بقلم: امين حطيط
اعتمدت سورية استراتيجية الحرب الشاملة والجبهات المتعدّدة والمحاور المتناغمة، في حربها الدفاعية ضدّ العدوان الكوني منذ أن توفّرت مستلزماتها وأدواتها كلّها. هذا العدوان الذي يستهدفها هي ومحور المقاومة والفكر الاستقلالي السيادي في المنطقة برمّتها. هي استراتيجية سورية أرادت منها إفهام الخصم والعدوان أها بصدد تحرير كامل التراب السوري من الإرهاب والمرتزقة، وبتر كلّ يد أجنبية قريبة كانت أو بعيدة تعبث بالأمن السوري واستقلال المنطقة، وأنها لن تتنازل عن أيّ شبر من تلك الأرض كما أنها لن تفرّط مطلقاً بوحدتها.
ومنذ ذلك الحين، أيّ منذ أربعة أشهر تقريباً، تسير سورية في عملياتها العسكرية الميدانية في خط بياني صاعد مع التقيّد الكلي بالاستراتيجية المذكورة، فحققت إنجازات بالغة الأهمية على الصعيدين التكتي والعملاني والاستراتيجي العام، وأحدثت اختراقات واسعة على مختلف الجبهات، اختراقات أحدثت اهتزازاً كبيراً في بنية العدوان، وحملت المعتدي على مراجعة خفية لمواقفه، قادته إلى التراجع في الجوهر عن بيان جنيف 1 مع تمسك استعراضي بهذا البيان في المظهر، ما فتح الطريق أمام فيينا 1 و2 بعدها ومكّن من العودة إلى مجلس الأمن لاعتماد قرار أممي ترضى سورية على فحواه بنسبة تتجاوز الـ85 ، مع أملها بتطوير الموقف ليكون الرضى على المسار تاماً في المستقبل.
ولهذا لم تسترخ سورية وحلفاؤها بعد القرار 2254 المذكور، بل كانت على يقين بأنها في عالم تصاغ فيه القرارات بسواعد الأقوياء، وعلى ضوء المكتسبات والإنجازات في الميدان، ولهذا كان واضحاً أنّ العمل في الميدان في مواجهة الإرهاب لم يتأثر بصدور ذاك القرار، لا بل أكاد أقول إنّ وتيرته تسارعت وتكثفت مفاعيله إلى الحدّ الذي أفهم الخصم العدو بأنّ سورية كما كانت تقول منذ بداية الأزمة تميّز بين مسار مكافحة الإرهاب ومسار العمل السياسي الذي يسير بالموازاة مع الأول، خاصة أنها كانت على قناعة مطلقة بأنّ ما يدور على أرضها ليس ثورة أو حركة إصلاحية إنما هو عدوان خارجي يتكئ على داخل مغرَّر به أو مرتزق، ويستثمر بالإرهاب ضدّ دولة تنشد الاستقلال وتتمسّك بالسيادة والحقوق الوطنية والقومية، ولذلك كان على سورية أن تدير حربها الدفاعية بشكل حاذق ومرن، يعمل فيه على عزل التأثير الخارجي أو تعطيله أو تحجيم مفاعيله، ويجهز على الإرهاب في الداخل، ويفتح الطريق أمام حوار وطني سوري ــــ سوري لا يكون للخارج فيه صوت مسموع.
وقد تمكّنت سورية، ومن خلال هذه السياسة والرؤية الاستراتيجية البعيدة النظر، أن تحفظ نفسها كدولة ثابتة في المنظومة الدولية تمارس دورها على الصعيد الدولي، وهنا ننوّه بالسلك الدبلوماسي السوري الذي أبلى البلاء الحسن في هذا النطاق، حيث بقي متماسكاً ليؤكد فاعلية الوجود السوري دولياً، وتمكنت سورية بحكمها وجيشها وشعبها أن تصمد أمام عدوان شارك فيه 160 ألف مسلح وفد جزء كبير منهم من 83 دولة بعلم حكوماتها ودعمها أو من غير علمها. كما وجدت سورية قرشها الأبيض المتمثل بمحور المقاومة بشكل خاص جاهزاً للاستعمال في اليوم الأسود من العدوان.
وبعد سنتين من الصمود الأسطوري بدأت الإنجازات الميدانية تتحقق بشكل ملحوظ لكن بوتيرة غير سريعة، وذلك نظراً لحجم قوى العدوان وقدراتها، لكن سورية التي دخلت لأكثر من سنتين أخريين في مرحلة كرّ وفرّ وتقدّم وتراجع، استمرّت صامدة وتعمل على حشد طاقات جديدة وقوى جديدة داخلية وخارجية ترفد قواها الأساسية العاملة في الميدان، وترفض على الخط السياسي التنازل عن أيّ شأن سيادي أو الانصياع لأيّ إملاء استعلائي، وقد نجحت في الصمود على وجهيه العسكري والسياسي، ثم أحدثت خرقاً استراتيجياً هائلاً عندما تمكنت من الحصول على موافقة روسية بتقديم دعم عسكري ناري مباشر لعملياتها العسكرية، دعم مكّنها من اعتماد آمن لاستراتيجية الحرب الشاملة ضدّ الإرهاب التي نوّهنا عنه في مطلع المقال هنا.
