2024-11-24 11:00 م

أسرار 17 عاما في حياة "عميد الدبلوماسية المصرية"

2013-11-26
القاهرة/فى منزلها الذى تتوسطه صورة كبيرة تجمعه بها وابنته الصغيرة «مريم»، تكلمت أميمة تمام لأول مرة عن زوجها الراحل «عميد الدبلوماسية المصرية» الدكتور أسامة الباز كما لم تتكلم من قبل، وعلى الرغم من أنها فضّلت أن يكون الحوار بعد انقضاء فترة الأربعين يوماً حداداً على وفاته، فإن الحديث كان ذا شجون لرجل كان بمثابة كل شىء لها على مدار 17 عاماً من الحب والعِشرة الطيبة.

وما بين دموع خانت الأعين فى لحظة استرجاع ذكريات خاصة، وابتسامة حانية لمواقف وطنية أصر عليها «الباز» بإباء وشمم الفرسان، تكشف الإعلامية أميمة تمام فى حوار حصرى لصحيفة «الوطن» المصرية عن الكثير من الأسرار فى حياة «الباز»، اللحظات الأخيرة.. صراع الحرس الجديد والحرس القديم داخل القصر الرئاسى، والأسرار الخفية وراء استبعاده من مؤسسة الرئاسة، حيث ظل سنوات طويلة «المستشار السياسى للرئيس حسنى مبارك».

أيضاً يكشف الحوار علاقة «الباز» بالإخوان وبالفريق أول عبدالفتاح السيسى، وأكثر ما أفزعه فى حكم الإخوان وصورة «مرسى» فى عينيه، وحقيقة كتابته لمذكراته الشخصية وعلاقتها بالأمن القومى المصرى.. وما بين الجملة والأخرى تظهر صورة «أسامة» الأب والزوج والصديق قبل أن يكون ذلك المفاوض السياسى البارع على مدار خمسين عاماً من العمل الدبلوماسى، كما خصت أميمة «الوطن» المصرية بصور نادرة وحصرية من مسيرة «الباز» الإنسان والدبلوماسى الكبير تنشر لأول مرة مع الحوار.. إلى نص الحوار النادر.

حوار: منى مدكور

• بطبيعة الحال سيكون السؤال الأول عن وضعه الصحى قبل الوفاة وهل صحيح أنه فقد جزءاً من ذاكرته فى أيامه الأخيرة؟

- الذى لا يعرفه الكثيرون أن أسامة الباز، الله يرحمه، أصيب بجلطة فى المخ قبل وفاته، وهذه الجلطة أثرت لاحقاً على ذاكرته بشكل كبير مع كبر السن، وبعدها مباشرة بدأت صحته تتدهور إلى أن وصلت لالتهاب رئوى حاد قبل وفاته بشهرين، وهذان الشهران هما أكثر فترة صحية حرجة عاشها الراحل متنقلاً ما بين المستشفى والمنزل حتى وافته المنية ولا يمكن إنكار أنه بعد «الجلطة» تأثرت ذاكرته كثيراً.

• فى تلك الفترة الحرجة من كان يزوره، ويهتم بأمره خلاف أسرته الصغيرة؟

- بكل أسف، ظل «الباز» فى غيبوبة لمدة 3 أسابيع تقريباً فى العناية المركزة وكانت الزيارة ممنوعة عنه تماماً، باستثنائى أنا وابنته «مريم» وابنه «باسل» وإخوته، لكن الكثيرين كانوا دائماً على اتصال مباشر بى للاطمئنان على صحته.

• هل حاولت أى من مؤسسات الدولة علاج «الباز» على نفقة الدولة؟

- لا، لم يحدث، ولقد قمت بنفسى، كما قام ابنه «باسل» كذلك بالاتصال بمؤسسة الرئاسة قبل ثورة 25 يناير مباشرة، وقلت لهم إنه «تعبان جداً»، وشرحت لهم حالته الصحية، وطلبت المساعدة وتحدثت عن ضرورة علاجه بالخارج، لكن لم يهتم به أحد، ولم يرد علىّ أى أحد من مؤسسة الرئاسة التى أفنى «الباز» عمره فيها.

