2024-11-24 11:51 م

«بلاك ووتر» في الإمارات

2014-04-24
في تشرين ثاني/نوفمبر من العام 2010، أي قبل أن يسمع العالم خارج ولاية سيدي بو زيد التونسية باسم محمد البوعزيزي، هبطت في مطار أبو ظبي طائرة خاصة على متنها مواطنين من كولومبيا أتوا تحت غطاء «العمل في قطاع البناء في الإمارات لحساب شركة بلاك ووتر الأميركية». لم يكن في هبوط تلك الطائرة وركابها ما يثير الاستغراب في بلدٍ تستقبل مطاراته في كل يوم آلاف المهاجرين للعمل، لولا خلفية الركاب والشركة التي يعملون لحسابها. فلا علاقة للشركة التي استقدمتهم بمقاولات البناء. إنها إحدى الشركات الهامة في قطاع «الخدمات الأمنية» التي ارتبط اسمها بعددٍ من أبشع التجاوزات الأمنية في العراق وأفغانستان. أما ركاب تلك الطائرة فكانوا قبل مجيئهم إلى الأمارات يعملون في القوات الخاصة في الجيش الكولومبي التي تخوض في بلادها حرب عصابات منذ الثمانينيات.

المفارقة الإماراتية

التزم المسؤولون الإماراتيون الصمت لأشهر عدة قبل الإقرار بوجود جيش مصغر من العسكريين الأجانب تدير كتائبه شركات عدة أجنبية وخاصة. ففي منتصف أيار/مايو 2011 نقلت وكالة الأنباء الإماراتية بياناً رسمياً تبين منه إن «المتعاقدين الأجانب أساسيون لتطوير القدرة العسكرية الإماراتية»، ولدعم جهود «القوات المسلحة الإماراتية في تدريب قوات الأمن العراقية والأفغانية للمساهمة في الاستقرار بالدولتين» (بي بي سي 16/5/2011). ومما يزيد في سوريالية ذلك البيان، إن الأمارات التي تعلن حاجتها للتعاقد مع شركات عسكرية وأمنية خاصة لحماية مؤسساتها ومبانيها، تقوم في الوقت نفسه بإرسال أكثر من 500 عنصر في قوة أمنية/عسكرية لمشاركة القوات السعودية في إنهاء الحراك الشعبي في البحرين.
رغم التكتم الإماراتي، أوضحت تقارير إعلامية (نيويورك تايمز 14/5/2011) ان «عمال البناء» الكولومبيين هم جزء من قوة عسكرية مؤلفة من 800 عنصر يعملون لشركة «بلاك ووتر». وإن الشركة تعاقدت مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد على تقديم خدمات أمنية وعسكرية مقابل 529 مليون دولار. وحسبما ذكر تقرير نيويورك تايمز، ستكون تلك القوات الخاصة الأجنبية «خط دفاع أخير عن الإمارات في حال تعرضها لأخطار جسيمة». تبعت تلك الدفعة القادمة من كولومبيا دفعات قدمت من بلدان أخرى بعد أن توسّع عمل بلاك ووتر في دولة الإمارات، ودخول شركات منافسة لها، خاصة بعد أن اندلعت الانتفاضات العربية ووصلت تباشيرها إلى البحرين، وبدرجات أقل بكثير إلى بقية بلدان الخليج العربي بما فيها دولة الإمارات نفسها.

