وسيم ابراهيم
لم تغمض عيون الأجهزة الأمنية في بروكسل لحظة واحدة منذ هجمات الثلاثاء الأسود. تحولت شوارع وأزقة القلب السياسي للاتحاد الأوروبي إلى متاهة من عمليات المداهمات الأمنية الواسعة. أبواق قوافل سيارات الشرطة لم تتوقف، مصحوبة بعربات القوات الخاصة ووحدات تفكيك المتفجرات.
ألقي القبض على العديد من المشتبه بهم، تم تحديد هوية معظم انتحاريي الهجمات، لكن كل هذا الصخب لم يحجب الفشل الأمني الكبير على مستوى الاتحاد الأوروبي. لم تحجبه أيضاً مظاهر التنسيق الطارئ، مع امتداد الاعتقالات إلى فرنسا وألمانيا. الأمن في بلجيكا ودول أوروبية أخرى يسابق الوقت، بعد تأكيدات عن وجود خلايا تخطط لهجمات أخرى، بعضها في مراحل متقدمة.
القضية لا تخص فقط تكرار الهجمات بعد أربعة أشهر على اعتداءات باريس، بل أن يفجر في بروكسل مشتبه بهم أنفسهم مرتبطون بها عضوياً، معروفون للسلطات وملاحقون أصلاً. فليس هناك من ثقب أسود. تحول الاجتماع الطارئ لوزراء الداخلية والعدل الأوروبيين، أمس الأول، إلى منصة اعتراف بالآثام الأمنية: لو كانت الأجهزة الأوروبية تعمل «على قلب رجل واحد»، لو كان بينها تنسيق متين وقبل ذلك ثقة كافية، لأمكن على الأقل تقليل الخسائر وربما إيقاف الهجمات.
لم تعد تلك الخلاصات مجرد عظات تقدمها المفوضية الأوروبية، أو المؤسسات الأمنية المشتركة والمهمّشة مثل وكالة الشرطة الأوروبية «يوروبول». يمكن الاستماع إلى الاعتراف الذي قام به وزير الداخلية الألماني توماس دو مزييه، لرؤية أصابع اتهام توجّه إلى دول كبيرة. أكد أن بلاده من أكبر من باتوا يضخون المعلومات إلى «يوروبول»، معتبراً أن السبب في عدم وجود تبادل فعال للمعلومات هو «العقليات، فالعديد من السلطات لا تريد تشارك المعلومات لكن فقط استقبالها، وهذا يجب أن يتغير».
الهجمات الإرهابية تتكرر. المسارعة لعقد الاجتماعات الطارئة، تتكرر بالطريقة نفسها. تشخيص العلّة يقدم الأوصاف نفسها للمشكلة. أحد الصحافيين سأل من وقفوا على منصة المؤتمر الصحافي بانفعال: كم ضحية يجب أن نفقد حتى تنفذوا تلك الحلول. لم يستطع ديمتريس أفارمابوليس، المفوض الأوروبي للشؤون الداخلية والهجرة، منع نفسه من إخراج ابتسامة سخرية. تحول قبل أشهر، على أثر اعتداءات باريس، إلى شخصية للتندّر بعدما طالب بوجود وكالة استخبارات أوروبية مشتركة.
الآن يلف المسؤولون الأوروبيون حول حتمية ذلك الحل، حتى لو لم يذكروه حرفياً. وزير الداخلية الهولندي رونالد بلاستيرك قال بجوار تلك الابتسامة معترفاً بالتقصير في التنسيق الاستخباراتي: «على طريقة تبادلنا للمعلومات أن نعمل كما لو أننا وكالة معلومات واحدة».
الوزير الهولندي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. حينما سألته «السفير» عما يمكن فعله لتلافي أخطاء الأمس، قال بعد لحظة صمت «نحتاج العمل أكثر مما نفعل حول تبادل المعلومات، فمن الواضح أن التهديد عالمي، الجناة يسافرون من بلد لآخر ولهذا فالاستجابة يجب أن تكون دولية»، قبل أن يستدرك «نعم لدينا شرطة وطنية وأجهزة استخبارات وطنية، لكن نحتاجهم أن يعملوا معاً، حتى بشكل أفضل مما يفعلون الآن».
المقترحات الجيدة تذهب لتجديد تعهدات سابقة، أطلقت بعد هجمات باريس: تكثيف العمل الأوروبي من داخل «يوروبول»، مع جعله قناة رئيسية تصبّ فيها معلومات الاستخبارات والشرطة المتعلقة بمكافحة الإرهاب و «الجهاديين». حينما وصّف المفوض الأوروبي المشكلة، جعلّ من المنطقي التساؤل: إذا كانت هذه هي النواقص، فأيّ عمل مشترك يمكن رجاؤه في حقل الاستخبارات. قال أفارمابوليس بكلمة لاذعة حول تباطؤ تنفي قرارات سابقة وعدم التشبيك الاستخباري: «كل مرّة نكرر أنفسنا، نعاني من نقص في الإرادة السياسية، نقص في التنسيق، والأهم قلّة الثقة».
هذه المسائل تعامل معها لأشهر، في الخطوط الأمامية، وزير العدل في لوكسمبورغ فيليكس بيراز. كان بين من عقدوا الاجتماع الطارئ عقب هجمات باريس، حينما كانت بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد. لم يتردد في إجابته حينما سألته «السفير» تشخيصه للثغرة الأكبر التي يواجهونها. قال سريعاً «أكبر فجوة أمنية هي قلة المعلومات التي يتم تبادلها بين الدول الأوروبية، وما نحتاج فعله سريعاً هو إصلاح ذلك»، قبل أن يستدرك «لا نحتاج أن نطالب كل مرة بالشيء نفسه حينما يقع حدث مأساوي، الاستجابة حتماً أوروبية لأن ولا دولة يمكنها ضمان أمنها الخاص بمفردها في مواجهة هذا النوع من التهديد».
