كتب سركيس ابو زيد
سنوات خمس على "الربيع العربي" غيّرت جذرياً المشهد السياسي العام في المنطقة، وقلبت موازين القوى تماماً لمصلحة "إسرائيل. " الفلسطينيون هم أكثر من تضرر من حقبة ما سميّ بـ "الربيع العربي"، ومن دفع ثمنه وكانوا من ضحاياه. القضية الفلسطينية هبطت في سلم الأولويات الدولية الى أسفل الترتيب، وعملية التسوية في الشرق الأوسط غطّت في سبات عميق. حل "الدولتين" الى انحسار.
وحتى السلطة الفلسطينية في واقعها ومستقبلها يلفها الغموض ويحدق بها الخطر، والاعتقاد السائد على نطاق واسع أن الملف الفلسطيني لن يشهد أي تحرك هادف وأي اختراق نوعي في العام 2016، وهو مؤجل الى العام 2017 وما بعده. الأمر لا يتعلق فقط بانتظار ما ستؤول إليه حروب المنطقة من تسويات، وإنما بانتظار الرئيس الأميركي الجديد الذي سيبدأ من حيث انتهى الرئيس باراك أوباما الذي سيغادر البيت الأبيض من غير أن يحقق الرؤيا التي تبناها لدى توليّه منصبه أي حل دولتين لشعبين.
الفلسطينيون وقضيتهم اليوم أمام خطر من نوع جديد هو الإهمال الدولي والفوضى العارمة التي تسود العالم العربي، والتهميش الإسرائيلي. ولذلك لم يعد أمامهم إلا الانتفاض والعودة الى الشارع. وهذا ما فعلوه عبر انتفاضة فلسطينية كان عنوانها هذه المرة "انتفاضة السكاكين" بعدما كانت في السابق "انتفاضة الحجارة"، التي أعادت القضية الفلسطينية الى الضوء وانتشلتها من غياهب النسيان والإهمال بعدما قذفت بها عواصف "الربيع العربي" الى أسفل سلم الأولويات والقضايا، مع أنها القضية المركزية في الشرق الأوسط.
إلا أن أسبابًا ادت إلى انفجار الانتفاضة الفلسطينية الشعبية، أبرزها:
- انسداد الأفق مع توقف مفاوضات ومبادرات "السلام" وانهيار مشروع "حل الدولتين"، وانصراف المجتمع الدولي عن القضية الفلسطينية لمصلحة أزمات المنطقة.
- الإجراءات الإسرائيلية المتخذة في القدس: سحب بطاقات الهوية الإسرائيلية من "المقدسيين" وتحويلهم لاجئين، وحرمان أهالي القدس من حق البناء في أرضهم وتكثيف الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والتمييز العنصري، والأهم التعدي على المسجد الأقصى من المستوطنين المتطرفين، والدعوات العلنية لإعادة بناء الهيكل في قلب المسجد الأقصى.
- الوضع الاقتصادي الاجتماعي المزري للشباب الفلسطيني الذين يحملون شعلة الانتفاضة ويقودون المواجهات. فهناك نسبة عالية من البطالة وعدم وجود فرص عمل وأجواء يأس وإحباط.
لكن ما يصعب تحديده وتقديره هو الطريقة التي ستتعاطى بها "إسرائيل" مع هذا الوضع الأمني المستجد والخيارات المتاحة أمامها، ولذلك فإن نتنياهو الذي يواجه تهمة التقصير والفشل في ضمان أمن الإسرائيليين، كما في إدارة الصراع مع الفلسطينيين والعلاقة مع السلطة الفلسطينية، يتعرض لضغوط قوية تأتي من اتجاهين:
1- ضغوط تأتي من قادة اليمين المتطرف لشن حرب على غزة حيث مركز الإرھاب والتحريض على العنف والقتل حسب زعمهم .
2- ضغوط تأتي من الولايات المتحدة ودول عربية منھا الأردن ومصر على نتنياھو لاتخاذ إجراءات سريعة واحتواء الوضع المتفجر. وعلى محمود عباس أن ينخرط في جھود التھدئة.