نقلة نوعية في سيرة الارتزاق في الخليج

يمثل إعلان الإمارات عن تعاقدها مع شركة بلاك ووتر وغيرها من الشركات الأمنية/العسكرية الخاصة نقلة نوعيةً في سيرة الارتزاق في منطقة الخليج. فالارتزاق الأمني ليس جديداً هنا، ولكنه صار مختلفاً نوعياً عما سبقه. فلقد اعتمد شيوخ قبائل المنطقة قبل النفط وبعده على الخارج لاستيراد الأمن والمنعة، عدة وعديداً. وكان الاستيراد يأتي في صورتيْن: الأفراد والاتفاقيات الثنائية مع دول. تشكلت بدايات الصورة الأولى من أفراد «الفداوية» أي حرس شيخ القبيلة الذي يُخضِع بقوتهم بقية قبيلته ويخيف بكثرتهم القبائل الأخرى. قبل مجيء النفط، كان أبناء العبيد والقبائل الهامشية، ومن لا قبيلة لهم، هم المورِّد الذي لا ينضب للفداوية. ولكن هؤلاء الأخيرين كانوا مصدر إزعاج للسلطة البريطانية بسبب دورهم في استمرار المنازعات بين شيوخ القبائل وبسبب انفلاتهم بين الحين والآخر وقيامهم بغارات النهب والسلب على أهالي المدن والقرى.
حينها قرر البريطانيون التخلص من الفداوية بإنشاء جهاز نظامي للشرطة في البحرين في بداية العشرينيات، وبعدها في الشارقة ودبي وقطر، جعلوا عموده الفقري مجندين تم استجلابهم من البنجاب. بعد ذلك شارك البلوش الإيرانيون والباكستانيون في توفير العنصر البشري لبناء التشكيلات العسكرية التي أصبحت جيوشاً في البحرين وقطر والإمارات وعُمان. كان المرتزقة يأتون إلى مشيخات الخليج أفراداً يعرضون للإيجار قدرات جسدية واستعداداً للقتل لحماية من يدفع أجورهم. وكان أولئك المرتزقة يغادرون المنطقة أفرادا أيضاً، وخاصة حين تتحول الأمور إلى مواجهات فعلية مع معارضي النظام الذي يقومون بحمايته. أما الصورة الثانية فهي عبر علاقات ثنائية مع دول أخرى. كانت بريطانيا حتى بداية السبعينيات من القرن العشرين هي من تتولى مهمات التدريب والتنظيم والقيادة. وبقيَ الحال كذلك في ما يتعلق بالبحرين والإمارات وقطر حتى بعد إعلان استقلال هذه المشيخات في العام 1971. تجدر الإشارة إلى أن الاستثناء الوحيد لهاتين الصورتيْن حدث حين استعان سلطان عُمان في أواخر الستينيات من القرن الماضي بشركة بريطانية خاصة («إنترناشونال ووتش غارد») لتدريب الحرس السلطاني. (إلا أن وثائق الأرشيف البريطاني المعلنة لاحقاً كشفت إن تلك الشركة كانت واجهة للحكومة البريطانية).
دخلت دولٌ أخرى على الخط بعد الطفرة النفطية في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وبرز من الدول الإقليمية كلٌ من باكستان والأردن اللتين عقدتا منذ عقود اتفاقيات ثنائية مع مختلف بلدان الخليج العربي لتوريد العناصر البشرية والخبرات اللازمة لتدريب قوى الأمن والقوات المسلحة. وحسبما تسرب في الأشهر الأخيرة، فإن تلك الاتفاقيات قلصت كثيراً دور التجنيد الفردي لمصلحة التجنيد الجماعي وبإدارة الأجهزة المعنية في باكستان والأردن. فلم يعد المرتزق فرداً مغامراً يأتي لفترة يختارها تطول أو تقصر، بل هو جزء من علاقة حميمة سياسيا واقتصاديا بين بلاده والبلد الخليجي الذي يعمل فيه. ولقد تبين عبر وثائق مسربة، ان الأردن أرسل قبل أشهر قوة مكونة من أكثر من 500 عنصر وضابط أمن للخدمة في البحرين. واستنادا إلى تلك الوثائق، ستتمكن الجهة الأردنية من التحكم في نوعية المستفيدين من رواتب الخدمة في الخليج مقابل أن تضمن للبحرين عدم اندساس عناصر غير ملائمة. أما في باكستان، فتجد الحكومة، بسبب حساسية الرأي العام، صعوبة في تطبيق النموذج الأردني. إلا أن الملاحظ هو ازدياد الاعتماد على شركات قريبة لوزارة الدفاع الباكستانية متخصصة في توريد العناصر الأمنية والعسكرية إلى دول الخليج، مما يضمن بشكل خاص عدم اندساس مجندين من خلفيات دينية أو اجتماعية غير مرغوبة.

