2024-11-26 01:37 ص

غاز لبنان مقابل توطين الفلسطينيين

2016-02-07
فراس الشوفي
«ما بدنا سكّر وطحين، بدنا نرجع لفلسطين»... يصدح صوت الآتين من المخيّمات الفلسطينية في بيروت والجنوب والشمال أمام المقرّ الرئيسي لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ــ الأونروا» في بئر حسن. الاعتصام أمام مكاتب المنظمة بات طقساً يومياً لآلاف من فلسطينيي مخيّمات لبنان.

محمّد، الخمسيني ابن حي العجمي في مدينة يافا المحتلة، واللاجئ إلى مخيّم شاتيلا، يهتف بغضب شابٍ في العشرين، فيما عناصر قوى الأمن الداخلي يحولون بينه وبين البوابة الضخمة الزرقاء لمكتب المنظمة الأممية. محمّد الذي يعرض أمام الموجودين صور بيت أهله في يافا عبر موقع «فايسبوك»، وقد احتله يهودي إيطالي، يرى حقّه كلاجئ في العلاج يُسحب منه، لأن الدول التي قرّرت أن تشرعن «دولةً» لليهود على أرض فلسطين لم تعد تريد أن تدفع ما يكفي لكي يبقى الفلسطينيون على صمتهم! إنه الحدّ الأخير لقدرة الفلسطيني اللاجئ في مخيم على التحمّل: المسّ بالطبابة.
لا ينفصل واقع الفلسطينيين في لبنان عن واقعهم في الدول المحيطة. اليرموك، أكبر المخيّمات الفلسطينية في سوريا قرب دمشق، صار أثراً بعد عين، وكذلك الحال بالنسبة إلى مخيم حندرات في حلب، فيما لاذ الفلسطينيون بالهرب بعيداً جدّاً، في البحر والبرّ، من شتات إلى شتات في بلاد الله الباردة. وفي الأردن، يفقدون شيئاً فشيئاً «هوّيتهم» لصالح «الأردنة»، فيما يرتاب الأردنيون من التوازنات الديموغرافية، ومن «المؤامرة» الإسرائيلية التاريخية بتهجير فلسطينيين جدد من «الداخل» إلى الأردن وتثبيت «الوطن البديل».

أمّا في لبنان، فلم يكن يكفي الفلسطينيين تدمير مخيّم نهر البارد وتهجير أهله وموجات الهروب الأخيرة إلى أوروبا والفقر والحرمان والبطالة في المخيّمات، والنظرة الأمنية التي تحملها الدولة اللبنانية والجزء الكبير من القوى السياسية تجاه الفلسطينيين، سوى «تجميع» التكفيريين في المخيّمات كما جُمِّعوا في نهر البارد، وانحلال منظّمة التحرير الفلسطينية وتخليها عن مسؤولياتها، وتخبّط الفصائل الفلسطينية الأخرى، وأخيراً تقليص الأونروا خدماتها الصحيّة للشريحة الأكثر عوزاً.
فلسطينيّو لبنان قلقون على المستقبل، بمعزلٍ عن الأسباب التي تدفع الوكالة إلى هذه الخطوة. الغالبية ترى في التقليص مقدّمة لإنهاء الأونروا كمنظمة دولية شاهدة على جلجلة التهجير الفلسطيني، كما هي المخيمات، تمهيداً لإنهاء حقّ العودة وإسقاط القرار الدولي 194 القاضي بحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. أسئلة كثيرة تدور في عقل كل فلسطيني، مسؤولاً كان أو مواطناً، فتحاوياً أو حمساوياً: هل أتى دورنا؟ هل نضجت ظروف «التسوية» و«الحلّ الشامل»؟ هل يعطوننا «دولة على الورق» ويبعدوننا إلى النرويج والسويد وكندا لننسى بيوتنا وتاريخنا؟ هل يدمّرون المخيّمات بحجّة الإرهاب فنضطر إلى الرحيل أم «يوطّنوننا» هنا؟ هل تُحلّ أزمات سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وتبقى قضية اللاجئين عالقة؟

