2024-11-30 09:37 ص

الطلاق البريطاني: مبادرات لـ«إنقاذ أوروبا»

2016-06-28
بروكسل/ وسيم ابراهيم/ السفير اللبنانية
سيبذل الجميع جهداً أكبر، أكبر بكثير هذه المرة، ليرسموا الابتسامات اللازمة لرد التحية. يتصافحون، يهزون رؤوسهم، متظاهرين بأن ما حدث حدث، لا ضغينة ولا قلوب مكسورة. لو كان المشهد طبيعياً، يجري بإخلاص للدواخل، لما وجد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أحداً يرد عليه التحية، بين نظرائه «السابقين» خلال قمتهم في بروكسل. قالها أحد المسؤولين الأوروبيين، من يختار الانفصال عليه ألا يتوقع أن يلاقى بالأحضان المفتوحة.
إنها المواجهة الأولى بين الزعماء الأوروبيين بعدما جرّ كاميرون بلاده إلى محنة الطلاق، جاراً معه أوروبا خلفها وإن كانت الأضرار عليها، بالمقارنة، أقل خطورة. تصريحات التهدئة العلنية اللبقة، والتروي، من الزعماء الأوروبيين، لم تفعل إلا تأكيد أن الغيظ متمكّن. كاميرون يقود إلى الانفصال، يضع أوروبا تحت رحمته، والآن يريد أخذ وقته. هذا مرفوض، وفق ما بيّن زعماء أوروبيون يجهزون العدة للقمة. ستكون حلبةً أكثر منها طاولة مستديرة.
ولأن واشنطن تعرف سيناريو المشهد الطبيعي، تعرف ما يعتمل حقاً في النفوس، أوفدت وزير خارجيتها لزيارة طارئة. حمل جون كيري رسالة مثيرة للسخرية، ليبدو مثل وسيط حكيم، قائلاً للأوروبيين إنه من الأفضل أن تمر «الفترة الانتقالية» حتى الانفصال من دون «شروط انتقامية». التقى كيري مسؤولين أوروبيين في بروكسل، قبل أن يغادر إلى لندن كما يجدر برسول تهدئة. متوجهاً لكلا الطرفين، شدّد على أنه «من المهم في هذه الفترة الانتقالية أن نبقي التركيز على ألا يفقد أحدٌ صوابه ولا أن يذهب أحد (للانفصال) نصف جاهز»، قبل أن يحذر من رمي «الشروط الانتقامية أو المشوشة».
المسألة تمس الولايات المتحدة في الصميم، فالاتحاد الأوروبي أوثق حلفائها. إنه اتحاد يقف مُطَوِّقاً روسيا، مهدداً نفوذها ومانعاً تمدده، كما أنه تكتل يطمح لضم الجوار الروسي تدريجياً. مشروع متاخم لمشروع الاتحاد الروسي، مع غلبة في مجالات عديدة. حينما علق وزير خارجية واشنطن الأشهَر هنري كيسنجر على الصراع في أوكرانيا واندفاعة موسكو، قال إن رئيسها فلاديمير بوتين يرى ما يحدث بوصفه «بروفة» لما يريد الغرب فعله في بلاده.
لأن القضية على هذا النحو من الأهمية، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما ذهب بنفسه إلى لندن، لينخرط، ترغيباً وترهيباً، في حملة الدعوة للبقاء في الاتحاد الأوربي. حتى انه قال للمواطنين البريطانيين إن بلادهم ستكون «في آخر الصف»، بالنسبة لتوثيق العلاقات الاقتصادية والتجارية. الآن يكرر كيري أن بلاده ستحافظ على «العلاقة الخاصة» مع لندن، لكنه لا ينكر أن الانفصال البغيض سيكون له «تداعيات وتحديات» على تلك العلاقة. جعل كيري من الواضح أن الأولوية هي «فهم أنه من المهم للغاية قوة الاتحاد الأوروبي»، ومواصلة شراكته القائمة مع واشنطن في مختلف المجالات، بدءاً بقضايا الأمن ومكافحة الإرهاب.
