2024-11-30 09:41 ص

هكذا «تحرّرت» أميركا من مغامرة ضرب سوريا

2016-03-11
لم تعد «عقيدة» باراك أوباما خفيةً على أحد. الرئيس الأميركي لم ينتظر ليغادر البيت الأبيض ليستفيض حولها، فالرجل الذي أمل في إنهاء حربين في عهده ـ أفغانستان والعراق ـ لم يكن ينتظر أن تهب رياح التغيير في العالم العربي، خلال سنوات ولايتَيه، التي أوصلت إلى حمام دم لم يجف بعد.
عندما ألقى أوباما خطاباً في القاهرة في العام 2009، أَسَرَّ للصحافي في مجلة «أتلانتيك» جيفري غولدبرغ، أنه كان يتطلع إلى «المستحيل»، وكان يريد أن يُفهم العالم العربي أن إسرائيل «ليست وحدها سبب أزمته»، وهي الأفكار ذاتها التي أسر بها، خلال العام الماضي، للصحافي في «نيويورك تايمز» توماس فريدمان، ويعيدها مرة جديدة في سلسلة مقابلات أجرتها معه «أتلانتيك»، وبرر فيها سبب عدم شنه ضربة عسكرية ضد سوريا، وندمه على التدخل في ليبيا لإطاحة نظام معمر القذافي، متسائلاً أيضاً عن سر تحالف الولايات المتحدة مع دولة مثل باكستان، ومنتقداً «الراكبين مجاناً»، والذين يريدون أن يحملوا معطف الولايات المتحدة، في الوقت الذي تقوم فيه هي بحل أمورهم.
المقابلات التي تنشرها «أتلانتيك» مع أوباما، جرت في أوقات مختلفة، وهي تستند، في جزء منها، إلى تصريحات لمستشاريه، ولكنها تأتي في توقيت مهم للغاية، قبل أشهر من مغادرة أوباما البيت الأبيض، ولا تسعى إلى «تبييض» صفحة الرئيس الأميركي الذي يكثر من أحاديثه الإعلامية تبريراً للهجوم الذي يشن عليه من الداخل الأميركي والخارج، بقدر ما تلقي الضوء على تفسير سر تراجع أميركا عن الانفراد بالتدخل في العالم. هي سمة ميزت عهد الرئيس الأميركي الحالي، وخلقت حوله الكثير من الأعداء، حتى ممن كانوا يوماً أقرب الحلفاء، وحولت الشرق الأوسط إلى ساحة صراع، تقوده دول عدّة، على رأسها السعودية، التي قررت إدارة أمورها بنفسها في مواجهة إيران بعد «التخلي» الأميركي.
ولعلّ تراجع أوباما عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا في العام 2013، على خلفية الهجوم الكيميائي الشهير في الغوطة، يمثل قمة الجبل الذي انهار في العلاقات العربية ـ الأميركية. ولذلك، فقد كانت منطلقاً للتقرير المطوّل الذي نشرته «أتلانتيك» بعنوان «عقيدة أوباما».
وبصرف النظر عن السياق الذي سردت فيه تلك الأحداث التي حبست أنفاس العالم، في شهر آب من العام 2013، والتي انتهت بتراجع أوباما خطوة إلى الخلف قبل السقوط في الهاوية السورية، فإن التراجع الأميركي، كواليسه، أسبابه، يشرحها غولدبرغ، للمرة الأولى، برؤية البيت الأبيض، مستقاة من أحاديث جمعها من أوباما ومستشاريه على مر أشهر، وسنوات.
يعود غولدبرغ إلى الثلاثين من شهر آب من العام 2013، الذي قد يكون، بحسب وصفه، اليوم الذي «أنهى فيه رئيس ضعيف بطريقة غير طبيعية سيطرة أميركا كقوة عظمى أحادية لا يمكن الاستغناء عنها»، أو ربما، والكلام للصحافي ذاته، اليوم الذي «تمعن فيه باراك أوباما، الحكيم، في الهاوية التي يسقط فيها الشرق الأوسط، وقرر الهرب من المستنقع».
يقرأ أوباما جيداً في نظرية «الفِخاخ». في ذلك اليوم، خرج وزير خارجيته جون كيري ليعلن نية واشنطن توجيه ضربة عسكرية ضد دمشق، بعد اتهامها بهجوم الغوطة الكيميائي. هو قرار، بالنسبة إلى منتقدي التراجع عنه، لو حصل لَغَيَّرَ مجرى الأحداث برمتها اليوم، ولكن حتى كيري نفسه، الذي كان من أبرز المتحمسين له يعترف اليوم بصوابية القرار الذي اتخذه لاحقاً الرئيس الأميركي بعدم التدخل.
ولكن ماذا حصل في 30 آب 2013؟
تعود القصة إلى اليوم الذي دخل فيه أوباما إلى البيت الأبيض، بِرِهان الخروج من مستنقعَي العراق وأفغانستان. حينها «لم يكن يبحث عن تنّين آخر ليقتله». بكلمات بن رودس، نائب مستشاره للأمن القومي، فإن أوباما «لو كان وعد بتحرير أفغانستان من حركة طالبان، وبناء ديموقراطية مكانها، لكانت ستتم مساءلته بعد أعوام حول هذا الوعد».
ولكن خطاب كيري حول التدخل الأميركي في سوريا، في ذلك التاريخ من العام 2013، والذي كتب رودس جزءاً منه، كان محاكاً بوعود جريئة، وكان الإحساس داخل إدارة أوباما بأن الرئيس السوري بشار الأسد قد جنى على نفسه، ويستحق العقاب.

