بقلم: د. بسام أبو عبدالله
اعتقد رجب طيب أردوغان لفترة طويلة أنه سوف يُنصب سلطاناً على الإخوان المسلمين في المنطقة (من شمالي إفريقيا إلى بلاد الشام)، وكان اتفاقه مع المشروع الأميركي- الصهيوني بأن تكون تركيا خارج إطار التقسيم، والشرذمة أما باقي البلدان العربية، والإسلامية فلتذهب إلى الجحيم هي وشعوبها وقادتها، المهم أن يُعاد إحياء (العثمانية الجديدة) وأن يتمدد أردوغان بنفوذه إلى حيث يستطيع في خدمة المشروع الكبير كي يتمكن من الاستمرار في دوره الوظيفي، لأنه يعرف تماماً أن الفشل معناه تدفيعه الثمن والخسائر وصولاً إلى قطع رأسه سياسياً كما حصل مع سلفه عدنان مندريس.
يبدو واضحاً الآن أن صمود سورية، وصبر شعبها وتضحياته، وبطولات جيشها العظيم، ودعم الحلفاء لها بثبات وقوة، قد أسقطت أوهام أردوغان تماماً، لا بل إنه بدأ يشعر، ويلمس أن الحبل يلتف حول عنقه على الرغم مما قدمه من خدمات للمشروع الأميركي- الصهيوني، ومن هنا يبدو واضحاً أنه بدأ ينتقل إلى مواجهة عملية إنهاء دوره بعد قراءة مؤشرات ذلك، ومنها:
1- منذ بدء انتفاضة «جيزي بارك» في اسطنبول فهم أردوغان أن هناك من يريد تحريك الشارع ضده تحت لافتة استخدمها هو ضد غيره «كلمة حق يراد بها باطل»- الديمقراطية، الحريات- حقوق الإنسان، وهي الشعارات نفسها التي تلطى خلفها هو وإخوان سورية الذين احتضنهم في اسطنبول، وفتح لهم المكاتب، والشاشات، والدعم اللوجستي إذ تبين له أن جماعة «فتح الله غولين» ذات النفوذ داخل تركيا وذراع أميركا هي التي تدير وتدعم هذا التحرك الشعبي، بغض النظر عن المظلومية، والمطالب المحقة للمشاركين في الانتفاضة..
2- قرأ أردوغان بعناية الرسالة الثانية من أميركا عبر فتح الله غولين عندما أمرت النيابة العامة في اسطنبول باعتقال أربعة وزراء في حكومته مع بعض أبناء الوزراء بتهم ترتبط بالفساد، وهي تُهم حقيقية فعلاً، ولكن الهدف الحقيقي كان الوصول لأردوغان شخصياً، وعائلته، وخاصة ابنه بلال- والإطاحة به قبل الانتخابات الرئاسية، وخاصة أن نفوذ «غولين» في القضاء واسع، وكبير، وترافق ذلك مع اعتقال رجل الأعمال الإيراني المولد التركي الجنسي «رضا زراب» المتهم بعمليات بيع النفط الإيراني عبر تركيا ومن خلال مقربين من أردوغان، وإذا أضفنا إلى ذلك نشر المكالمات الهاتفية بين أردوغان، وابنه بلال وبينه، وبين شركات تركية تدعم حزبه، وقضية تهريب الأسلحة إلى سورية- والفيديوهات التي نُشرت، وكذبت رواية أردوغان وحكومته حول المساعدات الإنسانية، وأظهرت تورطه في دعم الإرهاب وتمويله.. فإننا نكتشف أن هناك من يريد الإطاحة بأردوغان وإسقاطه شعبياً… الأمر الذي فشلت به هذه الجهات من خلال تمكنه من العودة للبرلمان التركي بقوة أكثر من السابق في انتخابات تشرين الأول 2015.