لكن هل ستنفع محاولات واشنطن امتصاص التوتر الأوروبي الداخلي؟ المقدمات تقول إن ذلك ليس أكيداً. السجال تواصل حول نقطة الخلاف الأساسية. لا مجال لبدء مفاوضات الطلاق قبل أن تطلبه بريطانيا عبر بلاغ رسمي للمجلس الأوروبي. خرج من لندن أن حزب المحافظين سيختار رئيس وزراء جديدا مطلع أيلول المقبل، فيما أعاد كاميرون التشديد على أن خليفته هو المعني بإرسال البلاغ حالما يرى ذلك مناسباً.
الأوروبيون مغتاظون من ذلك. كان كاميرون يواجه مجلس العموم، مجيباً على سيل الأسئلة المتعلقة بالانفصال، حين كان زعماء ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، مع رئيس المجلس الأوروبي، يعدون خطة المواجهة التي سيحملونها إلى قمة بروكسل. مع اختلاف النبرة، كانت الرسالة واضحة: «لا وقت نضيعه» في المماطلة البريطانية.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لا تزال تعتمد نبرة التهدئة، مواصلةً تكريس موقعها كقيادة حكيمة لأوروبا لا تحتمل، على وجه الخصوص، زعامة ألمانية فوق منصةٍ فجاجة أو إملاء. قالت مسبقاً إنه يمكن التسامح، لكن بسقف منخفض «فترة محددة من الوقت لتحليل الأشياء»، معتبرة أن لديها «مقداراً محدداً من التفهّم» حيال ذلك. لكن الألاعيب لا مكان لها، بمعنى استخدام الاستفتاء البريطاني سلاحاً لتحسين شروط التفاوض من قبل حملة «الانفصال»، فكما قالت ميركل: «لا محادثات غير رسمية قبل إرسال طلب (الانفصال) إلى المجلس الأوروبي».
إلى جوارها، على منبر صالة مؤتمرات المستشارية في برلين، لم يجد نظيراها ماثيو رينزي وفرانسوا هولاند حاجة لديبلوماسية الكياسة تلك. الجملة التي كرراها حرفياً، حتى أنهما قوّلاها لميركل ولو لم تلفظها، انه «لا وقت لدينا لنضيعه». ردد هولاند أن ذلك ليس موقفاً بل «مسؤولية» لمنع امتداد فترة «اللايقين، السياسي والاقتصادي». شددا على أنه، مع هذا الطلاق، بات مُلِحًّا قلب صفحة الماضي، للمضي إلى «الاتحاد الأوروبي الجديد». على هذا الأساس، ستبحث القمة الأوروبية الوقت الواجب منحه لبريطانيا، بما يجعل لندن تحت ضغط موحد.
صاغ الزعماء الأوروبيون مبادرة مشتركة لهذه «الأوروبا» الجديدة، سيعرضونها على نظرائهم. كما نشرت «السفير» سابقا، هناك أولويات قصيرة الأجل، إجراءات عاجلة، تركز على محاور عدة: تقوية التعاون الأمني في وجه مخاطر الإرهاب، إضافة للتعاون لضبط الحدود كمصدات منيعة في وجه اللاجئين والمهاجرين، خلق الوظائف وتحريك النمو، الجديد هو التوجه بشكل خاص للشباب عبر مبادرات لتقوية علاقتهم بالمشروع الأوروبي، ثم التركيز على تقوية الحوكمة المشتركة في منطقة اليورو على اعتبار أنها نواة المشروع الأوروبي. المبادرة يفترض أن تلحقها سياسة تنفيذية ومشاريع ملموسة. سيطلب الزعماء الأوروبيون تحضيرها حتى قمتهم التالية في أيلول المقبل.
على خلاف النبرة المهدِّئة لميركل، ذهب ضيفاها للإقرار بالمخاطر على المشروع الأوروبي. قال رينزي إن المبادرة التي يحملونها تأتي من إدراك لمدى المخاطر التي يتعرض لها المشروع الأوروبي، لذلك فستكون «إستراتيجية للأشهر المقبلة، لما ستكون عليه أوروبا»، قبل أن يضيف: «إنه الوقت المناسب لكتابة ورقة جديدة من تاريخ أوروبا».