عجز أم فساد؟

تأسّست الأونروا في كانون الأول 1949 كوكالة مؤقتة تجدد ولايتها كل ثلاث سنوات، حتى إيجاد حل «عادل» للقضية الفلسطينية. وبحسب أكثر من مصدر فلسطيني، فإن تقديمات الوكالة في لبنان بلغت أوجها في ظلّ وجود الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير في بيروت، لتتكامل مع تقديمات المنظمة، من الاستشفاء الكامل إلى تقديم المساعدات العينية والبدل المالي. إلّا أن مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 وصولاً إلى التسعينيات شهدت تقليصاً تدريجياً للتقديمات، في ظلّ ازدياد أعداد اللاجئين وازدياد حاجاتهم وغلاء المعيشة والأزمات الاقتصادية الخانقة.
العام الماضي، وصل الأمر بالأونروا إلى التهديد بتأجيل العام الدراسي بسبب العجز عن تسديد رواتب عدد كبير من المعلمين في مناطق عمل الأونروا في لبنان وغزّة وسوريا ورام الله والأردن. ومع ارتفاع أعداد الطلاب بعد نزوح أكثر من 50 ألف فلسطيني من سوريا إلى لبنان، عمدت الوكالة إلى دمج هؤلاء في مدارسها ليصل عدد الطلاب في بعض الصفوف إلى أكثر من 45 طالباً (الحد الأقصى عالمياً لعدد الطلاب في صفّ واحد هو 30 ــ 31). وبحسب الأرقام التي تنشرها الوكالة على موقعها الرسمي، فإن موازنتها لعام 2014 بلغت 588.5 مليون دولار، فيما وصلت المصاريف الى 635.3 مليون دولار.

وارتفعت النفقات العام الماضي 20 مليون دولار، من دون ارتفاع الموازنة التي تعتبر مساهمة الولايات المتحدة فيها الأكبر، تليها دول الاتحاد الأوروبي بعد إنهاء كندا مساهمتها، بينما تقدّم الدول العربية، كالسعودية والإمارات والكويت، دعماً لمشاريع محددة، وليس في إطار الموازنة العامة.
في منتصف كانون الأول الماضي، أعلنت الأونروا نيّتها تقليص خدماتها الطبيّة مع بداية 2016، معلّلة الأمر بأنها «تستهلك في لبنان 50% من ميزانيتها المخصصة للاستشفاء في أقاليم الأونروا الخمسة» بسبب الارتفاع الاستثنائي لتكاليف الاستشفاء في لبنان. ومع ارتفاع أعداد المستفيدين، تبقى الموازنة في لبنان ثابتة ومحدودة. وحتى الآن توفي أربعة فلسطينيين على أبواب المستشفيات.
وفي حين تؤكّد الوكالة أن الأزمة هي في عدم رفع الدول المانحة لمساهماتها، يتّهم أكثر من طرف فلسطيني الوكالة وممثليها في لبنان بالفساد. ويوضح الناشط الفلسطيني إدوارد كتورة لـ«الأخبار» أن «الفساد يستشري داخل الوكالة، ومن الضروري أن تدقق مالياً وتكشف الأرقام أمام الرأي العام لحسم الاشكالية ما بين الفساد والعجز». ويردّ السبب إلى «المحاصصة التي تقوم بها بعض الفصائل الفلسطينية بالتكافل والتضامن مع مسؤولين في الأونروا لتقاسم التوظيفات والمحسوبية، بدل اعتماد معايير الشفافية». ويكشف أن «هناك توجّهاً على ما يبدو لاستمرار التقليصات، وما حصل بمثابة جسّ نبض للشارع الفلسطيني في لبنان ومدى تقبّله للتغييرات»، مطالباً الأونروا بـ«تعديل خطواتها واعتماد المعايير الدولية لتقديم الخدمات».
التوطين؟

