في شهر تموز المقبل، ستصبح هيلاري رودهام كلينتون على الأرجح أول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تحصل على ترشيح أحد الحزبين الرئيسيين في البلاد في المعركة الرئاسية وتصل إلى المنافسة النهائية في السباق إلى البيت الأبيض. معركةُ حياة أو موت ستكون مع منافس «استثنائي» آخر، هو الشعبوي دونالد ترامب الذي ينتظر ترشيح حزبه هو أيضاً في تموز المقبل، وقد تحملها لتكون الرئيسة الأولى لبلدٍ لا يزال يواجه تاريخه المليء بالعنصرية والتمييز رغم النموذج الديموقراطي الذي يزعم تصديره للعالم.
في العام 2008، واجهت كلينتون مرشحاً استثنائياً آخر في الانتخابات التمهيدية للحزب، هو باراك حسين أوباما. كاريزميته وخصوصيته وبرنامجه المناهض للحروب التي شنها جورج دبليو بوش، ساهمت في ان يتغلب عليها بالنقاط. وفي يوم كان من أكثر الأيام المفاجئة لها، طلبها لتكون وزيرة خارجية في حكومته.. خبرتها في المنصب، ولكن أيضاً مع زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون، وخلال مسيرتها في الكونغرس، والعلاقات التي صقلتها، وقبلها في التزامها السياسي بأن «أميركا هي القوة الأولى في العالم»، مكنتها من الوصول إلى عدد المندوبين اللازم اليوم للحصول على ترشيح الحزب. هذه الأسباب يضاف إليها من دون شك الخضّة التي عاشها الجمهوريون هذا العام، بمرشحين «متطرفين» وغير ملمين يالسياسة الخارجية، و«التردد» الذي طبع عهد اوباما، وكذلك «نجم» منافسها بيرني ساندرز، الذي وإن شكل «حالة» تستحق النقاش، إلا انه بقي «شاذاً» عن المنظومة السياسية والشعبية الضاغطة.
وبالأمس، وبعد تأكد فوزها بعدد المندوبين المطلوبين للحصول على ترشيح الحزب، أعلن «البيت الأبيض» أنّ أوباما هنّأ كلينتون، فيما ينتظر إعلانه الدعم لها، وذلك على الارجح بعد لقائه ساندرز اليوم. وقال المتحدّث باسم البيت الأبيض جوش إرنست، في بيان، «ألهمت حملتُها التاريخية الملايين»، معتبراً أنّها «امتدادٌ لمعركتها طوال حياتها من أجل عائلات وأطفال الطبقة المتوسطة».
واليوم، وحتى نهاية الحملة التي ستفضي إلى انتخاب الرئيس الـ45 للولايات المتحدة في تشرين الثاني المقبل، ستحاول هيلاري كلينتون أن تتموضع في مكان ما، بين أوباما «الديموقراطي المتردد»، وترامب «الجمهوري المتطرف، العنصري والقليل الخبرة»، متسلحةً بخبرتها في السياسة الخارجية، و «براغماتيتها» التي أظهرت رؤيتها الخاصة لإدارة ملف السياسات الخارجية للبلاد، ابتداء من أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، أفغانستان، وصولاً إلى ليبيا والعراق وسوريا، وكوريا والصين وروسيا، وهي جميعاً ملفات لها موقف منها أكثر حدة من موقف اوباما.
وموقف كلينتون هو انعكاس للخلاف العميق الذي ظهر في المعسكر الديموقراطي في ما يتعلق بتطورات الأحداث في الشرق الأوسط إثر اندلاع «الثورات العربية» ابتداءً من العام 2011 وحتى بعد تاريخ مغادرة كلينتون موقعها في الخارجية في العام 2013.
وفي الواقع، ثمة اختلاف كبير في نشأة كل من أوباما وكلينتون، فكلينتون التي كان والدها ينتمي إلى الجمهوريين، والتي ظلت متموضعة في هذا المعسكر حتى أيام الجامعة، حاولت منذ ذلك الحين أن تحجز لها مكاناً في الوسط، وانتقلت إلى الديموقراطيين، لتكون بين «صقورهم».
نشأت كلينتون في رعاية والد مناهض للشيوعية، ينتمي إلى اليمين، ويملك إيماناً لا يتزعزع بالولايات المتحدة كقوة للخير في العالم، بحسب كتاب «صراع القرينين»، للصحافي في «نيويورك تايمز» مارك لاندلر الذي وثق معايشته لها في الخارجية الأميركية ككبير المراسلين. في الخيارات السياسية، تبدو كلينتون أقرب إلى أوباما مما هي عليه من ترامب، بالطبع، على الرغم من ان الرئيس الحالي نشأ في إندونيسيا وهاواي، حيث لم تكن سمعة «العم سام» جيدة، وحيث كانت تغلب مشاعر الاستياء من السياسة الأميركية.
