غسان العياش
الاعتراضات التي أبدتها قطاعات من الرأي العام المصري ضد اتفاق ترسيم الحدود البرّية مع المملكة العربية السعودية لم تقتصر على معارضي الرئيس عبد الفتاح السيسي وحسب، بل شملت أيضا أصواتاً موالية أو محايدة. العصبية الوطنية حقيقة ثابتة في مصر، كما أن التنازل عن جزيرة تيران وجارتها صنافير يمسّ الذاكرة الجماعية للمصريين ويستعيد في أذهانهم حرب 1967 وما تسبّبت به من تضحيات وآلام.
سعياً منها للجم هذه الاعتراضات، عمّمت الحكومة المصرية، متأخرةً جدّا، مجموعة من الوثائق والمراسلات التي تبيّن مسوّغات الموافقة على الطلب السعودي.
ويبدو أن المرجع الرئيسي الذي يدعم المطالبة السعودية بالجزيرتين أن نشر قوات مصرية فيهما سنة 1950 جاء استجابة من الملك فاروق لطلب الملك عبد العزيز آل سعود، بعد هزيمة فلسطين، لأن المملكة لم تكن قادرة على حمايتهما.
لكن معارضي ضم الجزيرتين للسعودية لم يفتقروا إلى الحجّة. ففي غمرة الجدل التاريخي والجغرافي الذي فجّرته القضية، قدّموا مراجع واجتهادات تدحض رأي الحكومة وتتهمها بمخالفة الدستور والتنازل، لقاء المال، عن جزء من الأرض المصرية. بلغت المعارضة لقرار الحكومة حدّ التشهير بالرئيس المصري وحكومته، مثل تغريدة الإعلامي الساخر باسم يوسف التي قال فيها: «قرّب قرّب يا باشا، الجزيرة بمليار، الهرم باتنين، وعليهم تمثالين هدية».
بمعزل عن جوهر النزاع حول ملكية الجزيرتين، تكوّن نوع من الإجماع بأن الحكومة المصرية أخطأت في طريقة الإعلان عن موقفها، لكونه جاء سريعاً وصادماً وأُعلِن قبل تحضير الرأي العام لتقبّله. كما أنها اختارت توقيتاً سيئاً لإعلان ترسيم الحدود بسبب تزامنه مع زيارة الملك سلمان للقاهرة وفي غمرة الاتفاقيات المالية التي وقعها، بما سمح باتهامها بأنها تنازلت عن جزء من التراب الوطني لقاء بدل مالي. ونسبت الصحافة المصرية إلى الحكومة عدم اكتراثها «بحق جموع الشعب المصري في معرفة أسرار المباحثات» التي قادت إلى ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية.
إذا كان مشروع ترسيم الحدود يخلق اضطراباً على المدى القصير في مصر، فإنه، على المديين المتوسط والطويل، قد يضع المملكة العربية السعودية أمام تحدّيات ومسؤوليات لم تعهدها من قبل.
فإذا دخل الترسيم حيّز التنفيذ، بعد موافقة البرلمان المصري عليه، تنتقل السعودية من دولة مساندة، في الصراع العربي الإسرائيلي، إلى دولة مجابهة، لأن قواها الأمنية ستحل محلّ القوات المصرية الموجودة في جزيرة تيران والتي تقوم حالياً بأعمال الشرطة. هذا التواجد لا يشكل في الظروف الراهنة عبئاً عسكرياً كبيراً على المملكة لأن الجزيرة، بموجب اتفاقية كمب دافيد، خاضعة لقوّات دولية تشرف على حسن تطبيق الاتفاقية وتضمن حرية الملاحة الاسرائيلية في خليج العقبة. بالتالي، وهذا أمر جديد، فالسعودية ستصبح عملياً ملتزمة بتنفيذ جانب من شروط كمب دافيد. هذا اذا استمر السلام، أما اذا ساد التوتر وتجدّد النزاع فستصبح السعودية في موقع متقدّم من الصراع مع اسرائيل، لكونها تسيطر على مدخل خليج العقبة الحيوي الذي يربط مرفأ إيلات بالبحر الأحمر.
من ناحية أخرى، يجب التبصّر بما قد يترتب على المملكة من مسؤوليات والتزامات نتيجة اقترابها من «ممالك الفقر» المنتشرة في أرجاء مصر، خصوصاً أن ضمّ الجزيرتين يتزامن مع إنشاء «جسر الملك سلمان»، الذي يشرع الأبواب على مصراعيها بين السعودية ومصر.
من تيران تبدو أمام السعوديين في الأفق منتجعات شرم الشيخ المترفة، أقرب المناطق المصرية إلى الجزيرة المستعادة، وخلف «جنة شرم الشيخ» صحارى خالية من البشر لا وجود فيها إلا للرمال. ثم سرعان ما تظهر بعدها شمال سيناء، المنطقة الفقيرة والتعيسة التي تبلغ نسبة الفقر «المسجّلة» فيها 20 في المئة، وهي تنتج البدو والمعدمين، وتصنع من بؤسهم مادّة للعنف والإرهاب. وقد تعاملت السلطات المصرية مع هذه المنطقة على أنها معقل الإرهاب، فلم تعالج مشاكلها العميقة بالرعاية والتنمية، بل بالقمع والقسوة، إلى حدّ إجبار آلاف السكان في المناطق «المشبوهة» على إخلاء مساكنهم، لمنع تهريب الأسلحة وتسلل المسلحين المتطرفين بين غزة وشمال سيناء.
ثم تتوالى مشاهد البؤس الاجتماعي في باقي الأرجاء المصرية حيث يعيش 15 مليون مصري بأقلّ من دولار واحد في اليوم. تزيد نسبة الفقر الإجمالية في مصر عن 26 في المئة، وتصل إلى 60 في المئة في أقاصي الصعيد. معدّلات البطالة في المناطق المصرية التي لا تبعد عن خليج العقبة والجسر الجديد هي الأعلى في كل مصر، وتأتي محافظة بورسعيد في الطليعة، إذ يبلغ معدّل البطالة فيها 26 في المئة تليها بالترتيب الإسكندرية ثم السويس.
بعد الاقتراب الجغرافي والبشري من مصر، بفضل الجسر والجزيرتين، يفترض أن تتحمّل المملكة العربية السعودية مسؤوليات اقتصادية جدّية وطويلة المدى للمساهمة في تغيير الواقع الاجتماعي في مصر. فهي أدرى، في ضوء التجربة اليمنية المرّة، بالصداع الحادّ الذي يسبّبه الفقر المدقع عندما يستوطن في الجوار.
عن صحيفة "السفير" اللبنانية