بقلم: عبدالله زغيب
قبل وفاته بأكثر من سنة، أطلق قيصر روسيا العام 1853 نيكولاي الأول أشهر عبارة اختصرت الحال السياسي والمجتمعي والأمني، الذي ساد الامبراطورية العثمانية في آخر عقودها. في ذلك اليوم عرض «الامبراطور» الروسي الخامس عشر على «أبناء عمومته» (بحكم قرابة اختلاط الدم) في التاج الملكي البريطاني، تقاسم بقايا دولة «الخلافة» الإسلامية الممثلة بتركيا الحديثة وما يجاورها من أقطار عربية أو إسلامية. وبعد ذلك استمرت «دولة الخلافة» في التراجع والتقلّص لأكثر من نصف قرن، حتى وصلت الى بدايات الحرب العالمية الأولى وهي في أسوأ مراحلها، حيث كان لترك المرحلة سرديتها الخاصة التي مهدت الطريق أمام «تفتيت» الدولة بتركيبتها التاريخية، إلى نماذج أكثر ملاقاة لنهم المنتصرين في مرحلة ما بعد الحرب الكبرى.
انتهت الحرب «الكونية» الأولى ومعها آخر أنفاس السلطنة العتيقة. وكان السلطان رشاد بن عبد المجيد الأول، أو محمد الخامس كما يعرف، قد مهد لعملية التفتت، من خلال استقوائه بالتيارات القومية على حساب الاتجاهات الإسلامية الصاعدة، خاصة في منطقة الشام وفي داخل تركيا «الطبيعية» أيضاً. ظل الأمر كذلك إلى أن خلفه وحيد الدين محمد السادس الذي أشرف على الاستسلام التركي للغرب، علماً أنه كان من أكثر المتحمسين للحفاظ على ما تبقى من «هوية السلطنة» مهما كانت الأثمان.
نحو الحفاظ على السلطنة و «الدين»
هكذا أطلق محمد السادس حملة ترويجية لخطواته السياسية تحت عنوان الحفاظ على السلطنة و «الدين». وهكذا وجدت الأستانة نفسها توقّع «هدنة مودروس» أو اتفاقية الاستسلام التركي، التي أفضت إلى سيطرة البحريات البريطانية والفرنسية والإيطالية ثم الأميركية على منطقة القرن الذهبي، وتحويل الأستانة إلى قاعدة «لنشاط الحلفاء» في منطقتي المتوسط والأسود. كما جرى تقسيم بعض المناطق التركية وتوزيعها على الدول الغربية، بحيث حظيت فرنسا بأضنة ومرسين، فيما سيطرت إيطاليا على أنطاكية وكوشا داسي وقونية، بينما «اكتفى» اليونانيون بالقسم الغربي من الأناضول وتراقيا. وكل ذلك جرى بالتوازي مع حملة «الحفاظ على الدين» التي واظبت على تدعيمها آلة السلطان الإعلاميّة، وكانت تحمل في طياتها تمهيداً بالقوة لتمرير المقبل على البلاد، خاصة «معاهدة سيفر» 1920 التي أنهت «بالفعل» دولة «الخلافة الإسلامية» بالكامل، وفتحت الطريق أمام احتلال العصابات «الأوروبية اليهودية» لفلسطين التاريخيّة.
لم تكن «معاهدة سيفر» مجرد دليل واضح على اتجاه «السلاطين» نحو الخيارات غير الراديكالية في وقت الحاجة الشديدة إليها، بل كانت أيضاً مدخلاً لتسلسل زمني أكثر تعقيداً. فقد جاءت مخرجات المعاهدة بمثابة الترجمة العملية لمؤتمر باريس «للسلام» العام 1919، الذي فاجأت فيه الدول الكبرى الجميع، عندما عبّرت عن رغبتها بإبقاء الحكومة العثمانية في «مكتبها» المركزي داخل الدولة التركية الحديثة، مع حصولهم على تعهد من «ولي أمر المسلمين» بتمرير ما يلزم في سبيل إنجاح الهدنة وبقاء «السلطان». وكل ذلك شكّل إرهاصات شديدة الجلاء أمام الحركة الوطنية الناشئة في ذلك الوقت، مفادها أن الظروف قد تهيأت للثورة أو الانقلاب أو أي شكل من أشكال «تدوير النخب» بالقوة، خاصة أن الحركة هذه ارتكزت على الموروث التركي القومي، في مقابل الاتجاه الإسلامي الممثل أساساً بالسلطان.
وهن «الخلافة» وصلابة «القومية»
ارتكزت الخطابة «القومية» التركية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك على سلسلة أخطاء قياسية ارتكبتها السلطنة. فقد جاء التخلي عن الأراضي غير الناطقة بالتركية كما نصت «معاهدة سيفر»، بمثابة الضوء الأخضر نحو تفعيل الحراك القومي ونقله الى مستوى «حركي» منظم وفاعل. فلم يعد هناك حاجة لقيادة «أمة» غير موجودة. هكذا جاء مجموع الاضطرابات والمعارك والثورات التي انخرط فيها أتاتورك، وتمكّن عبرها من إعادة منسوب معيّن من الاحترام الإقليمي والدولي لتركيا، بعد هزيمته لليونانيين، ومن ثم توقيعه «معاهدة لوزان الثانية» في تموز العام 1923، والتي تم على إثرها ترسيم الحدود التركية الأساسية مع دول المشرق العربي والجيران الأوروبيين لتركيا. كما تم إبطال مفاعيل «معاهدة سيفر» التي وقعتها الدولة العثمانية كنتيجة مباشرة لحرب الاستقلال التركية بين قوات حلفاء الحرب العالمية الأولى والجمعية الوطنية العليا في تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي تمكن من تحويل «بقايا الرجل المريض» إلى كتلة أقل حجماً إنما أكثر تماسكاً وثقلاً في الإقليم.
بين الأمس واليوم، لا تفترض الرواية التركيّة المطوّلة اختلافات أكثر تجذراً. فبرغم اختلاف الشخوص والحالات السياسية والمعطيات الاقليميّة، إلا أن السير الذي بدا حتى الأمس القريب «حتمياً» على خطى أتاتورك المؤسس، أصبح اليوم أكثر انفتاحاً على احتمالات متعددة بفعل تنوع عناصر القوة والضعف الموجودة على أرضيّة واحدة.
وبطبيعة الحال، فإن قراءة الواقع التركي بناءً على مرحلة ما قبل الانقلاب الفاشل ليل 15 تموز، يمكن أن تصنع تقديراً مُرضياً للموقف عامة، ما دام الرئيس رجب طيب أردوغان بما يمثل من مؤسسة دينية «إخوانيّة» عتيقة في المنطقة وتركيا، كان الأقرب لأداء، أو ربما صناعة دور سلاطين الأيام الأخيرة للرجل المريض سابقاً، من خلال تخطّيهم الخطوط الحمراء التي سارت في مساربها عناصر القوة التاريخية للدولة العثمانية.
لقد راكم رجب طيب أردوغان بالمنظور التاريخي للمؤسسة العسكرية التركيّة أربعة أخطاء قياسية، يمكن أن تتهدد أسس الدولة، وتهيئ الأرضيّة لانقلابات جذرية تأخذها باتجاهات تختلف عن طبيعة تموضعها، وحساسية ارتباطاتها الإقليمية والدوليّة، وهي جاءت على الشكل الآتي:
1ـ إعادة إحياء «المشروع» الديني:
فقد ظنّت المؤسسة العسكرية التركية أنها أبقت هذا العامل قيد السُبات القسري لعقود متتالية، بفعل انغماس المؤسسة الأمنية التابعة للجيش في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، على قدر يكفل ديمومة نخبوية لطبقة تتصارع في ما بينها وقف أدوات «الديموقراطية» المتاحة، وبما لا يتضارب في الصورة النهائية مع «علمانيّة» الدولة. وقد استخدمت الوسائل المشروعة وغير المشروعة كافة في سبيل إبقاء المنتج النهائي للطبقة الحاكمة على هذه الشاكلة. لكن الصعود غير المسبوق للتيار الإسلامي ممثلاً بـ «العدالة والتنمية» بقيادة وارثه أردوغان، شكل مفاجأة غير متوقعة، استخدم فيها الرجل وسائل الحماية السياسة الممكنة كافة لنفسه ولتياره، من خلال صناعة رأي عام إقليمي ودولي مناصر لـ «الطيب» أردوغان، بعد قيامه بخطوات شعبوية تخطّت الاعتبارات القديمة لساسة تركيا من دعاة تخفيف الارتباط. هكذا بدا المجتمع التركي أكثر انفتاحاً على تقبل عمليات «الأدلجة» التي أُخضع لها من الآلة الإعلامية والثقافية «الإخوانية»، وفي هذا السياق جاء بيان الانقلابيين ليلة العملية الفاشلة ليُذكّر بأدلجة الدولة.
2 ـ صناعة الحروب والانخراط بها:
برغم كونه صاحب نظرية «تصفير» المشاكل، إلا أن أداء تركيا في زمن أردوغان، بدا أكثر ميلاً نحو لعب دور المنخرط الكامل في الإقليم القريب، حيث تحولت أنقرة إلى صانع ومحرك للعديد من ملفات منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها سوريا والعراق. فالاتجاه الطبيعي للجيوش والنخب العسكرية القيّمة عليها (الأشيلون)، هي التهدئة بشكل شبه تام، حيث عادة ما تختبر النخبة السياسية الجديدة أحد أغرب دروس السياسة في اكتشافها أن العسكر دوماً هم الأقل ميلاً وتشجيعاً للحرب بمعزل عن طبيعتها وأسبابها. فالمؤسسة العسكريّة التركية تعتبر أن بنيتها الاستراتيجية تقوم على أساس دورها النهائي في أي صراع كبير محتمل. هكذا بُنيت القوات المسلحة التركية بما يكفل قيامها بالدور «الأطلسي» الكامل على جبهة المتوسط وآسيا الوسطى في حال اندلاع حرب مع الاتحاد السوفياتي وروسيا والصين وإيران لاحقاً، لا أن يجد العسكر أنفسهم أمام واحدة من أطول عمليات الاستنفار زمناً، بما تحمل من إرهاق معنوي ولوجستي، وذلك منذ بداية الحرب الأهليّة في سوريا.
3 ـ تهديد وحدة الأراضي التركيّة:
لا يعني هذا أن أردوغان وحزبه الحاكم اتجها نحو خيارات «تآمرية» على الدولة التركيّة. وهذا الرأي عادة ما تتناقله الأوساط القوميّة المناهضة للرجل. لكن التهمة هذه تُعد تصديراً إعلامياً لخلافات سياسية أشد عمقاً. إذ إن التهديد الأساسي على وحدة تركيا بالمفهوم المحلي المرتكز على أدبيات المؤسسة العسكرية وما يلتصق بها عضوياً من تيارات سياسية، يتمثل بالاستثمار الخاطئ للملف الكردي بما فيه من جزئيات محلية وإقليميّة. وهو باختصار يتمحور حول موقف «العدالة والتنمية» المتذبذب من القضية الكردية وعدم وضوح رؤيته النهائية لها، بمعزل عن طبيعة الملفات الحامية التي تنخرط فيها أنقرة، حيث تمكن أردوغان من صناعة «سلام» مؤقت مع الأكراد، ثم عاد وأنتج حرباً جديدة في سبيل تعزيز وضعية «العدالة والتنمية» انتخابياً بعدما تعرض لنكسة في الجولة الأولى التي أُجريت العام الماضي، إلى أن تمكن من تعزيز نفسه في الاختبار الثاني في تشرين الثاني الماضي، بناءً على الروح القوميّة المعززة بفعل الحرب مع أكراد الداخل.
4 ـ إعادة إنتاج «السلطان» والدولة المركزية:
وقد بدا الأمر جلياً منذ العام 2002، مع حديث أوساط «العدالة والتنمية» وقتها عن ضرورة حصول الحزب على أكثر من 46 في المئة من مقاعد البرلمان لتشكيل حكومة من لون واحد، إضافة إلى رغبة الحزب بالحصول على غالبية تكفل تمرير تعديلات دستورية تعزز من وضعية الرئاسة التركية، وتنقل أنقرة شيئاً فشيئاً إلى نموذج حكم رئاسي، يمكن من خلاله الشروع بعمليّة إعادة هيكلة شاملة للدولة التركية من الأعلى نزولاً، وبما يضمن إعادة إنتاج نموذج جديد من الحزب الشيوعي الصيني، إنما في تركيا «إخوانية» يعيش فيها رجب طيب أردوغان بما يتجاوز سنوات عمر الزعيم الراحل ماو تسي تونغ. لكن صعوبات متنوعة منعت عملية تحويل الحزب الى مؤسسة حاكمة. هكذا اتجه أردوغان في السنوات القليلة الماضية نحو تطبيق نموذج شرقي آخر، هو ذاك المتمثل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فبات يمكن للطيّب اردوغان أن يمرر «زعامته» للسلطنة الجديدة من خلال قالب دستوري وديموقراطي متكامل، يكفل له أداء دور الزعيم «الحداثي» في أوروبا و «السلطان» المقتدر في الداخل والزعيم «الإسلامي» في المنطقتين العربية والإسلاميّة.
الانقلاب الفاشل مجرد بداية
انطلاقا من هذه العناصر وما يحيط بها، إضافة إلى حسابات العناصر «الخفيّة» ما دامت الرواية في بدايتها، بدت «الأشيلون» التركية أكثر ميلاً لفهم السردية التي مهدت لقيامة «السلطان» وبالتالي عودتهم كبنية عسكرية وطنية «مؤسسة» الى واجهة الحدث، من خلال أخذهم زمام المبادرة. هكذا بنت القيادة العسكرية «المنقلبة» مضبطتها الأخلاقية وقاموسها الخاص الممهد لصناعة بيانات الانقلاب. لكن غياب التنسيق والرأي الجامع، ومبادرة عدد قليل من العسكر نحو خوض المغامرة هذه، كانت كلها عناصر كفيلة بإفشال الانقلاب وفتح المجال أمام الآلة الإعلامية الرسمية لصناعة سردية خاصة بها، تقوم في الأساس على بناء نظرية تفوّق الجماهير الملتصقة بالسلطان.
ومع ما تحمله سردية «الشعب في مواجهة الانقلاب» من ضعف وشعبوية وابتعاد عن عناصر القوة والضعف الحقيقية، إلا أنها ستلازم النخبة الحاكمة التركية في الفترة المقبلة بكثافة، ما دامت عملية استثمار مرحلة ما بعد الانقلاب انطلقت بعبارة أردوغان الشهيرة: «ستكون فرصة لتطهير الجيش»، بما يعنيه ذلك من استكمال للنظرية «الإخوانية» الأردوغانية ومحاولة تمريرها مجدداً في قالب دستوري متكامل، بقوة «ديكتاتورية» الشعب المنتفض على الانقلاب. وهذا يعني ضمناً تعزيزاً إضافياً للعناصر المحفزة على الانقلاب الفاشل لا العكس، خاصة أن خروج جماعة «العدالة والتنمية» إلى الشوارع وتحولهم إلى ميليشيات مسلحة في استعراض قوة واضح، يفيد بأن الاتجاه الأول للمنقلبين قد يكون خياراً جماعياً في المحاولة المقبلة من وجهة نظر المؤسسة العسكرية. كما أنه يثبت ميلاً لدى «العدالة والتنمية» بتحويل تركيا إلى دولة فاشلة اذا ما كان الهدف تحييدهم عن السلطة. يضاف إلى هذا خروج أردوغان إلى العالم على شاكلة الرجل الضعيف الذي يحاول تعويض فاقد قوته بتعزيز الإجراءات «القمعيّة»، ناهيك عن الإذلال المبرمج والعلني للمؤسسة العسكرية التركية، التي تشكل في العقلية «الأطلسيّة» صمام أمان يتخطى مشاريع «الإخوان» وسلاطينهم.
المصدر/ صحيفة "السفير" اللبنانية