وبينما تأخذ السياسة الخارجية الأميركية حيّزاً مهماً من الحملات الاميركية الرئاسية، نظراً لخطر الإرهاب المتفشي في العالم، من المتوقع أن يحتدم الجدل بين المرشحين النهائيين حول قضايا الشرق الأوسط، وظهور تنظيم «داعش»، حيث تختلف الرؤى حول كيفية الحد من انتشاره وهجماته، لاسيّما على الولايات المتحدة. هكذا، لا تبدو السياسة الأميركية الداخلية بمنأى عن الخارجية خلال هذه الدورة، فأكثر القضايا الداخلية جدلاً ترتبط بأهم القضايا الخارجية، ربما بسبب مقاربة بعض المرشحين الجمهوريين للحرب على الإرهاب وربطها بالمسلمين المهاجرين في البلاد، وقضية الهجرة، وكيفية إدارة الصراعات «الباردة» مع الصين وموسكو، وملف التجارة العالمية، وغيرها. وهو أمرٌ ألزم الإعلام الأميركي تسليط الضوء على قضايا الشرق الأوسط التي «لم تهيمن على مناقشة السياسة الخارجية فحسب، بل أيضاً على الحملة ككلّ»، بحسب ما يؤكد معهد «بروكينغز» الأميركي، الذي أشار ـ في تقرير قدّم لمحةً مفصّلة عن الانتخابات الحالية ـ إلى أنّ ظهور تنظيم «داعش» يُعد القضية الأبرز خلال الحملة الانتخابية.
لم تخرج مواقف كلينتون الخارجية على امتداد حملتها الانتخابية، عن مواقف أوباما الحذرة والتراكمية، ما دفع أي مرشح للبيت الأبيض، هي أم غيرها، إلى الأخذ بعين الاعتبار هذه المواقف غير التحولية، والانطلاق منها لتقديم رؤيته في الحرب على الإرهاب والتعاطي مع المسلمين، والأزمة السورية وقضية اللاجئين، والموقف من الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، والعلاقة مع «إسرائيل» ودول الخليج.
الحرب على الإرهاب
في الحرب على الإرهاب، كانت كلينتون في السابق، قد اتفقت مع أوباما على عدم إرسال قوات برية لقتال تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، إلاّ أنّها اليوم تقدّم ثلاثة أجزاء للتعامل مع تنظيم «داعش» بحسب معهد «بروكينغز». فهي تقف على يمين أوباما بزيادة العمليات الاستخبارية، وزيادة ضربات قوات «التحالف» الجوية، كما انها من أشد الداعمين لمنطقة حظر جوي في سوريا، وعلى يسار ترامب في الجزء الأهم، وهو شن حملة برية تدعمها قوات أميركية خاصّة يقودها العراقيون السنة والأكراد، وتضمّ شركاء أوروبيين ودولا عربية مجاورة، وهو الأمر الذي لا يزال يرفضه أوباما، على الرغم من الاستعداد السعودي ـ التركي ـ الأردني المعلن.
وفي ظل الاتجاه بالتدخل البرّي في سوريا، تقف كلينتون بين ترامب الذي أوصى باستخدام «قوة هائلة» ضد الرئيس السوري بشار الأسد، وأوباما المتقلب في مواقفه تجاه مصير الأسد، بحسب مراقبين يرون أنه يكتفي بإدانات لا تبدل المعادلات. ذهبت كلينتون إلى فكرة العمل مع مجموعات محلية لإزاحة الأسد من الحكم، في حين تكتفي إدارة أوباما حتى الآن، بدعم مجموعات محلية مسلحة تحت شعار محاربة التنظيمات الإرهابية (داعش والنصرة)، وتسعى إلى البحث عن نقاط التقاء عبر المفاوضات في جنيف بالإضافة إلى التخطيط للانتقال إلى حكومة معتدلة، الأمر الذي تسعى واشنطن إلى الاتفاق فيه مع موسكو، بحسب محللين.
وبدا موقف كلينتون أكثر تماشياً مع حلفائها في المنطقة، حول فرض منطقة حظر جوي فوق شمال سوريا قرب الحدود التركية، هنا، يلتقي معها ترامب في إقامة مناطق آمنة، لكن من دون الحظر الجوي، بخلاف أوباما الذي رأى أن هذه الخطوة لن تخدم بمكافحة «داعش»، إذْ أنّ التنظيم «لا يملك سلاحاً جوياً»، بحسب قوله.
إيران
ومن النقاط التي تحاول كلينتون الوقوف فيها على الحياد بين ترامب وأوباما، التعامل مع إيران، التي كانت مصدراً للخلاف بينهما قبل وصول أوباما إلى البيت الأبيض في ولايته الأولى، وذلك منذ أن صوتت كلينتون في أيلول العام 2007 لصالح قرار لمجلس الشيوخ يصف الحرس الثوري الإيراني بأنّه منظمة إرهابية، فيما اعتبر أوباما أنّ هذا التصويت يقدّم لجورج بوش (الرئيس آنذاك) «شيكاً على بياض» لشن حرب ضد إيران.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن موقف كلينتون من الاتفاق النووي مع إيران بحدّة موقف ترامب. عارض الأخير الاتفاق وقال إنه سيوقف البرنامج النووي الإيراني «بأي وسيلة ضرورية»، إلاّ أنّ كلينتون لم تعارض الاتفاق الذي طالما دافع عنه أوباما، لكنّها لم تؤيده في الوقت ذاته، بل وصفته بـ «مقاربة غير موثوق بها، ولكن تحققت»، واتفقت مع ترامب باللجوء إلى مزيد من العقوبات أو إلى القوة العسكرية إذا لزم الأمر لفرض الاتفاق.