تسليع الارتزاق وخصخصة الأمن

لقد فرضت النيوليبرالية على دول كثيرة أن تتخلى عن دورها كوكيلة عن المجتمع في مراقبة وضبط أنشطة التبادل في السوق وغيرها من الأنشطة الاقتصادية. ورأينا بلدانا كثيرة تتجه إلى فرض إيكال مهمات حماية أمن المجتمعات إلى السوق، ممثلة بالشركات الأمنية والعسكرية الخاصة. وشهد العالم نمو هذا النوع من الشركات خلال العشرين سنة الماضية. ففي أفغانستان وحدها أشارت تقديرات (2013) إلى إن عدد تلك الشركات تجاوز الخمسين، وإنها تقوم بتشغيل أكثر من مئة ألف عنصر. ثمة أسباب عدة لهذا النمو. فبالنسبة للإدارة الأميركية، أثبتت الشركات الأمنية انها أداة عملية وغير مكلفة سياسيا لفرض السياسة الأميركية في وقت لم يعد التدخل العسكري المباشر ممكناً، لعوامل داخلية تتعلق بحساسيات الرأي العام الأميركي من جهة، ولعوامل خارجية تتعلق بالقواعد التي يفرضها توازن القوى الدولي وانعكاساته في مناطق النزاع وفي مجلس الأمن. ومن جهة أخرى يبدو التوجه لإشراك السوق في مجالات الخدمات الأمنية والعسكرية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية منسجماً تماماً مع الأيديولوجية النيوليبرالية التي تبارك إطلاق حرية السوق وشروطها في مختلف المجالات، حتى ولو نجم عن ذلك تهميش «فئات معينة» وحتى حرمانها من الاستفادة من الخدمات التربوية والصحية والاجتماعية. وقد رأينا أثر هذا التفضيل الأيديولوجي، ليس في تزايد الشركات الأمنية الخاصة فحسب، بل وحتى الشركات الخاصة التي تدير السجون وإصلاحيات الأحداث ومراكز تسفير «المهاجرين غير الشرعيين».

الأمن المستورد لا يحمي

تتداخل الخدمات الأمنية والعسكرية التي تقدمها هذه الشركات. فلم تعد الخدمات «الأمنية» محصورة في تجنيد أفراد مفتولي العضلات يزيدون الموكب الرسمي هيبة ويخيفون من يحاول الاقتراب من الشخصيات أو المؤسسات المحروسة. ولم تعد العضلات المفتولة تكفي لحماية المسؤول سواء من خطر سيارات مفخخة أو من غضب جماهيري. ولم يعد ما هو مطلوب حمايته محصوراً في أشخاص مسؤولين وأفراد عوائلهم، بل صار يشمل حماية الشركات والمجمعات السكنية والتجارية التي يمتلكها أولئك المسؤولون واقاربهم. من جهتها، لا تنحصر الخدمات التي تتولاها الشركات العسكرية في التدريب والأعمال اللوجيستية، بل تقوم أساساً على توفير جيش مصغر يضع خططه العسكرية ويتولى توفير ما هو مطلوب لتنفيذها بما في ذلك القيام بعمليات قتالية.
حين وقع ولي عهد أبو ظبي عقد تكليف شركة بلاك ووتر بمهمات أمنية وعسكرية في بلاده، لم يكن يوقع عقداً لبناء مجمع تجاري أو سكني، بل كان في واقع الأمر يعلن زج الإمارات بقوة في واحدة من أسوأ تداعيات النيوليبرالية، أي خصخصة شؤون الأمن والدفاع، أي بما يسمح لشركة خاصة أميركية أو بريطانية أو عابرة للجنسيات أن تستخدم جنوداً من النيبال أو أيسلندة لضبط الأمن في شوارع أبو ظبي أو دبي. كما فعلت يوما شركة بلاك ووتر في شوارع بغداد وساحاتها. ربما ظن محمد بن زايد انه يتلاءم من متطلبات «التطور» التي فرضت على أبيه أن يتحول من نظام الفداوية إلى نظام حديث بإنشاء أجهزة الشرطة والقوات المسلحة النظامية. ولهذا ربما رأيناه يقوم بذلك التحول بالطريقة نفسها التي اتبعها أبوه، أي باستيراد ما يلزم من معدات وعناصر بشرية وخبرات وتقاليد. والشيخ زايد كان يعرف ان الأمن المستورَد لا يحمي إلا بشروط يقررها مصدر ذلك الأمن... وقد قبل تلك الشروط حين أتى إلى سدة الحكم في 1966 بعد أن أزاح البريطانيون أخاه الشيخ شخبوط الذي كان حاكم المشيخة وقتها.