كتب سمير الفزاع
لماذا سعت واشنطن وأدواتها لإسقاط جنيف والتصعيد في حلب؟ إلى أين تتجه الامور استنادا إلى وقائع مفتاحيّة؟ تلك هي السياقات التي سأحاول بعض الإجابات عنها، بتركيز ومباشرة.
عقب تحرير تدمر، تحدثت مصادر حكومية أمريكية عن تراجع داعش وتآكل قوتها واستعادة الدولة السورية للمبادرة الميدانية... لكن قبل أيام فقط حذر الرئيس اوباما من تفكك سورية، لماذا؟ المتغير الأساسي بين الأمس واليوم، ميداني بشكل خاص. كيف ولماذا حصل هذا "الخرق" الميداني؟ رعت واشنطن وأدواتها الإقليمية وتحديداً تركيا، نقل قرابة 5000 ألآف إرهابي إلى شمال سورية، وتنفيذ أوسع واكبر عملية تسليح لأدواتها الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم القاعدة في سورية-جبهة النصرة... لخلق نسق ميداني جديد، يؤسس لإرساء معادلة سياسية تكون عنوان لمعاركهم القادمة بعد تحطم عناوينهم السابقة: تقاسم النفوذ جغرافياً كمقدمة لتقاسم النفوذ سياسياً.
تتهرب واشنطن منذ شهرين من تنفيذ "تفاهم" توصلت اليه مع موسكو قبيل الإعلان عن اتفاق وقف العمليات القتالية، لفرز وفصل "الجماعات المسلحة المعتدلة" عن جبهة النصرة في حلب وأريافها... لتفرض نسق سياسي-عسكري-إنساني في حلب يكون مدخلاً لمعادلة "تقاسم النفوذ" في سورية -بدأ المسئولون الأمريكيون بالحديث عنها مؤخراً- ما سيجعلها "شريكة" في القرار الوطني السوري من أصغر التفاصيل لأكبرها. هنا يظهر الهدف من التصعيد الأخير في حلب والقامشلي، وكسر "الهدنة"... كما وتظهر أهمية قيام سورية وحلفائها بعمل عسكري واسع ومنظم وحاسم... ينقذ حلب وسورية بأكملها، من هذا المخطط الجهنمي.
* حقائق راسخة:
* عقب اندلاع نار الربيع العربي، والانخراط الكلي لأدوات واشنطن في المنطقة من مؤسسات وأحزاب ومحميات وحكومات –الإخوان المسلمين،جامعة الدول العربية،محمية آل سعود،نظام اردوغان- وفشل مشروع الربيع العربي بإسقاط سورية، وإنهاء الصراع العربي-الصهيوني، والتحكم المطلق بمنابع الطاقة ومسارات وسائل نقلها... اكتشفت واشنطن مأزقها الكبير: استنفاذها "التام" لأدواتها إلى الحدّ الذي باتت هذه الأدوات تعاني من مخاطر وجودية عميقة قد تأخذ بعضها إلى الفناء... في حين يزداد أعداء واشنطن قوة وحضوراً وتماسكا في الميدانين الإقليمي والدولي... لهذا أطلق اوباما صرخته الشهيرة في صحيفة "اتلانتك" محملاً حلفاء واشنطن من متسلطين ومتشددين وممتطي الظهور... هذا الفشل الاستراتيجي والتاريخي.
* كما كان "التغاضي" عن طرح السؤال المركزي في بداية الحرب على سورية: ماذا لو لم يسقط الرئيس بشار حافظ الأسد وتنهار سورية، أحد أهم الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبها حلف الحرب على سورية، ما أوقعهم في رزمة واسعة من السياسات والإجراءات المتناقضة وغير المفهومة أحيانا... لتجد واشنطن نفسها وأدواتها اليوم، في "مطب" استراتيجي جديد: من سيحارب الإرهاب في سورية والعراق، ما يمنحه أفضلية حاسمة في رسم مستقبل هاتين الدولتين؟، الحلفاء "العرب" أضعف من مغامرة بهذا الحجم، ولا يمكن الاستعانة بالكيان الصهيوني وإلا انهار كل شيء، والتدخل التركي سيغرق النيتو في حرب جديدة لا يريدها وغير قادر على خوضها... ظهر هذا المطب بعد إنشاء واشنطن لتحالفها "لمحاربة" داعش قبل عام ونصف تقريباً، لتكتشف سريعاً، أنها لا هي ولا أحد الدول التابعة لها أو أي من أدوات الغزو الإرهابية في الداخل السوري أو العراقي، قادرة على الانخراط ميداناً بشكل حاسم، ما يضعها "منطقياً" في خانة إلزامية لا تريدها بتاتاً: التحالف مع الجيش العربي السوري هنا، والجيش العراقي والحشد الشعبي هناك ... تضاعف هذا المأزق مع التدخل الروسي الصادم والمفاجئ في الميدان السوري، وبعد فشل أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وعلى رأسها CIA، في تقدير ورصد هذا التحول الحاد في المشهدين السياسي والميداني... جرح "رش الملح" عليه الرئيس بوتين، عندما قال: إن CIA من أفضل أجهزة الاستخبارات في العالم لكنه لا يعرف كل شيء ولا يجب أن يعرف كل شيء.