عمّق الاتفاق النووي مع إيران، الخلاف بين أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد اتهامه الولايات المتحدة والقوى الدولية بـ «التخلي» عن محاولة منع إيران من الحصول على أسلحة نووية، وتلقى الأخير دعوة من أعضاء جمهوريين، من دون استشارة أوباما لإلقاء كلمة أمام الكونغرس عقب توقيع الاتفاق، ما يُنظر إليه على أنه توبيخ لسياسة أوباما، وضع ذلك علامة استفهام لـ «العلاقة الحميمة» بين أميركا و «إسرائيل» في عهد أوباما، بحسب محللين.
وأمام ذلك، تسعى كلينتون إلى تعميق التزام بلادها بأمن «إسرائيل» من خلال دعمها عسكريا، وتحديداً في مجال الكشف عن الأنفاق والدفاع الصاروخي، وقالت إنها ستدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى البيت الأبيض في خلال الشهر الأول من رئاستها لتعيد الالتزام بالتحالف بين البلدين. ولكن المرشحة عن الحزب الديموقراطي، لم تنصع إلى إرضاء كامل لـ «إسرائيل» كما فعل منافسها ترامب الذي أعلن عشقه لـ «إسرائيل»، فهي تسعى إلى رأب الصدع، لكنّها في الوقت ذاته تدعم فكرة أوباما في حل الدّولتين، حيث يصطدم أوباما ونتنياهو مرّة أخرى، وهو موقف يبرز صدعاً نادراً في العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية.
دول الخليج
وكان لعلاقة الولايات المتحدة بالخليج في عهد أوباما، وقع مدّو في السياسة الخارجية، فقد اتهمه مراقبون خليجيون أنّه يعمل لصالح إيران في المنطقة، في حين يرى أوباما أنّه ليس من مصلحة بلاده التقيّد بتقديم الدعم التلقائي للسعودية ودول الخليج. وترجمت دعوة أوباما إلى إلغاء المنافسة بين السعودية وإيران على المنطقة، على أنّها دعوة غير مباشرة للسعوديين إلى اقتسام الشرق الأوسط مع خصومهم الإيرانيين، بحسب محللين خليجيين.
تشدد كلينتون ـ في العديد من تصريحاتها بحسب معهد «بروكينغز» ـ على أنّ منطقة الخليج تشكّل مصلحة أميركية حيوية، من خلال وجود عسكري قوي والحفاظ على مضيق «هرمز» مفتوحاً، وزيادة التعاون الأمني مع دول مجلس التعاون الخليجي، و «مكافحة وكلاء إيران» في الدول الأخرى وإشراك دول مثل تركيا وقطر في تضييق الخناق على الدعم المقدّم لهؤلاء «الوكلاء».
لا تبدو كلينتون مرفوضة بالنسبة للخليجيين كأوباما، فهي تحافظ على «التحالف الطبيعي» ومصالح الولايات المتحدة في تلك البقعة من الشرق الأوسط، بخلاف ترامب، الذي شنّ هجوماً حاداً على السعودية، واتهمها بعدم المساهمة بشكل عادل في كلفة الدفاع الأميركي على أرضهم، وقال في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» في آذار الماضي، إنه ربما يلجأ إلى سياسة مقاطعة النفط من السعودية ودول خليجية أخرى، إذا لم تنفذ مطالبه.
العلاقة مع المسلمين
وحول التصريحات المناهضة للمسلمين، اتفقت كلينتون مع أوباما، بالردّ على دعوة ترامب بوقف «كامل وكلي» لدخول المسلمين الولايات المتحدة حتى يقوم نظام الهجرة بتحسين إجراءات الفرز، واعتبر القياديان الديموقراطيان، أنّ الحرب «ليست بين أميركا والإسلام». وأشارت كلينتون إلى أنّه «من الخطأ فعل أي شيء يوحي بمحاربة الإسلام».
تبدو كلينتون أقرب إلى أوباما في سياستها الخارجية من ترامب، لكنها تحاول الحفاظ على وسطية ما بين شخصيتين، أثارت سياسة كل منهما جدلاً واسعاً في أميركا وخارجها، وعلى الرغم من أنّ أوباما قد يعلن اعتباراً من الأسبوع الحالي موقفه من الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي بتقديم دعمه لكلينتون، إلاّ أنّ جراح المعركة الانتخابية بينهما في العام 2008، لم تندمل أبداً وزاد من آلامها الصدام المستمر بينهما على إدارة ملف السياسات الخارجية للولايات المتحدة.
المصدر: صحيفة "السفير" اللبنانية