وحده، رئيس موظفي البيت الأبيض، دنيس ماكدونو، حذر من مخاطر التدخل في سوريا.
أما كيري فكان يحارج بعنف من أجل هذا التدخل.
خلال إلقائه كلمته، ذكّر كيري برجال التاريخ الذين حذروا من عدم التدخل، وسمى أوباما من بينهم. كان الخط الأحمر بالنسبة إلى أوباما في سوريا هو السلاح الكيميائي.
في العام 2012، قالها بحزم: أوضحنا جيداً لنظام الأسد، الخط الأحمر بالنسبة إلينا، هو حينما نبدأ برؤية أسلحة كيميائية تتحرك وتستخدم. هنا، سأغير حساباتي. ستتغير معادلتي».
ولكن ما هي المعادلة التي كان يرفعها أوباما في ما يتعلق بالأزمة السورية التي اندلعت في العام 2011؟
يعود غولدبرغ إلى أواخر العام 2011، حين طالب أوباما برحيل الأسد «إنقاذاً لشعبه». ولكنه لم يفعل الكثير لتحقيق ذلك، وقاوم الكثير من الدعوات إلى التدخل، والسبب يعود، في جزء منه، لاعتقاده بأن الأسد سيسقط من دون «مساعدته».
ينقل الكاتب عن دنيس روس، مستشار أوباما السابق لشؤون الشرق الأوسط، قوله إن الرئيس الأميركي ظن أن الأسد سيرحل بالطريقة التي رحل بها الرئيس المصري حسني مبارك.
ولكن بقاء الأسد في السلطة، زاد من تصميم أوباما على عدم التدخل. جل ما فعله، وبعد أشهر من التردد، هو السماح لوكالة الاستخبارات المركزية «سي أي آيه» بدعم المقاتلين السوريين.

نعمة المستشارين!

كان أوباما يشارك نظرة وزير الدفاع الأميركي السابق روبيرت غيتس، الذي غالباً ما كان يتساءل خلال الاجتماعات «ألا يجب علينا الانتهاء من الحربَين اللتين نغرق فيهما قبل البحث عن حرب أخرى؟».
حينها كانت المندوبة الحالية للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سامنتا باور، وهي أكثر المنظرين جهوزية وحماسة للتدخل الأميركي بين مستشاري أوباما الكبار، قد دافعت باكراً عن تسليح مقاتلين سوريين «معارِضين».
في مقابل «عقيدة أوباما»، كانت باور تدافع عن عقيدة أخرى هي «مسؤولية الحماية». ولطالما قاطعها الرئيس الأميركي، حتى أنها سعت جاهدة إلى تضمين تلك العقيدة في «مانيفستو» أوباما الرئاسي، قائلاً لها: «سامنتا، كفى، لقد قرأت كتابك»، وهو بعنوان «أزمة من الجحيم»، حول الرؤساء الأميركيين الذين أخفقوا في إنقاذ العالم من المذابح.

ضربة بلهاء

ولكن لماذا لم يتدخل أوباما في سوريا؟ في بداية الحرب في سوريا، كانت سامنتا باور تشرح أن المقاتلين السوريين ضد بشار الأسد، هم مواطنون عاديون يستحقون تعاطف الولايات المتحدة. آخرون قالوا إن هؤلاء المقاتلين هم فلاحون وأطباء ونجارون، مقارنين إياهم بالمشاركين بالحرب الأميركية لنيل الاستقلال.

هذه الأفكار أدارها أوباما رأساً على عقب. بحسب غولدبرغ، قال له يوماً إنه «عندما يكون لديك جيش نظامي، مجهز عسكرياً بطريقة جيدة، وممول من دولتين كبيرتين، إيران وروسيا، يحارب فلاحاً ونجاراً ومهندساً بدأوا كمتظاهرين ووجدوا أنفسهم وسط حرب أهلية... فإن الاعتقاد بأنه كان بمقدورنا، من دون تدخل على الأرض، أن نغيّر الوضع على الأرض، لم يكن صحيحا على الإطلاق». هكذا بدا الرئيس الأميركي حاسماً حيال هذه المسألة: «لن ينتهي به الأمر كالرئيس السابق جورج بوش الإبن.. لن يقدم على خطوة بلهاء».
هذا التردد أحبط العديد من مستشاري أوباما وفريق عمله. كانت باور واحدة منهم، وكذلك وزير الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، التي قالت لغولدبرغ، في العام 2014، إن «الفشل في المساعدة على بناء قوة مقاتلة موثوق بها من أولئك الناس الذين خرجوا في تظاهرات ضد الأسد، ترك فراغاً كبيراً سرعان ما ملأه الجهاديون». وعندما نشرت «أتلانتيك» كلامها، ثار غضب أوباما. «خطوة بلهاء»، كيف من الممكن أن تكون جدلية إلى هذا الحد؟
شكلت سوريا، بالنسبة إلى أوباما، منحدراً قوياً قد يؤدي إلى الانزلاق تماماً كما حصل في العراق.
في بداية عهده، توصل أوباما إلى استنتاج أن أخطاراً تعد على أصابع اليد الواحدة، هي وحدها يمكن أن تؤدي إلى تدخل أميركي في الشرق الأوسط،: خطر «القاعدة»، خطر على وجود إسرائيل، والخطر من النووي الإيراني.
وأما الخطر من نظام بشار الأسد، فلم يصل أبداً إلى مستوى هذه التحديات.
ولهذا السبب، فإن الخط الأحمر الذي وضعه أوباما في العام 2012 حول سوريا كان بحد ذاته صادماً، حتى لوزير دفاعه في ذلك الوقت ليون بانيتا. أما نائبه، جو بايدن، فقد نصحه بعدم وضع خطوط حمر حول سوريا، مخافة ألا يتمكن من التقيد بها.

