2024-11-24 03:32 م

رحلة هيكل من الكتابة إلى الشاشة.. كما يرويها مصطفى ناصر

2016-02-19
اختار مجلس إدارة «تلفزيون لبنان» برئاسة الزميل فؤاد نعيم، في تسعينيات القرن الماضي، رئيس تحرير «النهار» الأستاذ غسان تويني لتقديم برنامج سياسي وفكري مميز بعنوان «غسان تويني يحاور»، وذلك في سياق ورشة مهنية لإعادة تزخيم وتفعيل هذه الشاشة اللبنانية، في زمن طفرة الفضائيات وتكاثرها.
وبالفعل، قدم غسان تويني ست حلقات حوارية مع شخصيات لبنانية، قبل أن يقرر تطوير برنامجه ليشمل بعض القادة العرب. وقد اختار تويني الملك حسين لإجراء أول حوار مع رئيس دولة عربية، وما أن أنجز الحديث في عمان، وبدأ التلفزيون بالترويج له في بيروت، حتى تبلغ مجلس الإدارة ـ وأنا واحد منه ـ أن القيادة السورية مستاءة من الاختيار والحوار.. وصولاً إلى طلب منع بث تلك المقابلة.
أبلغ فؤاد نعيم الرئيس رفيق الحريري بما حصل، وطلب رأيه قبل اتخاذ أي قرار، فكان جواب رئيس الحكومة الراحل وقتذاك بوجوب الالتزام بما طلبته القيادة السورية، وصولاً الى توقف البرنامج السياسي الأول في «تلفزيون لبنان»، لكنني ومن زاوية الحرص على الاستمرارية، وبعد أن طلب تويني إعفاءه من هذه المهمة، اقترحت أن نختار صحافياً عربياً كبيراً للمهمة نفسها، وما أن حصلت على الضوء الأخضر، حتى بادرت الى الاتصال بالصديق الأستاذ تحسين خياط، وقلت له أنت صديق قديم للأستاذ والصحافي العربي الكبير محمد حسنين هيكل، وتعرفه منذ عقود من الزمن، فهل لك أن تطلب لي موعداً معه في القاهرة؟
وبالفعل، جاءني الموعد بأسرع مما كنت أتوقع. توجهت الى القاهرة، واتصلت بمكتب هيكل، فأجابني سكرتيره الخاص يومها منير عساف بأن «الأستاذ» موجود في مزرعته ببرقاش خارج القاهرة ولن يعود قبل أيام. في اليوم الرابع من الانتظار، وكنت أجري يومياً اتصالات في معرض الإلحاح على الموعد، طلب مني منير عساف الحضور فوراً الى مكتب هيكل وهو يقع (كما المنزل) في مبنى ملاصق لفندق «الشيراتون».
وصلت بسرعة الريح ودخلت فوراً الى مكتب «الأستاذ»، ففاجأني قبل أن أجلس: «فين الكاميرات»؟ أجبته «أية كاميرات»؟ فقال لي: «مش جايي حضرتك تاخود مني مقابلة لتلفزيون لبنان»، كان ردي عليه: «بالعكس.. أنا جئت لأطلب من حضرتك أن تجري حواراً ومقابلات سياسية وفكرية دسمة لتلفزيون لبنان».
بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى أن هناك سوء فهم للمهمة التي أتيت لأجلها. قال لي هيكل مكملاً: «أنتم مين باعتك لعندي. أنا رجال عجوز قاعد في دكانه وأنت جاي تشيلني على الكاميرات والبروجيكتورات والأضواء من دون إذن ولا دستور.. بكل الأحوال خليني أفكر بالموضوع».
انتهى اللقاء سريعاً، وغادرت المكتب آسفاً للالتباس الذي حصل بيني وبين سكرتير هيكل. شعرت أن المهمة فشلت بسبب برودة المقابلة وسرعتها، لكن ما إن وصلت الى الفندق حتى اتصل بي منير عساف مجدداً طالباً مني العودة الى مكتب «الأستاذ». وما إن دخلت عليه، حتى فتح الباب المؤدي الى الشرفة المطلة على نهر النيل، وأشعل سيكاره وبادرني قائلا: «عد إلى بداية الحديث بيني وبينك قبل قليل.. وقل لي ماذا تريد تحديداً»؟
استفضت بالشرح وركزت على فكرة مفادها أن للصحافة اللبنانية دين في رقبة مصر جمال عبد الناصر، وها هو تلفزيون الدولة اللبنانية يعاني من ضائقة كبيرة، خصوصاً بعد الأزمة التي تسببت بها مقابلة غسان تويني مع ملك الأردن، ولذلك، لجأنا اليك لعلك تفي هذا البلد الذي تحبه بعض دين يستحقه، فتبادر الى تقديم برنامج بعنوان «محمد حسنين هيكل يحاور».
لم يسألني عن البدل المادي ولا عن التفاصيل التقنية، بل اكتفى بسؤال وحيد: «مع من تعتقد أنه ينبغي أن نبدأ مثل تلك الحوارات»؟ أجبته: فليكن حسني مبارك. رد هيكل بأنه من الصعب استخراج مواقف من مبارك ويعز عليّ أن أحاوره في هذه المرحلة. فمن تقترح غيره؟
قلت له ما رأيك بحوار مع رئيس لبنان الياس الهراوي؟ أجابني هيكل بسرعة: «أنت تعرف تقي الدين الصلح، وهو كان يزورني سنوياً هنا في مكتبي، وكان يجلس حيث تجلس أنت، وفي نهاية كل زيارة وعندما كنت أودعه وصولاً الى مكتب سكرتيري، كان يحرص دائماً على إعادة تعريفي بصديق كان يرافقه دائماً ويقول لي: «هذا الياس الهراوي نائب زحلة والبقاع». الرجل لم يدخل معه مرة واحدة الى جلساتنا المشتركة وتريدني أن أبدأ هذا البرنامج معه لأن الصدفة (اغتيال رينيه معوض) جعلته رئيساً للبنان.. لا ما يصحش. مين عندك اسم غيرو»؟
قلت له ما رأيك بحوار مع الرئيس حافظ الأسد، فأجاب «فليكن». استدركت وقلت له «وماذا إذا لم يقبل الأسد»؟ رد هيكل طالباً مني أن اقترح عليه اسماً بديلاً، فقلت له ما رأيك بالرئيس الإيراني الشيخ هاشمي رفسنجاني، فأجاب «ما عنديش أي مانع».
أرسلت رسالة رسمية الى وزارة الإعلام السورية طلباً للموعد مع الأسد، وعندما تأخر الجواب، توجهت الى طهران، ورتبت اللقاء مع الرئيس رفسنجاني بمعاونة الزميل محمد صادق الحسيني الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالرئيس وعائلته، وحددنا موعد المقابلة بعد أسبوع، وقمت بإبلاغ هيكل بما حصل معي.
في القاهرة التي وصلتها آتياً من بيروت، رحت أنتظر هيكل في المطار. تأخر، نحو ربع ساعة وحين وصل سألته عن سبب التأخير، فقال لي إن وزير الخارجية المصري عمرو موسى دعاه لتناول الغداء، وعندما اعتذرت منه بسبب التزامه برحلة طهران، لاحظت استغرابه لأصل سفري إلى إيران، وبعد ذلك بوقت قصير، اتصل بي إبراهيم نافع (بصفته رئيس تحرير «الأهرام» آنذاك)، وتمنى عليّ الاتصال بالرئيس مبارك فربما يريد تحميلك شيئاً ما في رحلتك، وعندما تجاهلت الأمر، اتصل بي أسامة الباز، مستشار الرئيس المصري للغاية نفسها، وكان جوابي التجاهل، وإذ بالرئيس مبارك يتصل بي شخصياً، عندها أُسقط من يدي وقررت تلبية الدعوة، ولهذه الأسباب تأخرت عليك.