لقد حققت سورية خلال الأشهر السابقة إنجازاً ميدانياً ذا بعد استراتيجي هامّ بعزل لبنان ومؤثراته على الميدان السوري، إذ بعد معارك الجنوب الغربي السوري وإقفال المعابر في وجه الإرهابيين المتدفقين من شمال لبنان، أفضت معارك القلمون التي انتهت بمعركة الزبداني إلى إقفال شبه محكم للاتجاه اللبناني، ثم تمّت مراكمة هذا الإنجاز في الجنوب، إذ بعد الفشل المتلاحق لعمليات عاصفة الجنوب الإرهابية التي كانت تديرها غرفة عمليات «موك» من الأردن تراجع الأردن عن لعب الدور المكلّف به ضدّ سورية وباتت حدوده مع سورية شبه مقفلة بوجه الإرهابيين، وبقي أمام سورية جبهة تركيا والحدود مع العراق، وإذا كانت الأخيرة محدودة التأثير نظراً للصحراء وطول المسافة التي تفصلها عن مراكز الثقل النوعي الاستراتيجي للدولة، فإنّ جبهة تركيا استمرّت مشكلة الخطر الأكبر على الوضع السوري.
هنا كان العمل السوري الذكيّ في التعامل مع الأمر والبحث عن سبل إقفال جبهة طولها 860 كلم، وبدأت سورية مع استراتيجية الحرب الشاملة والجبهات المتعدّدة بالتركيز على القسم الغربي من الحدود باعتبار أنّ القسم الشرقي بعيد نوعاً ما، وفيه قوات الحماية الكردية وقوات محدودة من الجيش العربي السوري التي تواجه إرهابيّي «داعش» ومَن معهم. ولهذا فُتحت في الآن ذاته جبهات ثلاثٌ في منطقة الشمال الغربي السوري في أرياف حلب وحماه واللاذقية.
لقد حقق الجيش العربي السوري وعلى الجبهات الثلاث وخلال الشهرين الماضيين اختراقات استراتيجية كبرى ليس أقلها السيطرة على معظم الريف الجنوبي لحلب، ثمّ التوجه شرقاً إلى مطار كويرس، وبعدها فتح جبهة الريف الغربي لحلب، كما نجح في التوسع التطهيري في معظم ريف اللاذقية الشمالي والشمالي الشرقي، وكان العمل الأبرز في الساعات الأخيرة ما تمّ في سلمى واستعادة السيطرة عليها من الإرهابيين الذين انهاروا بشكل دراماتيكي وتساقطوا أمام الجيش السوري كأوراق الخريف على غير هدى. وهنا نركّز على هذا الأمر الذي نرى فيه إنجازاً عسكرياً بالغ الأهمية والدلالات والمفاعيل، من وجوه عدة:
فمن الناحية الميدانية أدّى النجاح السوري إلى الإجهاز على أحد المفتاحين الاستراتيجيين للريف الشمالي للاذقية، فسلمى تعتبر منطقة حاكمة متحكّمة بالمنطقة وبطريق اللاذقية ـــ جسر الشغور، كما أنها تشكل قاعدة تلقّ وتجميع ثم توزيع للمجموعات الإرهابية، كما أنها تهدّد الأمن في المنطقة الساحلية.
أما من الناحية العسكرية فبتحرير سلمى تمّ تأمين الوصل بين ريف حماه الشمالي وريف اللاذقية الشمالي، ما مكّن من التقدّم لإحكام الطوق الجنوبي حول مثلث جسر الشغور ـــ إدلب ـــ سهل الغاب، بما يجعل معركة استعادة هذا المثلث أسهل وأسرع وأكثر ضماناً.
ومن الناحية الاستراتيجية يؤدّي استرداد سلمى إلى بتر إصبع في اليد التركية المفسدة في الداخل السوري، ما سيؤدي إلى إراحة المنطقة وعزل الإرهابيين تمهيداً للإجهاز عليهم، وهنا ستجد تركيا أنها تلقت ركلة قوية على القفا لطردها من الأرض السورية.
والأهمّ من ذلك هو توقيت الإنجاز، الذي حصل في وقت لا تستطيع تركيا فيه التدخل لاستعادة المنطقة بعد أن ولّت الأيام التي كانت تشعر فيها أنّ يدها طليقة في العبث بسورية، فهي اليوم ستجد ناراً محرقة بانتظارها، لذلك فإنها ستبتلع الركلة والصفعة وتنتظر ما سيلي وما سيقود إلى إخراجها كلياً من الميدان السوري. وهنا أهمية القضية التي تتكامل مع إغلاق الجبهة مع لبنان والأردن، وما يتصل مباشرة بتحجيم العامل الخارجي في الميدان السوري.
ومع هذه المتغيّرات المتسارعة سيكون السؤال عن مسار العملية السياسية التي حدّد لها 25 كانون الثاني الحالي موعداً لانطلاقتها، وهنا نذكّر بالقاعدة الذهبية التي تحكم الصراعات والتفاوض، وهي أنّ المفاوض على الطاولة يستحصل على قدر يناسب حجمه وتأثيره في الميدان، فإذا كانت الإنجازات الأولى أطاحت بالتفسير الأميركي لجنيف 1، فإنني أعتقد بأنّ ما تحقق بعد فيينا 1 والقرار 2254 من إنجازات سيطيح أيضاً بأحلام عدوانية متبقية، ما سيطرح السؤال هل القوى الخاسرة ستذهب إلى جنيف في 25 كانون الثاني الحالي مقتنعة بتراجعها؟ أم ستكابر؟ أم ستعمل على التأجيل؟ كلّ ذلك وارد عندهم، أما سورية فهي جاهزة على الاتجاهين العسكري ونجاحاته والسياسي وفرض حقوقها فيه.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية