وجه الرئيس الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب رسائل قوية تحمل فى مضمونها الكثير من الدلائل تثبت قدرة السوريين على رسم ملامح المستقبل القادم وفق تصوراتهم. وعزمهم على مواجهة تركيا التي تؤجج الصراعات فى المنطقة، في هذا الإطار رأى سياسيون أن الحرب التركية على سورية فشلت فى تحقيق أهدافها وقالوا خلال شهادات أدلوا بها لوسائل الإعلام إن الانتصار الحقيقي الذى حققته تركيا هو ذلك الإنتصار المتعلق بمساحة الجريمة التى اقترفتها ضد المدنيين والبنية التحتية بينما لم تنجح فى تحقيق الهدف الاستراتيجى الكبير وهو كسر شوكة السوريين ومعنوياتهم وإجبارهم على رفع الرايات البيض، لذلك رأينا دعم الأمريكان لأدواتهم في سورية محاولين تفتيتها إلى دويلات لخدمة مصالحها، ولأن سورية مختلفة عن دول العالم إذ تتميز بجيش قوي يقف بحزم ضد جميع المؤامرات التي تحاك ضد سورية، يتجه المشروع الى الفشل.
إن الهجوم الإرهابي الذي وقع قبل عدة أيام في وسط مدينة إسطنبول بتركيا جراء إنفجار سيارة مفخخة، والأحداث التي شهدتها تركيا قي المرحلة الأخيرة بعضها مرتبط بتنظيم داعش والبعض الآخر مرتبط بالقضية الكردية وسعى الكرد للإنفصال عن تركيا، ولجوء حكومة أردوغان إلى التصدى بعنف لهذا المسعى والدخول فى حرب عصابات بين الطرفين، فالتساؤل المطروح هنا، أليس من الأجدى أن يهتم الرئيس التركي أردوغان بالأزمات المتلاحقة التى تواجه بلاده، بدلاً من التدخل فى شؤون الدول الأخرى وخاصة سورية؟.
اليوم ليس هناك أدنى شك فى تورط أجهزة استخبارات دول عدة فى خلق الفيروس الداعشي ونشره إقليمياً، وفى مقدمتها أجهزة الإستخبارات التركية، وهنا يجادل البعض بأن تركيا تقاتل داعش في سورية، فكيف لها أن تقاتل تنظيماً أسهمت فى تأسيسه وتوسيع نفوذه، والإجابة هنا بسيطة للغاية، لأن تركيا لم يكن لها أن تدخل سورية سوى تحت غطاء تهديد وجودي مثل داعش والمجموعات المتطرقة الأخرى، كما لم تكن هناك فرصة للوجود التركي والغربي فى سورية سوى من خلال تمدد داعش واستيلائه على مناطق مختلفة من الأراضى السورية، بمعنى أن تنظيم داعش هو غطاء استراتيجي واسع التأثير ليس لتركيا فقط، بل لدول كبرى تقدم له التسهيلات اللوجستية وتغض الطرف عن تمدده الجغرافى لأسباب تتعلق بمصالح هذه الدول وطموحاتها التوسعية الرامية إلى إعادة هندسة الإقليم وفقاً لحسابات مصالحها الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
إن الرئيس التركى يظن أن بإمكانه إعادة إقامة الإمبراطورية العثمانية مرة أخرى ليكون وصياً عليها، ولا يرى أن الدولة التركية نفسها مهددة الآن بالتفكك فى ضوء تصاعد الحرب مع الكرد والتناحر السياسي ونار الكراهية العرقية والإثنية المنتشرة بها، لذلك فأن الشغل الشاغل لأردوغان هو احتضان ودعم هذه الجماعات المتطرفة وأدواتها التي قد تدعم حلمه الإمبراطوري، والتدخل فى شؤون الدول الأخرى لمحاولة تمكين هذه الجماعات من شؤون الحكم، وتقديم الدعم المادي والمعنوي والسياسي لمساعدة هؤلاء المتطرفين على نشر الفوضى فى دول المنطقة.