• سرت شائعة وفاته قبل وفاته فعلياً، فكيف استقبلت الأسرة هذه الشائعة؟

- كانت من أسخف الأشياء التى عشتها فى حياتى، فحينما يكون شريك العمر والرجل الأوحد فى حياتى بين يدى الله وما زال على قيد الحياة كيف يمكننى تلقى إشاعة كهذه؟ بكل أسف، من أطلق هذه الشائعة ليس لديه أبسط أنواع الإنسانية أو الضمير، إنهم لصوص على حياة الآخرين فى أحرج اللحظات التى ممكن أن يعيشها إنسان.

• هل كان أى من الزعماء والقادة العرب من بين المتصلين للاطمئنان على «الباز» فى أواخر أيامه؟

- نعم، الرئيس الفلسطينى «أبومازن» اتصل بى أكثر من مرة للاطمئنان عليه، وقال لى: «نريد تكريم الباز»، وهناك أيضاً قادة العديد من دول الخليج العربى، وفى مقدمتهم قادة الكويت والسعودية والإمارات، وغيرهم، والحمد لله، «الباز» كان يتمتع برصيد حب كبير عند كل الناس.

• متى كان ذلك تحديداً؟

- قبل ثورة 25 يناير بشهرين تقريباً.

• جرى الحديث مراراً عن أن سر خروج «الباز» من مؤسسة الرئاسة كان وراءه جمال مبارك وما عُرف لدى الرأى العام بـ«الحرس الجديد داخل القصر»، فما كواليس هذه المرحلة من حياة «الباز»؟

- شهادة للتاريخ فقد تم تجميد دوره بالفعل منذ عام 2003 حينما ظهر الحديث بشكل مباشر عن ضرورة ترشح جمال مبارك كرئيس، وكان «الباز» أول من وقف ضد هذا السيناريو بقوة، وبدأوا أيضاً فرض حصار ما على تحركات «الباز» وحضوره لفعاليات سياسية معينة بحكم منصبه، وهذا كان بالتوازى مع حصار «مبارك» نفسه والتضييق عليه.

• ماذا تقصدين بحصار «مبارك» والتضييق عليه؟

- أقصد أن تلك المجموعة، بقيادة جمال مبارك، بدأت فى عدم إيصال أى شخص يريد أن يقول ما لا يريده «جمال» وشِلته، وفُرضت على «مبارك» أخبار معينة وتقارير محددة تتفق مع أهداف هذه المجموعة، بالإضافة إلى قيامهم بشكل مباشر بإدارة الأمور بعيداً عنه تماماً، وهنا يمكن نستنتج أن الصلاحيات لم تكن تُسحب من الدكتور الباز فقط، بل كانت تُسحب من «مبارك» نفسه.

• ألم يشعر «مبارك» بذلك ولو لمرة واحدة؟

- لم أكن موجودة فى كواليس القصر حتى أحكم على هذا الأمر، لكن فى تصورى الشخصى فإنه كان يدرك ذلك تماماً، لكنه كان فى حالة استسلام أو رضا ضمنى عما يحدث.

• ألم يشتكِ «الباز» من هذه التصرفات وقتها؟

- لا، «مش أسامة الباز»، فلقد كان الراحل يمتلك عزة النفس الكافية للترفع، ولكن شعوره بالمسئولية طوال الوقت تجاه البلد كان يجعله يكرر المحاولات إرضاء لضميره الوطنى، «الباز» كان لا يخشى قول كلمة الحق فى وجه أى رئيس، فقد كان يخشى الله فقط، بل إنه كان يقول لـ«مبارك» و«السادات» أيضاً بكل صراحة دون تردد «أنت مخطئ أو غلطان»، إذا ما رأى ذلك فعلاً.