كواليس التراجع

كان أوباما قد وصل إلى استنتاج أن الضرر الذي سيلحق بمصداقية بلاده في منطقة ما في العالم، سيكون مثل حجر الدومينو، وسينزف في دول أخرى. ولذلك اتخذ قراراً بالتدخل بعد هجوم الغوطة. بدا الأسد في ذلك الوقت، وكأنه تمكن من معاقبة الرئيس الأميركي، والأخذ به إلى مكان لم يكن يرغب في الذهاب إليه، لأن أوباما كان يعتقد أن منظومة السياسة الخارجية الأميركية، التي يحتقرها في سره، «تؤلّه» كلمة المصداقية، خصوصاً تلك التي يجب الحصول عليها بالقوة. برأيه «المصداقية» تلك، هي التي قادت إلى حرب فيتنام.
في الأسبوع الذي سبق الإعلان عن ضربة أميركية لسوريا، كانت الدول الحليفة لواشنطن، في أوروبا والشرق الأوسط، تعرف أن الولايات المتحدة تهدد بالتدخل، وكانت سعيدة لذلك.
في أيار 2013، قال رئيس الوزراء البريطاني، من البيت الأبيض، إن «تاريخ سوريا يكتب بدم أبنائها، وهذا يحصل أمام أعيننا».
قال أحد مستشاري كاميرون لاحقاً لغولدبرغ إنّ خطاب رئيس الوزراء البريطاني كان يستهدف إثارة حماسة أوباما.
السفير السعودي لدى واشنطن، في ذلك الوقت، عادل الجبير، أسرّ لأصدقائه، ورؤسائه في الرياض، أن «الرئيس الأميركي أصبح أخيراً مستعداً ليضرب. أوباما أدرك كم هو مهم هذا الأمر. سيضرب سوريا بكل تأكيد».
كان أوباما قد طلب من البنتاغون تحديد الأهداف التي سيتم ضربها في سوريا.
الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أكثر المؤيدين للتدخل في أوروبا، كان جاهزاً للضرب أيضاً.
طوال الأسبوع الذي سبق 30 آب، كان البيت الأبيض يسوّق لفكرة أن الأسد ارتكب جرائم حرب. وكان المراد من خطاب كيري أن يوصل هذه الحملة الى نقطة الذروة.
لكن ساعات قليلة كانت ثقيلة جداً في عهد أوباما. هل نتدخل من دون تفويض من الكونغرس؟ الشعب الأميركي لم يكن متحمساً، وكذلك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
في29 آب، رفض البرلمان البريطاني تفويض كاميرون بالتدخل في سوريا.
في هذا الوقت، كان لمدير الأمن القومي الأميركي جيمس كلابر دور أيضاً. دخل إلى مكتب أوباما، ليقول له إن المعلومات حول استخدام دمشق لغاز «السارين»، وبالرغم من أنها «متينة»، إلا أنها ليست «ضربة دانك» (حاسمة).
لم يكن كلابر يريد تكرار تجربة جورج تينيت، وأسلحة الدمار الشامل في العراق.

نظرية الفِخاخ

في الوقت الذي كان يسير فيه الجميع نحو ضربة أميركية لسوريا، كانت بضع ساعات كافية ليشعر أوباما أنه «وقع في فخ»، نصبه له الحلفاء والأعداء.
وبعد ظهر الجمعة، كان أوباما متيقناً أنه، بكل بساطة، لن يأمر بضربة عسكرية على سوريا. استدعى نائب مستشاره، الذي يؤمن مثله بـ «نظرية الفِخاخ»، وتقاسم معه شعوره بالتعب من رؤيته واشنطن تُستدرَج من دون تفكير إلى حروب في العالم الإسلامي.
عندما عاد الرجلان إلى المكتب البيضاوي، أبلغ أوباما مساعديه بأنه سيتراجع عن قراره.
في وقت لاحق، طلب منه غولدبرغ وصف شعوره في ذلك اليوم، فقال له إن جملة أسباب دفعته إلى ذلك، منها تراجع البرلمان البريطاني عن دعم كاميرون، ومنها إيمانه بأن القرار التنفيذي حول الأمن القومي الأميركي لا يجب أن يكون بلا حدود.
كان أوباما يعلم أن قراره سيغضب الكثير من حلفائه. ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، الذي كان غاضباً أصلاً من تخلي أوباما عن مبارك، وصفه بـ «الرئيس الأميركي الذي لا يستحق الثقة». ملك الأردن عبد الله الثاني قال: «أعتقد أني أؤمن بقوة أميركا أكثر مما يؤمن به الرئيس الأميركي». السعوديون أُحْبِطوا أيضاً. لم يثقوا يوماً بأوباما الذي كان يصفهم، حتى قبل مجيئه إلى البيت الأبيض، بـ «أولئك الذين يُسمّون حلفاء أميركا». كتب الجبير لرؤسائه في الرياض حينها: «إيران هي القوة الكبرى الآن في الشرق الأوسط... الولايات المتحدة هي القوة القديمة».
يختزل غولدبرغ ما كان يجول في ذهن أوباما حين حُسم أمر التراجع عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا بالقول: لقد كان هذا بمثابة «يوم التحرير».
عن "السفير" اللبنانية