هناك مشكلة أمنية، يزداد إدراكها، تتعلق بتشتت أنظمة جمع المعلومات والبيانات. خلال حديث مع «السفير»، يعتبر المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف أن الحل هو بإدماج الأجهزة في نظام واحد. يقول عن ذلك: «هناك الكثير من العمل المطلوب حول كيفية تعميم المعلومات من قواعد البيانات (لدى أجهزة مختلفة) وأن تستخدم بطريقة أكثر اندماجا»، قبل أن يقر بأن «ذلك عملية طويلة، فنحن نحتاج لإقناع اللاعبين المختلفين باستخدام الأدوات نفسها وبالطريقة نفسها». يلفت هنا إلى ضرورة العمل من اجل «إعادة تصميم» نظام المعلومات المتعلق بمنطقة «شنغن» للتنقل الحر، فهو خزان معلومات يفترض أن تصب فيه المعطيات من كل دولها حول الوثائق المسروقة والمطلوبين للأجهزة الأمنية والمشتبهين الخطيرين.
لكن الفشل القاتل، حرفياً، كان من نصيب الأجهزة البلجيكية. ربما لم تتعرض أجهزة أمنية لسيل انتقادات، من كل جهة، كما يحصل الآن معها. تلك الضغوط الكبيرة جعلت وزيري الداخلية والعدل يقدمان استقالتهما، لكن رئيس الحكومة رفضها. الدولة كلها تقف على رجل واحدة، أمام فاجعة لم تفق من صدمتها بعد، لذا فالوقت ليس لتصفية حسابات الإخفاق.
أحد عناوين الفشل أن أجهزة الأمن فوتت فرص إلقاء القبض، قبل أشهر، على أحد انتحاريي مطار بروكسل. تركيا رحّلت البلجيكي إبراهيم البكراوي، ووجهت إنذاراً أنها تشتبه بصلات «جهادية». لكن القضية لم تلاحق كما يجب. المشكلة أن لا أعذار تبرر ذلك. بداية قيل إن الأمن لم يجد صلات تثبت ارتباطه بالإرهاب. اتضح لاحقاً أن سفر الرجل للخارج كان كافيا للقبض عليه، لكونه انتهك شروط إطلاق سراحه من سجن بلجيكي قضى فيه محكوميته.
اللافت هنا أن ما يجمع بين هجمات بروكسل وباريس هو طريقة تصرف تركيا. رئيسها رجب طيب أردوغان بادر بعد الهجمات الباريسية إلى إعلان أن أجهزته أخطرت السلطات الفرنسية حول أحد الانتحاريين، ليخرج مسؤول من حكومته ويعلن إسم الانتحاري عمر مصطفائي. نسخة طبق الأصل من ذلك الإخطار جاءت مع هجمات بروكسل، بنفس الآلية، فيما يخص إبراهيم البكراوي، الشقيق الأكبر الذي فجر أخوه خالد نفسه أيضا في محطة ميترو مالبك وسط بروكسل.
الخطأ الأمني الآخر لا يقلّ أهمية. اعترفت الشرطة أن أحد أقسامها أهمل التعامل مع معلومات كان يمكنها أن تقود قبل أشهر للقبض على صلاح عبد السلام. كان المطلوب الأول بعد اعتداءات باريس، شقيقه فجر نفسه هناك. تم اعتقاله قبل أيام من تفجيرات بروكسل، مع وجود شبهات قوية أنه كان بين المخططين لها، نظراً لوجود علاقات أكيدة مع منفذيها.
وسط هذه الإرباكات تتواصل العملية الأمنية لمنع هجمات جديدة. الأميركيون قالوا إن لديهم معطيات تؤكد وجود مخططات لتنفيذ هجمات جديدة، بعضها بلغ مرحلة متقدمة، في عدة دول أوروبية. فرنسا اعتقلت أحد المرتبطين بمهندس هجمات باريس، وعثرت في شقته على كمية معتبرة من الأسلحة والمتفجرات. ألمانيا قامت بمداهمات أيضا، عدة معتقلين يعتقد أن لهم صلات بشبكة هجمات بروكسل وباريس.
عمليات بروكسل أدت لاعتقال عديدين، أطلق سراح بعضهم فيما أكدت مصادر الشرطة أنها أوقعت ببعض المرتبطين بالهجمات. العدد يتغير باستمرار مع تواصل الحملة الأمنية. بات بحكم المؤكد وجود صلات قوية بين هجمات بروكسل وباريس، خصوصاً مع تأكيد بلجيكا أن أحد انتحاريي المطار هو نجيم العشراوي. لم يتجاوز 25 سنة، لكنه على لائحة أخطر المطلوبين مع شهرة معتبرة بكونه خبير المتفجرات المرتبط بهجمات باريس.
مع زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى بروكسل، داعما ومتضامنا، سرّبت واشنطن أنها حددت هوية احد انتحاريي المطار الثلاثة. هناك أسئلة عديدة لم تجد إجابة حاسمة بعد، خصوصاً الرواية الكاملة لتنفيذ الهجمات والخريطة الكاملة لأسماء منفذيها. السؤال الأكبر يبقى ما طرح على المسؤولين الأوروبيين، مقرين أمامه بالتقصير: كم مأساة كهذه يجب أن تحدث حتى تملأ رصيد الثقة اللازمة بين أجهزة مخابراتهم؟
المصدر: صحيفة "السفير" اللبنانية