• تظل هناك علامة استفهام قائمة فى كلمة الفصل أو النهاية ما بين «الباز» ومؤسسة الرئاسة، هل تقدم «الباز» باستقالته؟ أم تمّت إقالته؟

- هذا سؤال ذكى جداً، لكن الأمر لم يتم بهذه المباشرة، تم بشكل غير مباشر من خلال سحب الصلاحيات وقطع «البوستة» عنه والمخاطبات مثلاً، ووقف حضوره لفعاليات سياسية مهمة، ففهم «الباز» الإشارة وانسحب بهدوء، وأعتقد أن الأمر حدث بهذه الطريقة لأنه على الرغم من الاختلاف السياسى ما بين نظام «مبارك» و«الباز»، فـ«الباز» يظل رمزاً كبيراً لا يمكن التعامل معه بطريقة الفصل المباشر، وفى ذات الوقت مسئولياته تجاه مصر منعته من قول ذلك صراحة، فالباز «عمره ما قفل الباب فى وش حد» بدليل أن مكتبه ما زال مفتوحاً حتى الآن وتوجد به متعلقاته الشخصية حتى اليوم.

• من المفارقات التى تفرض نفسها عند الكثيرين، كيف فشل شخص بحجم حنكة «الباز» السياسية فى تعليم «مبارك» علم السياسة بعد أن أوكله «السادات» لهذه المهمة وهذا يبدو جلياً فيما آلت إليه الأمور لاحقاً؟

- «الباز» لم يفشل فى تعليم «مبارك»، المسألة تتعلق بالطبيعة الشخصية لـ«مبارك» نفسه، فهل شخصية «السادات» مثل «مبارك» مثل أى شخص آخر؟ بالطبع لا، مثل المُعلم مع تلاميذه فى المدرسة، درجة الاستجابة لما يقوله مختلفة ما بين تلميذ وآخر وهذا يرجع لطبيعة تكوين كل منهم على حدة، فالمعلم واحد، إذن النتائج تعتمد أيضاً على الطرف الآخر، فما أعطاه «مبارك» نتيجة لوجود «الباز» فى حياته كان هذا هو أقصى ما عند «مبارك» بما يتلاءم مع طبيعة شخصيته «هو ده اللى كان ممكن يتاخد منه ومكنش ممكن يطلع منه أكتر من كده»، ومع ذلك يمكن القول إن «مبارك» أبلى بلاءً حسناً فى أول 15 عاماً من توليه الحكم، حيث أقام البنى التحتية وحرر طابا وانتعشت السياسة الخارجية المصرية، لذا يمكن القول بأن طول مدة بقاء «مبارك» فى الحكم لمدة 15 عاماً إضافية هى من كانت المسئولة عن تدهور أدائه السياسى لاحقاً.

• من المعروف أن أساسيات التعليم عند «الباز» كانت القراءة وهذا لم يكن يروق لـ«مبارك» كثيراً.

- صحيح، فـ«الباز» كان يعشق القراءة فى كل مناحى الكتابة وأنواعها، وكان يجيد دوماً إيصال المعلومة مكتوبة، سواء كانت على شكل تقارير أو مستندات أو وثائق، بينما كان «مبارك» لا يهوى القراءة بطبيعته ويفضل المعلومة السماعية، وبمرور الوقت التف حوله من يريدون أن يسمعوه فقط ما يريدونه هم بعيداً عن الحقيقة، خاصة فى السنوات العشر الأخيرة.

• هل عرض عليه أى من قادة الدول العربية العمل كمستشار سياسى عقب خروجه من الرئاسة المصرية؟

- ما كان لأحد أن يفكر فى ذلك، فـ«الباز» معروف عنه تماماً أنه لم يكن موظفاً فى الرئاسة المصرية، لكنه لم يكن يبخل برأيه لهم أبداً، لكن فى إطار وظيفى بالطبع ما كان له أن يوافق.

• من الألغاز التى ما زالت تفرض نفسها على مسيرة «الباز» السياسية، أنه كان عميداً للدبلوماسية المصرية ومايسترو سياستها الخارجية أيضاً، وكان يتولى فى أوقات كثيرة اختيار الوزارة بأكملها، فكيف لم يتقلد ولو لمرة واحدة منصب وزير للخارجية؟

- نفس الأسباب التى بسببها لم يتقلد يوماً ما منصب سفير لمصر فى أى دولة أيضا! فلقد كان يرى، رحمة الله عليه، أن المناصب ممكن تقلل من قدرته على خدمة مصر بحكم البروتوكولات المفروضة على الوزير أو السفير، وأنه ما دام خارج منظومة هذه القيود الدبلوماسية والسياسية فيمكنه العطاء بشكل أفضل وفى خدمة مجتمعه، ففى النهاية كان يدرك «الباز» أن المناصب مهما كانت عُليا فهى لها صلاحيات وحدود معينة وما كان يرضى أبداً أن يكون مجرد موظف، وهذا من أسرار بقائه على الساحة السياسية لفترة طويلة.

