتراك على القيام بعمل حاسم لإغلاق الحدود التركية السورية، خاصة هذا القسم من الحدود».
عن "الاخبار" اللبنانية