ليس خفياً على أحد، أن التدخل الروسي في سورية، خلط أوراق الحرب هناك، وقلب الطاولة على الأتراك، فقد كانت أنقرة قبل التدخل الروسي بأشهر قليلة، قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مبتغاها بإنشاء منطقة عازلة في الشمال السوري، إذ بدأت بالفعل بوضع الخطوط العريضة لهذه المنطقة مع الحكومة الأمريكية، وكانت تطمح من خلال هذه المنطقة إلى منع التمدد الكردي في شمال سورية، وتأكيد سيطرة المجموعات المسلحة على مدينة حلب بكاملها وبالتالي إضعاف وتقسيم سورية.
وفي الإتجاه الأخر ألمح أردوغان أن تركيا قد تتدخل عسكرياً في سورية، ولكن الظروف الراهنة وسياسة حكومة أوباما الحذرة جعلت الخطوة بعيدة المنال حالياً لذلك يبدو رهان تركيا الوحيد مقتصراً على دعم القوى المتطرفة وأدواتها في سورية، فأمريكا لا تريد هذا التدخل لأنها تضع في حساباتها ردود الأفعال الدولية الرافضة لهذا التدخل خاصة من روسيا وإيران كما أنها لم تبد أي حماس لهذا التدخل وإعتبرته شيئا غير مهم بل على العكس انها اعتبرته امرا مستفزا لبقية الدول الأخرى الداعمة لسورية كروسيا وايران، وبالطبع وبدون أمريكا لن تسطيع تركيا وحلفاؤها التدخل العسكري في سورية لان هذا الأمر يحمل في طياته الكثير من الصعوبات وأهمها عدم وجود تأييد دولي لها.
من الطبيعي أن تفشل تركية في سورية، و لعل حزب العدالة والتنمية قد اكتشف مؤخرا أن صعود الشجرة السورية ليس سهلا وأن المشكلة ليست في إعلان بداية الحرب بل في كيفية إنهائها، و بطبيعة الحال، ضخت تركيا ترسانتها المليئة بالأسلحة الأمريكية الصهيونية بالإضافة الى ملايين الدولارات في هذه الحرب على الشعب السوري بداعي إسقاط النظام السوري، بالنتيجة سقط حزب العدالة والتنمية في الإمتحان السوري، وكل ما أنجزه هو تدمير للبنية التحتية و قتل الآلاف من الأطفال و النساء ، في حين لا تزال القوات السورية تدك القواعد الحدود التركية بنيران الصواريخ و ترفض رفع الرايات و الإستسلام،وإنطلاقاً من ذلك فشلت أنقرة في تحقيق أحلامها بالمنطقة، الأمرالذي تسبب في الإضرار بمصالح تركيا كونها إتبعت سياسة خارجية خاطئة، فضلًاً عن زيادة نفوذ موسكو وطهران في المنطقة ووقوفهما ضد أهداف تركيا، التي لم تتمكن من إيجاد موطئ قدم لها في المفاوضات الجارية المتعلقة بتسوية الأزمة السورية.
مجملاً... وفي إطار التطورات الحالية تجد تركيا نفسها أمام مأزق حقيقي، أن المنطقة العازلة فِكرة غير قابلة للتحقق في ظل معارضة روسيا وإيران وسورية، كما أن تركيا التي أدارت الصراع في سورية خسرت رهانها على أن تكون هي الراعية وبيدها الورقة الكردية لكن في الحقيقة سقط هذا الرهان خاصة بعد أن فشل أردوغان من إعادة خلط الأوراق وإحداث فوضى عسى أن يتمكن من تحقيق أهدافه، ولكن كل هذه الأوهام تلاشت وإنهارت لأن قوات الجيش السوري على مختلف المكونات والأطياف هبوا ليقفوا صفاً واحداً للقضاء على داعش وطردها، وبذلك فأن تركيا دفعت ثمناً سياسياً ودبلوماسياً باهظاً لمغامرتها الطائشة في سورية، وبسبب ذلك تحولت الأضواء الى سجلها الذي يرثى له في مجال حقوق الانسان.
وبإختصار شديد إن تركيا تلعب بالنار، ولكنها نار مختلفة هذه المرة وتزداد قوة وقد تحرق أصابع أخرى، والمأمول آن تدرك القيادة التركية حجم هذه المغامرة، وتبادر الى مراجعة حساباتها، وتجنب التورط بقدر الإمكان بالمستنقع السوري، وفي تقديري أن الأسابيع القادمة ستشهد تدويراً للكثير من الزوايا والقضايا في مجمل العلاقات الدولية، والأيام المقبلة وحدها ستجيب عن ذلك.
Khaym1979@yahoo.com