• هذا يعنى أنه عرض عليه بالفعل تولى وزارة الخارجية وهو من رفضها؟

- نعم، عرضت عليه مرة فى عهد «السادات» عقب اتفاقية «كامب ديفيد»، ومرة أخرى فى عهد «مبارك»، ولعل الكثيرين لا يعرفون أنه حصل على منصب سفير فى سن الأربعين لكنه لم يسافر خارج مصر.

• من الحكايات المتداولة بقوة أن آخر مسمار فى نعش العلاقة ما بين جمال مبارك وأسامة الباز حينما نادى «الباز» جمال بـ«جيمى» فى واشنطن؟

- لقد كنت موجودة فى هذه الرحلة الدبلوماسية، والموضوع لم يكن كذلك أبداً، ولا أعرف من أين يأتى الناس بهذا الكلام، بالعكس، العلاقة الإنسانية ما بين «جمال» و«الباز» كانت رائعة، لدرجة أن «جمال» كان يقول لـ«الباز» دوماً: أنت الأب الروحى لى أو «Godfather»، وكان بينهما منتهى الاحترام، فالقصة كانت «ألعن» من لقب «جيمى».

• ماذا تقصدين بـ«ألعن من كده»؟

- أقصد حب الناس لأسامة الباز وخبرته واتصالاته وعلاقته الواسعة وخلفيته السياسية الكبيرة، المشكلة الحقيقية أن جمال مبارك اعتبر أن «الباز» نقطة خطر حقيقية فى «ملف التوريث»، بل لدرجة أنه اعتبر «الباز» فى مرحلة ما منافساً حقيقياً له، فلقد كان القصر لا يريد لأى شخص أن يظهر على الساحة خلاف «جمال»، فقد كانوا يريدون أن تخلو الساحة لـ«جمال» تماماً من أى منافس فى حب الناس على الأقل أو يمكن أن يسرق الأضواء منه.

• هل هذا يعنى أنه كانت هناك احتمالات قوية حول تفكير «الباز» فى الترشح للرئاسة لاحقاً؟

- «الباز» لم يفكر فى هذا الأمر تماماً، لكن القصر اعتبر أن وجود «الباز» على الساحة مصدر «تشويش» على جمال مبارك، واعتقد البعض أنه منافس لـ«جمال»، خاصة أن الناس كانت تقابله مثلاً فى الشارع ويقولون له: لماذا لا ترشح نفسك للرئاسة؟ لكن هذه الفكرة لم تطرأ على بال «الباز» بالمرة.

• وطوال تلك السنوات اللاحقة لعام 2003 وصولاً إلى ثورة 25 يناير ماذا كان يفعل «الباز» داخل مؤسسة الرئاسة لإثنائهم عن سيناريو التوريث؟

- دخل فى مواجهات كثيرة وقدم النصح لـ«مبارك» بكل الطرق الممكنة، لكن كان هناك إصرار تام من نظام «مبارك» على المضى قدماً فى هذا السيناريو إلى أن تم تحجيم دوره تماماً وخروجه من مؤسسة الرئاسة 2005.

• يوم محاكمة القرن.. «مبارك وجمال وعلاء» خلف القضبان، ماذا قال «الباز»؟

- شعر بالأسى لما آلت إليه الأمور وما كان يتمنى أبداً أن يكون هذا مشهد النهاية لعائلة «مبارك».

• هل حاولت سوزان مبارك التواصل مع «الباز» يوماً ما؟

- لا، أبداً لم يحدث.

• هل صحيح أن مرتب «الباز» كان 700 جنيه فقط؟

- مبتسمة: صحيح وهذا شىء يدعونى للفخر به حياً وميتاً، وكان لا يدخل «كبار الزوار» ويحب ركوب المترو، وبعد أن «باظت» سيارته الـ«ريجاتا»، لم يركب سيارة أخرى، لكنه ظل على علاقة إنسانية وطيدة بسائقه الخاص حتى آخر يوم.

• هل كان لـ«الباز» اعتراضات على كل من اتفاقيتى «الكويز» و«الغاز»؟

- نعم، دون الخوض فى تفاصيل، لكن يمكن القول بأنه دخل فى مواجهات حادة بسبب اعتراضه على ذلك مع نظام «مبارك».

• من المعروف عن أسامة الباز أنه كان مفاوضاً عنيداً ولا يخسر جولة مفاوضات أبداً.. متى اعترف لك «الباز» بخسارته فى عالم المفاوضات كأحد الأسرار التى لم يعرفها أحد؟

- أعتقد أن كل حياته كانت جولات تفاوضية ناجحة، لكننى أذكر أنه قال لى مرة واحدة إنه خسر بالفعل جولته فى إقناع «مبارك» ومن حوله بأن مشروع التوريث خطر داهم يجب عدم المضى فيه قدماً.

• هل تعتقدين أن أسامة الباز كان ضحية القضية الفلسطينية.. بمعنى أنها أخذت منه أكثر مما أعطته؟

- لا، فإذا ما بحثنا فى الدور المصرى تجاه القضية الفلسطينية وما بُنى فى هذه القضية لاحقاً من إنجازات كان أساسها مفاوضات «الباز»، وهذا جُل التقدير له، فتقدير أسامة الباز لا يقف عند أشخاص أو أنظمة، بل سيحكم فيه التاريخ وما قدمه للقضية الفلسطينية ولمصر.

• هل اعتبر «الباز» أن ثورة 25 يناير حققت أهدافها؟

- كان أهم شعار يؤمن به أن «الشعب والجيش إيد واحدة» فى هذه الثورة وهو ذات الشعار الذى ما زال قائماً فى ثورة 30 يونيو كذلك، لكنه اعتبر أن ثورة 25 يناير من خلال رصده للمرحلة الانتقالية لم تحقق أهدافها.

• لماذا اعتبر أن ثورة 25 يناير لم تحقق أهدافها؟

- كان يرى أن 25 يناير ثورة قامت لكى تعود مصر للشعب، لكن الإخوان سطوا عليها وخطفوا مصر مرة أخرى من الشعب، لكن اليوم مصر عادت لشعبها وفى طريقها إلى تأسيس دولة مدنية حديثة بكل معنى الكلمة.

• لكن الراحل أسامة الباز توقع صعود الإخوان للحكم.

- نعم، توقع صعودهم وتوقع سقوطهم أيضاً لكنه لم يتخيل أن يتم ذلك بهذه السرعة، وتوقع صعودهم كان يرتبط لديه بقناعات من أرض الواقع، تتمثل فى أن تنظيمهم هو الكيان الوحيد المنظم الذى له القدرة التنظيمية على خوض انتخابات وحشد الشارع، ويمكن أن يسيطر على مفاصل الدولة وفقاً لهيكلهم التنظيمى المعروف الذى استطاع الوصول للقرى والنجوع، أما سقوطهم فقد توقعه لأنه اعتبر أن أسلوبهم فى تولى الحكم هو نفس حجر الزاوية الذى أدى لسقوطهم، لدرجة أنه قال لى «إن سقوطهم سيكون أسرع بشكل مهول من تجربة صعودهم، وإن هذا المنحنى الخطير فى تاريخ جماعة الإخوان يجب أن يُدرس فى معاهد وكليات السياسة»، وأردف قائلاً وقتها: «كيف لتنظيم ظل يحاول الصعود لسدة الحكم 80 سنة وبعد أن وصل إليه، يسقط فى عام واحد فقط، هذا يعنى تماماً أن هيكلهم التنظيمى هش جداً لدرجة أنه لم يستطِع الصمود»، وكان يرى أن تركيبة الشعب المصرى الخاصة كانت أهم أسباب سقوط الإخوان إلى الهاوية أيضاً وهى النقطة الأساسية التى لم يرَها الإخوان فى تعاملهم مع المصريين.

• ما بعد قيام ثورة 25 يناير، كيف كان يرى «الباز» المرحلة الانتقالية التى قادت مصر لاحقاً حتى مجىء «مرسى» رئيساً؟

- كان يقول إن مصر لن تستقر قبل مرور 4 سنوات على الأقل، وإن مخاضاً عسيراً سيمر به البلد قبل أن يستقر، وهذا ما يحدث الآن، فنحن على مشارف الأربع سنوات بالفعل للوصول للرئيس الأحق بحكم مصر.

• هل ندم «الباز» على تأييده لثورة 25 يناير بعد وصول الإخوان إلى سُدة الحكم؟

لا، لم يحدث، فهو كان يدرك تماماً أن ثورة 25 يناير كانت قادمة لا محالة بغض النظر عن موعدها، وكانت لديه قراءة مبكرة للأحداث منذ كان مستشاراً سياسياً لـ«مبارك».

• هل حدث أن طلب منه «المجلس العسكرى» النصيحة فى أى ملف خارجى أو داخلى ما بعد ثورة 25 يناير؟

- لا أعتقد.

• من كان مُرشح «الباز» فى انتخابات الرئاسة الماضية؟

- لعلّى أذيع سراً، فـ«الباز» لم يقُم بالإدلاء بصوته فى انتخابات الرئاسة، وهذا أمر قد يستغربه الكثيرون، فعلى الرغم من أنه ذهب إلى صندوق الانتخابات ووقف فى الطابور فى لجنته الانتخابية، فإنه على آخر لحظة قرر ألا يدلى بصوته.

• ما السبب؟

- كان له تفكير خاص له علاقة بخوفه من أن يعطى صوته لأحد ممكن أن يفشل، خاصة أننا كنا فى مرحلة انتقالية متوترة، ولقد حسم ذلك القرار بضميره السياسى.

• ما أكثر شىء كان مُفزعاً لـ«الباز» فى فترة حكم الإخوان؟

- الانقسامات الطائفية على أساس دينى، سقوط الشهداء والدماء البريئة، مذلة تمثيل مصر فى الخارج من خلال الزيارات الرئاسية لـ«مرسى»، فقد كان يعتبرها بالفعل «مذلة» لمصر وكانت من أكثر الأشياء المؤلمة له، وهو الرجل الذى أمضى حياته فى الدبلوماسية المصرية، وكيف لا وقد عاش أبهى عصور مهابة مصر فى المحافل الدولية طوال فترة عمله! لقد كان يعتبر أن هذه النتائج هى إخفاق حقيقى لثورة يناير وأنه بدلاً من إنقاذ مصر من التوريث دخلنا فى نفق مظلم آخر خطر وأشد وطأة من التوريث، وكان دائماً ما يقول لى: «هل كُتب على مصر أن تظل مُختطفة؟»، فلقد كان يعتبر أن فترة حكم الإخوان «اختطاف لمصر من شعبها».

• هل حدث أن حاول أى من قيادات الإخوان التواصل مع «الباز» عقب وصولهم لسدة الحكم من أجل ملف معين؟

- «الباز» كان يتصل به الإخوان من أيام «مبارك»، على فكرة، وهذا حدث أيضاً بعد وصولهم للحكم، لكنه اعتذر لهم قائلاً إنه «اعتزل العمل السياسى»، فـ«الباز» لم يكن لديه أى عداء مباشر تجاه الإخوان، وكان يرى أن التجربة كفيلة بإظهار الحقيقة، لكن بعد مرور عام على حكمهم الفاشل أقر بفشلهم وأنهم لن يستمروا طويلاً.

• ما الذى طلبه منه الإخوان تحديداً؟

- لم أكن حاضرة تلك المكالمات، فلقد كان مجرد «كلام» وليس لقاءات، لكن «الباز» كان مؤمناً أن الإخوان لا يستمعون لنصيحة أى أحد خارج مكتب الإرشاد وتعليمات «المرشد» وتنظيمهم الدولى.

• هل عُرضت عليه أى مناصب سياسية فى المرحلة الانتقالية الأولى أو فى فترة حكم الإخوان؟

- لا أعتقد ذلك، فـ«الباز» أعلنها صراحة عقب خروجه من مؤسسة الرئاسة أنه اعتزل العمل السياسى، والجميع احترم هذه الرغبة لديه.

