ايلي الفرزلي
من الأمين العام للأمم المتحدة إلى وزير الخارجية البريطاني وصولاً إلى الزيارة المؤجلة للرئيس الفرنسي، مروراً بالكثير من الموفدين، الذين تنبهوا فجأة إلى أهمية زيارة لبنان في هذه المرحلة، بندان لا ثالث لهما على جداول الأعمال: قضية النازحين ومكافحة الإرهاب، وخلفهما يدخل عرضاً.. الاستقرار الداخلي.
صحيح أن العنوانين ليسا جديدين، بل عمرهما من عمر الأزمة السورية، لكن الالتفاتة الغربية المتأخرة لهما، والدعوات إلى إبقاء النازحين في دول الجوار، حرّكت كل المكنونات اللبنانية والهواجس الطائفية والحزبية التي تخبو ثم تصحو أكبر مع كل أزمة.
هذا لا يعني أن القلق ليس مبرراً أو أن المشكلة ليست كبيرة. فلبنان صار مضرب مثل. وإذا كان المسؤولون اليونانيون يتوحدون خلف عبارة: لا نريد أن نكون لبنان أوروبا (بعد إقفال طريق البلقان والاتفاق الأوروبي مع تركيا)، فإن لبنان يعطي الأولوية لصراعات الحكم، التي لا تخاف اللعب بنار ملف النازحين. وبذلك، يصبح عادياً أن يرفع وزراء الصوت في وجه الحكومة التي ينتمون إليها، منتقدين إدارتها للملف، ويصبح عادياً أن يتهم رئيس الحكومة وزراء بمفاقمة الأزمة من خلال مزايدات انتخابية. وفي سياق الإدارة الفاشلة للملف، يصبح عادياً، على سبيل المثال، أن لا يُدعى وزير الشؤون الاجتماعية للمشاركة في وفد لبنان إلى مؤتمر لندن للنازحين.
وفيما ترفض اليونان أن تتحول إلى «مخزن للأرواح»، كما لبنان، في ظل قناعة دولية بأن الحرب السورية لن تنتهي في المدى القريب، فإن التحدي الأكبر سيكون حينها: هل من نزح سيعود بعد انتهائها؟ الإجابة التي يرددها اغلب من يعمل في مجال الإغاثة هي: «لا». وذلك لا يعود إلى قرار دولي أو وطني، إنما لأسباب موضوعية تتعلق بحقيقة مفادها أن عشر سنوات من النزوح كافية للتأسيس لـ «توطين الأمر الواقع» المرتبط بالزيجات والولادات والاستثمارات والاستقرار والتعليم.. هو توطين لا يحتاج إلى تثبيته بالتجنيس. وهذا تحديداً ما يزيد من الحساسيات الطائفية والمخاوف الأمنية، التي يعتقد الرابطون بينها وبين النزوح أنها مخاوف مشروعة، خاصة بعد أن تبين أن عدداً من منفذي اعتداءات باريس وبروكسل كان في سوريا.
وإذا كانت أوروبا تفضل ألف مرة أن تعيل مليون نازح في لبنان ولا تستقبل ألفاً في أراضيها، فإن لبنان الرسمي بدأ يسكر بمستوى الزائرين والمسؤولين الدوليين الذين يخطبون وده، من دون أن يكون له أي قدرة على إعلاء مصلحته. وهو بهذا المعنى غير قادر على لعب دور تركيا التي تتعامل مع النازحين بوصفهم ورقة ضغط على أوروبا وتتفاوض معها من الند إلى الند. إذ أن لبنان، الذي يعيش فيه أغلب النازحين في غياب أدنى مقومات الحياة، يبتعد عن تقديم تصور فعلي للأزمة، ولا يتعامل معها من منطلق وطني عام، بقدر تعامله مع النازحين بوصفهم رصيداً سياسياً له يسعى لاحتضانه على أمل استغلاله، أو بوصفه رصيدا سياسياً لخصمه يسعى إلى الحد من فاعليته.
بهذا المعنى، لم يطمئن كلام وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند أمس، عن أن «إقامة السوريين في لبنان مؤقتة ومن الممكن عودتهم ما أن يستتب السلام في سوريا»، المتوجسين من التوطين، حيث كان الكلام مبدئياً وغير جازم بحتمية العودة.
وفي المقابل، كرر وزير الخارجية جبران باسيل التأكيد أن «اقامة النازحين الدائمة أو الطويلة تسمى التوطين وهذا ممنوع في دستورنا ونتخوف من أن يتحقق هذا الكابوس»، مؤكداً أن «عودة النازحين يجب أن تسبق وتواكب الحل السياسي في سوريا».