تلك المخاطر حولت التكتل إلى خلية أزمة. وزيرا خارجية ألمانيا وفرنسا جان مارك آيرولت وفرانك فالتر شتاينماير أطلقا بدورهما رؤية أكثر تشاؤماً، وبالتالي أكثر طموحا للعلاج المطلوب. على وقع تنامي اليمين المتطرف، بشعاراته المعادية للوحدة الأوروبية، اعتبرا أنه «لا دعوة بسيطة لمزيد من أوروبا ولا مرحلة من التفكير يمكن أن تكون رداً كافياً»، مشددين على أنه «لمنع التآكل الزاحف على المشروع الأوروبي، علينا أن نكون أكثر تركيزاً على الضروريات وعلى تلبية التوقعات الملموسة من مواطنينا».
الخطوط العامة تبقى ذاتها: أولوية امتصاص التململ الشعبي، مع العمل، من دون استفزاز نعرات وطنية، إلى مزيد من الوحدة الأوروبية. لكن الوزيرين الأوروبيين لم يمانعا في إعلان الهدف الطموح الذي يكتمه زعماء كثر، مبينين أنه «سنمضي قدماً نحو اتحاد سياسي في أوروبا، وندعو الأوروبيين الآخرين للانضمام إلينا».
تلك الدعوات ستلقى تحفظاً أكيداً، خصوصاً مع دول تطلب تقليل السرعة لحل مشاكل التطرف السياسي لديها. تلك أيضاً أولوية أميركية، بما يمنع مزيداً من الاضطراب في التكتل الأوروبي. لكن عيون واشنطن على الإطار الموازي، المعني أيضاً باحتواء ومواجهة المطامح الروسية. يكفي التذكير أن أول أمين عام لحلف «الناتو» اللورد هستيغز ازماي قال في مصارحة نادرة إن الولايات المتحدة أنشأت «الناتو» لهدف قاري أوروبي مثلث الرؤوس: إطار لتكريس النفوذ الأميركي، روسيا خارجه، وألمانيا محتواة فيه.
والتقى كيري أمين عام «الناتو» ينس ستولتنبرغ. الأخير ركز على المنافع لمنظمته، معتبراً أنه بعدما قررت بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإن «الناتو» أصبح حتى أكثر أهمية بوصفه منصةً للتعاون بين أوروبا وأميركا الشمالية، لكن أيضاً التعاون الدفاعي والأمني بين دول الناتو الأوروبية».
ليس واضحاً كيف يرى «الناتو» فرص تقوية الدفاع الأوروبي، حينما تغادره فرامل بريطانيا المعروفة. ليس واضحاً أيضاً تجليات المغادرة، على الصعيد العسكري خصوصاً. دانييلا شوارزر، مديرة مكتب برلين لمؤسسة «جيرمان مارشال» البحثية الأميركية، اعتبرت أن «الناتو يمكن أن يواجه طفرة جديدة»، موضحة أن «بريطانيا ربما ستكون مهتمة جداً بالمساهمة في مبادرات جديدة وإظهار انخراط دولي أكبر، من أجل إظهار أهميتها إزاء واشنطن».
آخرون لفتوا إلى تلك الفرصة أيضاً، لكن من الوجهة الأوروبية. المحلل يانيس ايمانوليدس، من «مركز دراسة السياسات الأوروبية»، اعتبر أن «هناك فرصة تتأتى من حقيقة مغادرة بريطانيا، سنرى ذلك خصوصاً بالنسبة لسياسة الأمن والدفاع»، لكنه لفت إلى عقبات مهمة تعترض إثمار تلك الفرصة، سواء بالنسبة للتباينات بين حكومات الاتحاد، أو للطاقة السياسية المستهلكة في سجالات السياسة المحلية أمام التذمر الشعبي.
كل هذا سابق لأوانه، يرى آخرون، فالمصيبة متشظية، كما يقول مثلاً يان تريشيه، مدير خلية أبحاث «كارنيغي يوروب». خلال مقابلة مع «السفير»، علّق على تداعيات الانفصال بالقول إن «هناك عواقب لا نراها، هناك ديناميكيات جديدة ستولد ولا نعرف كيف ستتحرك»، قبل أن يشدد على أن «الأكيد أن أوروبا، والعلاقات عبر الأطلسي، تلقت ضربة قوية جداً، وفي النهاية من سيدفعون ثمناً كبيراً هم البريطانيون أنفسهم».