* أفرزت الحرب على سورية "مناخاً دولياً" جديداً أظهر بدون شك، تحولاً استراتيجياً في موازين القوى الدولية، وتالياً في العلاقات الدولية، بدا جلياً في عدة عناوين كبرى، أهمها بالنسبة لمنطقتنا: أن واشنطن لم تعد قادرة ولا راغبة في شنّ حروب مباشرة تعيدها إلى المستنقع الذي قصم ظهرها في العراق... وهذا التحول ترك آثاره الثقيلة على أدوات واشنطن في المنطقة عندما تقلصت "مظلة" القوة الأمريكية إلى حالة "الدفاع عن النفس"، حيث "ذهبت" السعودية وحيدة تقريباً إلى حربها على اليمن، وفشل اردوغان في إقامة المنطقة العازلة في سورية، وصمتت آلة القتل الصهيوني في لبنان وسورية... صحيح، قد تتقاطع مصالح واشنطن مع "طموحات" هذه الأدوات، لكن "حدود القوة" ومحدوديتها التي تحدث عنها اوباما، تجعل واشنطن تقدم مصالحها الخاصة على ما سواها اولاً، ويزيد من مستوى حذرها حيال أي تصادم إقليمي أو دولي يزيد من انكشافها وضعفها ثانياً، وقصر استخدام حضورها على "حماية" حلفائها أو ما تبقى منهم دون مغامرات عسكرية لصالح ممتطي الظهور والراكبين المجانيين ثالثاً.
* أحد رهانات إدارة اوباما الكبرى للامساك بالمنطقة بإستخدام إستراتيجيته "الناعمة"، القيادة من الخلف، التغلغل في الداخل الإيراني، عبر محاولة تنمية وربط المشروع "الإصلاحي-الانفتاحي" الذي يقوده الثلاثي محمد خاتمي-هاشمي رافسنجاني-حسن روحاني، بالغرب وأمريكا تحديداً... الرهان الذي يفسر الكثير من "مظاهر" سياسية الرئاسة الإيرانية، وحليفها القوي في مصلحة تشخيص النظام، رافسنجاني... تجاه سورية وقيادتها من جهة، وخصومها وأعدائها من جهة أخرى. كما يفسر هذا الامتعاض؛ بل والخوف الخليجي والصهيوني من "استعادة" هذا الجناح لدور إيران ما قبل الثورة الإسلامية... لكن حجم الرهان الضخم، وخوف قادة هذا التيار من خطوة "خاطئة متسرعة" قد تسقط المشروع أو تأخذ إيران ذاتها إلى اضطرابات تنتهي بإندثاره في نهاية الأمر، وظروف المواجهة الإقليمية والدولية التي تصب في مصلحة التيار "الاصولي"، واستحالة تقديم الغرب لتنازلات كبرى لهذا الجناح "الاصلاحي" تساعد على تعويمه وسيطرته على مفاصل الدولة الإيرانية، والصمود السوري التاريخي بمساعدة حلفائه الكبار، ومنهم إيران الإمام الخامنئي والحرس الثوري...، والعمل "التخريبي" الذي يقوده المتضررون من هذا الكابوس مثل آل سعود والصهاينة... جعل من الرهان أكبر وأصعب وأخطر من أن يتحقق.
* بشق الانفس عبرت واشنطن عن "سعادتها" بتحرير الجيش العربي السوري وحلفائه لتدمر، لكن عواصم أخرى مثل لندن وباريس وانقره والرياض... التزمت الصمت بعد أن أتت المفاجأة على ألسنتهم. حاولت جبهة الحرب على سورية كسر سياق الأحداث: وقف العمليات القتالية ليس في صالح مشروع الحرب، ويجب خرقها. تقدم الجيش العربي السوري وحلفائه نحو الرقة ودير الزور... سيوجه ضربة قاصمة لمخطط الحرب على سورية برمته، ويجب وقفه. مفاوضات جنيف في ظل الخلل الكبير لموازين القوى في الميدان، وانهيار داعش في تدمر والقريتين وصولاً إلى مشارف حوض الفرات... يعني، أن القيادة السورية ستكسب الشرعية المزدوجة مجدداً: محاربة الإرهاب، والانخراط الايجابي في عملية سياسية... فيجب نسفها. فتحت مجدداً جبهة ريف اللاذقية الشمالي وريف حلب... كي "تجمّد" تقدم الجيش العربي السوري وحلفائه نحو حلب والرقة ودير الزور، ولو مؤقتاً، وتنسف اجتماعات جنيف، وتوقف هذا الانهيار الكبير.
* ختاما، لم يكن في حسبان أعداء سورية أن يتهيأ الجيش العربي السوري وحلفائه، وبهذه القوة لمعركة حلب. الاستعدادات التي تجري منذ أسابيع، تؤكد بأن هناك نية ليس لمحاصرة أدوات الغزو الإرهابية في حلب؛ بل وتطهيرها كلياً، وهو ما يستدعي فتح معركة واسعة تطال الأحياء "المحتلة" في المدينة وما تبقى من ريفها إلى جانب مساحات كبيرة من ريفي ادلب وحماه. الرياض وتركيا ومن خلفهم واشنطن، يراهنون على تثبيت "معادلة" جيوسياسية في حلب: لا حل لمدينة حلب إلا "باتفاق" إقليمي-دولي... . بعد اشتراك عدد كبير من الفصائل المصنفة "معتدلة" مع جبهة نصرة القاعدة، في إسقاط اتفاق وقف العمليات القتالية، لن يكون السؤال: كيف سيردّ الجيش العربي السوري وحلفائه؛ بل متى سيرد الجيش العربي السوري وحلفائه؟. الجواب الصاعق لن يأتي بعد ساعات، ولكنه لن يتأخر لأسابيع حتماً.
حلب، وحقائق الميدان والسياسة، متى الفرج؟
2016-04-27