لا تحسم الجهات المعنية أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان في ظل غياب الاحصاءات الدقيقة، إذ تشير أرقام الأمن العام اللبناني إلى وجود 550 ألف فلسطيني مسجّل في لبنان، بينما أشار آخر إحصاء للأونروا إلى وجود 288 ألف فلسطيني، والمسجّلون على لوائح الوكالة حوالى 440 ألفاً.
وقد تبدو أسباب الأونروا لتقليص الخدمات منطقية. لكن من حقّ الفلسطينيين الذين اقتلعوا من أرضهم في الماضي ويقتلعون الآن من مخيّمات الشتات، أن يقتنعوا بنظرية «المؤامرة» التي تحاك ضدّ حقّ العودة، في ظلّ التحولات التي تحصل في الإقليم، والحديث عن التسويات والحلول «الشاملة». وتؤكد مصادر معنية، نقلاً عن مسؤول أميركي بارز في الملفّ الفلسطيني، في وزارة الخارجية الأميركية، قوله إن أمام الفلسطينيين في لبنان أربعة مسارات من ضمن حلّ الدولتين: جزء قليل منهم سيعود إلى داخل فلسطين المحتلة، جزء قليل آخر إلى الضفة الغربية، جزء كبيرٌ تستوعبه الدول الأوروبية وكندا، وجزء أخير يجري توطينه في لبنان! أكثر من ذلك، تؤكد مصادر فلسطينية «أمنية» أن «الغربيين أبلغوا أكثر من جهة لبنانية أن لبنان لن يستطيع استخراج الغاز من دون إنهاء ملفّ اللجوء الفلسطيني وتوطين جزء من الفلسطينيين، ومن بين هذه الشخصيات الرئيس أمين الجميّل ووزراء في التيار الوطني الحر»!

بين الأونروا ومفوضية اللاجئين

كثر الحديث في المرحلة الماضية عن نقاشات داخل الكونغرس الأميركي وسعي لإصدار قرار بوقف تمويل الأونروا وإلغائها، مع نيّة الدول المساهمة تحويل اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ودفع تعويضات لعدد من اللاجئين الفلسطينيين ومن اليهود الذين تركوا الدول العربية واستوطنوا في فلسطين. ويؤكد أكثر من مصدر فلسطيني أن عروضاً يتلقاها لبنان لأخذ بدلات مالية لتحويل دور الأونروا إلى الدولة اللبنانية، على غرار ما يحصل في مؤتمر «دعم سوريا والمنطقة» في لندن، رغم أن المدير العام للوكالة الدولية في لبنان الألماني ماثيوس شمالي ينفي أن «يكون أحد بوارد نقل اللاجئين من الأونروا إلى المفوضية السامية، لأنه ببساطة لا تشابه بين نوعي اللجوء»، فيما يشدد الوزير السابق، رئيس لجنة الحوار اللبناني ــ الفلسطيني، حسن منيمنة على أن «إحالة اللاجئين على الدولة اللبنانية أمر غير وارد، والدولة لن تقبل به تحت أي ظرف. فاللاجئون الفلسطينيون هم مسؤولية المجتمع الدولي، والحل الوحيد هو بعودتهم إلى أرضهم».
وفيما لم توفّق «الأخبار» في الحصول على موقف من السلطة الفلسطينية أو حركة فتح بعد اتصالات عدة بالسفير الفلسطيني أشرف دبور وأمين سرّ حركة فتح في لبنان فتحي أبو العردات، أكّد ممثل حركة الجهاد الإسلامي في لبنان أبو عماد الرفاعي أن «ما يحصل هو مقدّمة لإنهاء الأونروا من قبل الدول المانحة بهدف الضغط على الفلسطينيين وشطب حقّ العودة». وكرّر ممثّل حركة حماس في لبنان علي بركة الموقف نفسه في اتصال مع «الأخبار». وقال مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مروان عبد العال إن «الحديث عن وقف تمويل الاونروا يتكرر كل عام في الكونغرس، ربّما اقترب الوقت الآن لإنهاء الغربيين حقّ العودة خدمةً لإسرائيل»، مضيفاً أن «السكوت عن الأونروا هو تخلٍ عن قضية اللاجئين».
وبدا لافتاً الدور الذي تلعبه حركة حماس في تنظيم التظاهرات في المخيّمات، لا سيّما مخيمات الجنوب. ففيما يشير أكثر من مصدر أهلي إلى أن «التحركات الشعبية بدأت تحصل في المخيمات بطريقة عفوية، إلّا أن حماس سارعت إلى احتوائها وقيادتها كي لا تخرج عن السيطرة، فيما حاولت حركة فتح إنهاءها»، يؤكّد الرفاعي وبركة أن التحركات ستستمر، مع التلويح بالتظاهر جنوباً على مقربة من الحدود مع فلسطين المحتلة.
المصدر: الاخبار اللبنانية