• كيف استقبل الراحل ثورة 30 يونيو؟

- كان متوقعها تماماً مثلما كان يتوقع أن تحدث ثورة مصرية عظيمة منذ عام 2003، أى قبل «25 يناير» بتسع سنوات كاملة، فقد كان مؤمناً أنه لن يحدث توريث فى مصر، وحينما حدثت ثورة 30 يونيو يمكن القول إنها «أنزلت على قلبه السكينة»، فلقد كان يشعر بغصة كبيرة، ويقول إن مصر «اتخطفت».

• لماذا تنبأ الراحل بأن ثورة 25 يناير ستحدث فى ذلك الوقت المبكر جداً؟

- لأنه كان يدرك تماماً كيف كانت تدار الأمور فى مؤسسة الرئاسة فى نظام «مبارك»، وقالها لى صراحة: إذا تم الإصرار على سيناريو التوريث سيكون ذلك على جثة الجيش، وقالها باللغة الإنجليزية كالتالى «On his Dead Body»، وحينما سألته له: ما الذى يمكن أن يفعله الجيش لوقف عملية التوريث؟، قال لى: «ربنا يستر»، فقد كان مشغول البال كثيراً بمدى ما سيحدث، وهل كان سيكون هناك نائب مثلاً، وما هو رد فعل «مبارك» إذا ما حدث ذلك، لكنه كان مُصراً على أن «سيناريو ما» سيحدث «بشكل ما» لعرقلة عملية التوريث.

• هل عمل «الباز» مع الفريق أول عبدالفتاح السيسى يوماً ما؟ وماذا كان رأيه الشخصى فى شخص «السيسى»؟

- نعم، «الباز» عمل لفترة طويلة مع الفريق «السيسى»، وحينما انحاز الجيش للشعب فى ثورة 30 يونيو، اعتبر «الباز» السيسى مثل محارب الساموراى الذى أقدم على عملية انتحارية لصالح مصر ولأجل إنقاذ شعبها من المهالك التى تلوح فى الأفق، غير عابئ بكل المخاطر التى قد تحيط به، وكان يراهن على أن «السيسى» قادر تماماً على إعادة مصر إلى دورها الإقليمى والعربى بقوة من خلال دستور حقيقى يليق بها، والمضى قدماً فى خارطة الطريق نحو حكم مدنى يليق بمصر وشعبها، وكان يدلل دوماً على ذلك بقوله إنه على الرغم من وجود مناخ عام محتقن فى مصر وإن هناك شكوكاً كثيرة تجاه إقامة الدولة المدنية فإن أحداً لم يجرؤ على التشكيك فى وطنية «السيسى» وحنكته السياسية وقدرته على الانتقال بمصر فى هذه المرحلة إلى بر الأمان، وأنه أدار الأمر بهدوء شديد وعقلانية جنبت مصر بحوراً من الدم كان الكثيرون يتوقعونها، خاصة النخبة الناعمة.

• ما أسرار علاقة «الباز» بالفريق «السيسى»؟

- كان يُكنّ له كل التقدير والإعجاب على المستوى الشخصى والمهنى، والتقى به كثيراً، من قبل حتى أن يتولى الفريق السيسى رئاسة المخابرات الحربية، فلقد كانت بينهم لقاءات مشتركة كثيرة بحكم عمل كل منهم، وكان دوماً يقول عنه إنه شخص «واعد».

• هل توقع الباز أن «مرسى» خانه ذكاؤه حينما قام بتعيين «السيسى» وزيراً لـ«الدفاع» فى ظل خضم تفاعل سياسى مُضطرب ما بين الإخوان والشارع، خاصة أنه معروف تماماً أنه فى حال حدوث تهديد حقيقى لأمن الشعب فإن ولاء المؤسسة العسكرية سيكون للشعب فقط؟

- هو توقع سقوط الإخوان بطريقة ما، لكنه لم يربط ما بين تعيين «السيسى» وهذا السقوط، لكنه كان مؤمناً تماماً بأن صمام أمان مصر فى المؤسسة العسكرية وأنها من ستقوم بإصلاح الدفة فى الوقت المناسب لإنقاذ مصر، وكان مُتيقناً من أن الجيش سيتدخل فى اللحظة الحاسمة لأن عقيدته الوطنية تحتم عليه ذلك، فالجيش المصرى بالنسبة لـ«الباز» كان شيئاً مقدساً جداً.