وإذا كان كل من يتابع ملف النازحين يجزم أنه لم يسمع أي ذكر غربي لعبارة «توطين»، التي تحولت الى «فزاعة» محلية، بما تعنيه من تجنيس، فإن السعي إلى انتزاع موافقة لبنان على مبدأ العودة الطوعية، لم يفسّر سوى كونه رغبة أممية – غربية في تثبيت السوريين في بلدان الجوار السوري.
ولما كان وجود النازحين في الأردن، على سبيل المثال، لا يؤثر على حساباته الداخلية، فإن هذا النزوح الذي يخضع لقانون الزواريب اللبنانية، يشكل عملياً قنبلة موقوتة قادرة، إذا ما استمر الشحن الطائفي السياسي المرافق لها، أن تفجر الوضع برمته بوجه اللبنانيين.. وهو ما يعتبره الأوروبيون خطاً أحمر لأن نتيجته ستكون رسو آلاف القوارب على شواطئهم.
وهذا القلق، وإن كان يأخذ طابعاً مسيحياً صرفاً، إلا أن «حزب الله» لا يبدو بعيداً عنه، حيث توقفت «كتلة الوفاء للمقاومة»، أمس، عند الالتباسات التي رافقت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، مؤكدة رفضها كل «محاولة للإستثمار السياسي على ملف النازحين، خصوصا من قبل الدول أو القوى التي ساهمت ولا تزال في تفجير الأزمة السورية».
وإذا كانت كتلة «المستقبل» ما تزال تصر على رؤية ظاهر الأمور، مركزة على أن أحداً لم يطرح مسألة التوطين، متهمة الوزير باسيل، ومن خلفه «حزب الله»، باختلاق مشكلة ليست موجودة، فإنها تؤكد أن اللبنانيين يتشاركون في رفض وإدانة أي كلام في هذا الشأن.
التخبط الرسمي لا يحتاج إلى دليل، وربما صار لزاماً أن تقوم الحكومة بـ «إعلان سياستها بشفافية ووضوح إزاء موضوع النازحين السوريين منعاً لأي التباس»، كما جاء في بيان «كتلة الوفاء للمقاومة».
وإلى ذلك الحين، فإن الدوائر المعنية في وزارة الشؤون الاجتماعية تنكب على حصر أضرار الأزمة سياسياً وإنسانياً. وهو ما يلقى تقديراً في المحافل الدولية، خاصة وأن لبنان وافق طوعياً على الالتزام باتفاقية 1951 الناظمة لحق اللجوء، بالرغم من أنه ليس عضوا فيها، كما أنه وافق على استضافة مفوضية اللاجئين، المعنية عادة بمراقبة تنفيذ الاتفاقية في الدول الأعضاء.
وبالنتيجة فإن اتفاقية اللجوء تنص على 3 حلول مستدامة لأزمات النزوح في العالم هي: الاندماج المحلي (التوطين)، إعادة التوطين في بلد ثالث، والعودة الطوعية إلى البلد الأصلي.
وإذا كان الخيار الأول يقارب المستحيلات في السياسة اللبنانية، فإن لبنان لا يعول على الخيار الثاني. فمن خلال التجربة، تبين أن مشاريع إعادة التوطين في بلد ثالث تبدو هزيلة ولا تحل المشكلة، فبحسب «أوكسفام» مقابل نحو خمسة ملايين نازح في دول الجوار السوري، أقصى الطموح الأممي هو أن تصل نسبة المعاد توطينهم في الدول الغنية إلى 10 في المئة من العدد الإجمالي، فيما الواقع يشير إلى إعادة توطين 1.39 في المئة فقط من مجمل عدد اللاجئين. أضف إلى ذلك أن تلك الدول تعتمد معايير الطائفة والمذهب والعرق والوضع الاجتماعي في خياراتها، بما يعني مزيداً من تفريغ المنطقة من أقلياتها ومن الطبقة المتعلمة.
لم يبق سوى الخيار الثالث. وفي هذا الخيار عانى العاملون على خطة الاستجابة لأزمة النزوح السوري للعام 2016 التي أطلقها الرئيس تمام سلام الكثير لإقناع المجمتع الدولي باعتماد مصطلح «العودة الآمنة» (safe return) بدلاً من «العودة الطوعية» (voluntary return)، المقصود بها «العودة الاختيارية». وهي العبارة التي توقف عندها اللبنانيون ملياً، لخشيتهم من أن تؤدي عند انتهاء الحرب السورية إلى تخيير السوريين بين البقاء والعودة. لذلك، ومنعاً لأي التباس كان الخيار بالتأكيد على العودة الآمنة كحل وحيد لأزمة النزوح، وهو حل تؤكد كل المعطيات المستقاة من النازحين أنهم يفضلونه على الواقع الذي يعيشونه في لبنان.
المصدر: صحيفة "السفير" اللبنانية