تقرير عسكري إسرائيلي حذر من إمكان تصعيد أمني مع الفلسطينيين، إلا أن ما يكبح ذلك ھو المسألة الاقتصادية التي يعاني منھا الفلسطينيون، وتنسيق الجيش والأجھزة الأمنية الإسرائيلية مع الأجھزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، والذي يعد مدماكاً أساسياً في العلاقات مع الجانبين، ومن شأنه أن يحول دون المواجھة.
أما لجھة قطاع غزة، فيشير التقرير إلى "صراع عنيف" بين الجناح العسكري لحركة حماس، الذي يريد الدعم الاقتصادي الإيراني، والجناح السياسي بقيادة خالد مشعل الذي يريد التقارب مع السعودية و"محور الاعتدال"، وفق تعبيره.
من جهة أخرى، نشر موقع "واللا" الإخباري تصريحات نسبها إلى مسؤولين في تل أبيب هدفها زرع الشقاق والخلاف داخل حماس ،و تفيد بأن "مسؤولا رفيعاً في حماس أرسل رسالة تهدئة إلى إسرائيل، وقال أن التنظيم لا ينوي المبادرة إلى شن ھجوم". بينما يتواجد وفد من حماس في طهران .
فالانتفاضة الثالثة ليست مناسبة في توقيتھا وظروفھا لأي منھما ولا للرئيس أوباما الذي يفقد في نھاية ولايته ما تبقى من تأثير له على الطرفين، ولا للمجتمع الدولي والعربي الذي يخشى موجة جديدة من العنف تتداخل مع التوترات الإقليمية الأوسع في المنطقة بعدما تضاربت جملة عوامل في إشعالھا وانھيار مفاوضات السلام، من الاتفاق النووي الإيراني الى الحروب المستعرة في أكثر من دولة عربية.
التجارب والوقائع تؤكد أن "إسرائيل" تحولت الى ابتزاز الولايات المتحدة والسعي الى قبض ثمن الاتفاق من خلال زيادة المساعدات الأميركية لإسرائيل، فبعد ثلاث جولات مباحثات بين تل أبيب وواشنطن، تواجه المحادثات مصاعب وتوتر بين الطرفين.
فقد دعا مسؤولون أميركيون نتنياھو إلى التوقيع على الاتفاق أثناء ولاية أوباما، محذرين من أن انتظار الرئيس المقبل لن يزيد حجم المساعدات لأسباب تتعلق بمصاعب الميزانية الأميركية. ورغم أن" إسرائيل" كانت تأمل أن تحصل على مساعدات عسكرية أميركية كبيرة، تزيد عن خمسة مليارات دولار سنوياً في العقد المقبل، إلا أن التقديرات تتحدث عن أنھا لن تنال فعلياً أكثر من 1،4 مليار دولار سنوياً.
كما استغلت "اسرائيل" انشغال دول العالم بمحاربة "داعش"، كي تسجل على الأرض المزيد من الوقائع المنتھية التي تجعل من المستحيل قيام كيان فلسطيني مستقل مستقبلا، وذلك من خلال توسيع المستوطنات اليھودية، وتفكيك أوصال الضفة الغربية، وإضعاف السلطة الفلسطينية، والتھويل على الجمھور الإسرائيلي بأن حركة "حماس" في صدد التحضير لجولة عسكرية جديدة، واستغلال الھبة الفلسطينية من أجل ترھيب اليھود من الخطر الجھادي. كل ذلك كي تبرھن لدول العالم أن المشكلة الفلسطينية لا تكمن في جوھر الاحتلال الإسرائيلي، بل في الھزات التي زعزعت الشرق الأوسط . فإلى جانب الفائدة الإسرائيلية التي جنتها من الدمار الكبير الذي لحق بالدول العربية ، يمكن أيضاَ رؤية الخسارة التي لحقت بالفلسطينيين جراء التراجع الكبير الذي تعانيه قضيتھم مما يھدد بضياع تاريخ طويل من الدماء والتضحيات.
هذا الواقع تدركه جبهة المقاومة والممانعة التي تجمع الفصائل الفلسطينية في طهران وتعمل الان على توحيد القوى الحية والمقاومة من اجل تغيير موازين القوى وتصحيح مسار الصراع باتجاه إعادة الاعتبار الى فلسطين كاولوية وبوصلة بعد ان تخلى عنها النظام الرسمي العربي المتهاوي .
المصدر: صحيفة "العهد" الالكترونية