3- ترافق كل ذلك مع حملة إعلامية في وسائل الإعلام الغربية- والأميركية خاصة توُصف أردوغان بالديكتاتور، والسلطان، وقامع الحريات والصحافة، والفاسد، وصولاً إلى وصف الرئيس الأميركي باراك أوباما له في حديثه الأخير مع (ذا اتلانتيك) بالمستبد الغبي!!! والسؤال هنا: ألم تكن واشنطن تعرف أنه كذلك، وهل هي اكتشفت فجأة أنه ديكتاتور، وسلطان، على الرغم من تكليفها له بمهمة أن يكون سلطاناً، أم إن الأمر يرتبط بفشله في المهمة الموكلة له.
4- تشير التفجيرات الأخيرة التي وقعت في أنقرة، واسطنبول، وغيرها من المدن التركية مؤخراً إلى وجود أياد تعمل على هز استقرار تركيا، كما عملت ضد سورية، وغيرها من بلدان المنطقة، ويترافق كل ذلك مع تراجع اقتصادي كبير، وتناقص في أعداد السياح بشكل كبير، علماً بأن السياحة تعتبر مورداً اقتصادياً مهماً لتركيا وصل إلى أكثر من 31 مليار دولار في عام 2015.
5- إن التسريب الذي نُسب أخيراً إلى ملك الأردن عبد الله الثاني من أن «تركيا مسؤولة عن تهريب، ونقل الإرهابيين إلى سورية»، هو مؤشر آخر، ذلك أن عبد الله الثاني غالباً ما ينقل مؤشرات وبوصلة المرحلة القادمة، ألم يبدأ هو بالحديث عن «الهلال الشيعي!!!» قبل البدء بمشروع تدمير المنطقة، والفوضى الخلاقة… ومن هنا يبدو أن زيارة داوود أوغلو إلى عمان تأتي ضمن إطار سؤال ملك الأردن «ألسنا من دفناه معاً!!» فكيف يتم إلقاء المسؤولية على تركيا فقط؟!!
6- إصدار وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر في 29/3/2016 أمراً لأسر العسكريين الأميركيين بضرورة مغادرة مناطق جنوب تركيا في «أضنة» بما في ذلك قاعدة انجيرليك، إضافة لـ«إزمير، وموغلا»… وجاء القرار قبل ساعات من مغادرة أردوغان في زيارة لواشنطن للمشاركة في قمة الأمن النووي، والتي رفض أوباما لقاء أردوغان خلالها رسمياً في إشارة أخرى مهمة على أن الرجل لم يعد له دور وتأثير، وأن فعاليته- ومدته انتهت..
وترافق ذلك مع تحذيرات إسرائيل لسياحها بعدم السفر إلى تركيا بسبب وجود مخاوف أمنية.
7- تفيد وسائل الإعلام التركية أن اعتقال رجل الأعمال الإيراني المولد- التركي الجنسية «رضا زراب» بتاريخ 19/3/2016 في ميامي في الولايات المتحدة الأميركية بتهمة خرق نظام العقوبات الأميركي ضد إيران، هو رسالة لاردوغان- وخاصة أن «زراب» كان المسؤول عن دفع الرشاوى لوزراء أردوغان المستقيلين، وابنه، وأن واشنطن التقت «زراب» في تركيا، ووعدته بتقديم الحماية له إذا أدلى بكل المعلومات التي تكشف شبكة فساد أردوغان وحكومته، وهو الأمر الذي رد عليه أردوغان قبيل مغادرته إلى واشنطن بالقول: «هذا الأمر لا يقلق تركيا، معتبراً أن من يمارس غسل الأموال موجود في بنسلفانيا (أي فتح الله غولين)، وأشار: «إن من نتحدث عنه ليس فرداً بل شبكة مكونة من آلاف الأشخاص، وقد أخبرنا أصدقاءنا الأميركان بذلك لكنهم لم يفعلوا شيئاً».
ما ذكرته من تفاصيل هو ضروري لفهم حقيقة الصراعات القائمة بين واشنطن وأدواتها المتورطة في مشروع تدمير سورية، والمنطقة، بهدف تقسيمها وتفتيت شعوبها خدمة للمشروع الصهيوني، وما يجري الآن من كشف للأوراق، والأسرار هو دليل آخر على سقوط الأوهام لدى المعلم الرئيسي وأدواته التي تشعر بقلق وجودي يظهر لدى أردوغان والسعوديين الذين يهاجمون أوباما، وإدارته ويحملونها كل نتائج الفشل، مقابل قيام واشنطن بإلقاء الفشل على من سماهم أوباما (المستبدين الأغبياء!!).