سألت هيكل وماذا قال لك الرئيس مبارك؟ فأجابني ضاحكاً: «دعك من هذا السؤال. يكفيك القسم الأول».
بعد محطة سريعة (ليلة واحدة) في الإمارات، أكملنا طريقنا في اليوم التالي الى طهران، وهناك استقبلنا الإيرانيون في المطار استقبالاً غير عادي، وعندما دخلنا الى فندق الاستقلال الشهير، أمسك بيدي وقال لي «حضرتك مش حتتركني أبداً. شكلك إنسان مهم أو أنك بتعرف ترتب جيداً هيك زيارات ومواعيد»!
في اليوم التالي ذهبنا الى القصر الجمهوري، وبرفقتنا فريق تقني إيراني (مصورون ومخرج وتقنيو صوت وصورة الخ..)، وطلب هيكل على الفور أن يُسمح له بالاختلاء بالرئيس الإيراني لمدة ربع ساعة، وعندها أدركت أنه يحمل رسالة شفهية من حسني مبارك الى رفسنجاني. في تلك الجلسة، طلب هيكل من مضيفه أن يساعده بإنجاح المقابلة من خلال الآتي: أولاً، أن يبتسم قليلاً، ثانياً، أن يتكلم أحياناً باللغة العربية ولو بمفردات وجمل بسيطة، ثالثاً، أن يعطي لسلمان رشدي صفة جديدة غير تلك المتداولة عنه بأنه «كافر» (زنديق مثلاً).
استغرق الحوار بين هيكل ورفسنجاني حوالي الساعتين، وعندما انتهينا وهممنا بالخروج، قال هيكل للرئيس الإيراني: «أشكرك لأنك التزمت التزاماً رائعاً بالنقاط الثلاث التي تفاهمنا عليها مسبقاً».
ما إن وصلنا الى فندق الاستقلال عصراً، حتى وصل السيد محمد خاتمي، وكان وقتذاك وزيراً سابقاً للثقافة، وطلب لقاء هيكل الذي كان قد بدا الإنهاك عليه من المقابلة بكل مجرياتها على مدى ساعات النهار، وبرغم اعتذار الأخير، أصر خاتمي على اللقاء ولو لربع ساعة، وتجاوب معه هيكل فدار حوار بينهما استمر أكثر من ساعتين، تحدث خلاله الضيف المصري عن علاقته بإيران منذ زمن الشاه وكيف تطورت بعد الثورة الإيرانية ولقائه الإمام الخميني، وصولاً إلى ذلك التاريخ (لبى هيكل لاحقاً دعوة تكريمية للعشاء في القصر الجمهوري). وبالفعل، عندما زرنا جريدة «اطلاعات» وجدنا في أرشيفها صوراً نادرة لهيكل مع الشاه وقادة حكومته.
لم تمض 48 ساعة حتى كان «تلفزيون لبنان» يبث المقابلة بعنوان «هيكل يحاور» وتركت انطباعاً إيجابياً كبيراً. بعد ذلك بفترة وجيزة، زار محمد حسنين هيكل العاصمة السورية، وطلب من الرئيس الأسد إجراء مقابلة تلفزيونية معه ضمن البرنامج نفسه، وبعد سبع ساعات من الحوار بينهما، سأله الأسد: «من تعتقد أنه الصحافي الأنسب لأوجّه عبره رسالة سياسية بشأن المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية وأفق نجاحها أو فشلها»؟
أجابه هيكل «طبعاً أنا»، فرد الأسد «اتفقنا»، لكن البرنامج توقف تلقائياً بعد فترة وجيزة بسبب استقالة مجلس إدارة تلفزيون لبنان.
بعد ذلك، بدأت مرحلة جديدة من الصداقة بيني وبين هيكل استمرت حتى ما قبل وعكته الصحية، وتخللتها محطات كثيرة لعل أبرزها الصداقة التي تطورت بينه وبين الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله.

عن صحيفة "السفير" اللبنانية