– بالمقابل فإن أردوغان لا يريد التسليم بهذه النتيجة، ولذلك لجأ إلى سياسة (قطع رؤوس الأحصنة) كي لا يبقى غيره- أي إذا أرادت واشنطن الركوب فلا حصان غير (أردوغان)، ولذلك عمل على خطوات استباقية منها:
1- اجتثاث شبكة (فتح الله غولين) العميقة داخل تركيا (مدارس، بنوك (بنك آسيا))، صحافة (صحيفة زمان) وجمهورييت، القضاء، الجامعات، الإعلام) واعتبار أي علاقة مع هذه الشبكة بمنزلة دعم للإرهاب، وخاصة أنه اعتبرها منظمة إرهابية لابد من ملاحقتها، إضافة لإبعاد رفاق دربه في الحزب (عبد الله غل، بولنت أرينتش، وغيرهم كُثر).
2- إعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية، وإطلاق يدها في ضرب حزب العمال الكردستاني، وخاصة أنه اكتشف أن الدعم العسكري للحزب الكردستاني يأتي من أميركا، وأن إدارة وترتيب أوراق (حزب الاتحاد الديمقراطي)، في الشمال السوري يتم عبر واشنطن أيضاً، الأمر الذي يعني أن الهدف هو تقسيم تركيا، ومن هنا جاء إعلان تركيا تمسكها بوحدة سورية واعتبار ذلك (خطاً أحمر)!! غريب ذلك- أليس كذلك؟!
3- الرد على اعتقال (رضا زراب) في أميركا، باعتقال رجل أميركا (آيدين دوغان) مالك شبكة (سي إن إن تورك)، وصحيفة حرييت وصاحب الإمبراطورية الإعلامية الكبيرة..
4- التخلي عن خطاباته السابقة المرتبطة بالتحريض على سورية، والرئيس الأسد، والتركيز على الخطاب القومي لشد عصب الأتراك ضد المخاطر التي تواجه تركيا، والحديث عن تركيا الوطن، والانتماء، والعلم، ومواجهة المخططات التي تستهدفها..
5- ابتزاز أوروبا في قضية اللاجئين السوريين، ومحاولة تحقيق مكاسب لتركيا، ومكاسب داخلية على حسابهم، وخاصة أنه يدرك، ويعرف أن الأوروبيين، وخاصة فرنسا، وبريطانيا وألمانيا، وبروكسل، كانوا جزءاً من مشروع ضرب سورية، والتآمر عليها، وبالتالي فإن تحميله كل المسؤولية لابد من الرد عليه.
– إن مجمل التحليل السابق لا يهدف لتبرير أعمال أردوغان، وسياساته لكنه يهدف لكشف خبايا الصراع الدائر في تركيا، ومع أميركا، وبين أميركا وأدواتها في المنطقة، وهي كلها مؤشرات على سقوط الأوهام.. ووضع أردوغان حالياً يذكرك بوضع صدام حسين تماماً عندما استثمره الأميركيون عبر تمويل خليجي ضد إيران، ثم انقضوا عليه لينكروا كل دوره السابق، فاضطر لطرق أبواب دمشق التي عاداها- لسنوات، والآن لا تستغربوا أن يطرق أردوغان أبواب دمشق بشكل غير مباشر، ومباشر، وهو يرى نفسه كبش الفداء المطلوب..
وخاصة أنه يرى كثيرين يسبقونه لذلك بدءاً من الأوروبيين- وانتهاء بالأميركان..
دمشق بالتأكيد تتعاطى بالدبلوماسية، والسياسة، وهي لن تعود لسياسة (تبويس اللحى) ولكنها تعمل بالليل والنهار لتحييد الأخطار بالطرق كافة، والدبلوماسية والسياسة أحدها.
المصدر: صحيفة "الوطن" السورية