• هل كان لـ«الباز» توصيف محدد لكل من «السادات - مبارك - مرسى - السيسى» بحكم خبرته السياسية العميقة؟

- (بعينين دامعتين): أعتقد أن «الباز» هو أحق من يجيب عن هذا السؤال الآن، لكن بحكم عِشرتى الطويلة به كانت له توصيفات محددة لكل منهم كما يلى: «السادات.. داهية سياسية»، «مبارك .. عنيد»، «السيسى.. رجل الثقة من الطراز الأول»، و«مرسى.. ما كان يجب أن يكون رئيساً لمصر فى يوم من الأيام أبداً».

• هناك تسريبات كثيرة تتحدث عن كتابة الراحل أسامة الباز لمذكراته الشخصية التى يسرد فيها رحلته فى عالم الدبلوماسية المصرية فأين هذه المذكرات؟

- بكل صراحة، وأعلنها لأول مرة، «الباز» شرع فعلياً فى كتابة مذكراته، وتحديداً عام 2005 بعد خروجه من مؤسسة الرئاسة، لكنه عدل عن الفكرة تماماً حينما اكتشف أن كتابته ستتشابك بشكل واضح وصريح مع معطيات تتعلق بالأمن القومى المصرى، لهذا فقد قرر ألا يخوض فى هذا الأمر تماماً، معتبراً هذا القرار حماية لمصر أولاً وأخيراً.

• هل هناك أى مسودات للكتابة المبدئية لهذه المذكرات؟

- بعد أن ألغى «الباز» الفكرة، قرر أن يكتب ما سماه «خبرات» العمل الدبلوماسى والسياسى المصرى، لتكون شهادة للأجيال القادمة، خاصة الدبلوماسيين الشبان، لكن القدر لم يمهله لكتابة هذه الخبرات أيضاً.

• بكل صراحة، هل قرار العدول عن كتابة مذكراته الشخصية كان قراراً شخصياً أم نصيحة مباشرة من الجهات السيادية؟

- لا، لم يحدث، بل كانت قناعته الشخصية تماماً كدافع وطنى، فهو حريص على مصر لآخر لحظة، و«أسامة» قالها صراحة لى: «لن أترك أى مستندات أو وثائق أو أوراق فى يد أى شخص حتى لا يتم العبث بها، لهذا أى شخص سيدعى أنه يملك أى ورقة ينسبها لأسامة الباز فهو كاذب تماماً وسأقاضيه قانونياً».

• هل هذا يعنى أنه تخلص من كل المستندات والوثائق التى كان يملكها بعد هذا القرار؟

- لم يكن يملك بالفعل أى مستندات أو وثائق تماماً، فلقد كان يتخلص منها أولاً بأول، وإذا ما بحثتم فى منزلى أو فى مكتبه الذى ما زال قائماً حتى اليوم وبه بعض متعلقاته الشخصية لن تجدوا ورقة أو وثيقة واحدة، وكل من يدّعى أنه يملك ورقة تخص أسامة الباز أقول له: أنت كاذب، وسأتهمه صراحة بالتزوير.

• لكن أليس مجحفاً للتاريخ أن يترك رجل بحجم أسامة الباز الحياة دون أن يكون له كتاب يسرد مسيرته العملاقة؟

- أذيع سراً لأول مرة وهو أننى بصدد تأليف كتاب يحمل كافة ذكرياتى مع أسامة الباز الإنسانية والسياسية، وأكشف فيه عن الكثير من الأسرار التى امتدت لفترة 17 عاماً من خلال زواجى به، فأنا فخورة بأننى كنت زوجة لأسامة الباز.

• ما التوقيت المُتوقع لصدور هذا الكتاب؟

- الصيف القادم، إن شاء الله.

• هل تعرضت «أميمة تمام» للاضطهاد بسبب زواجها من «الباز»؟

- (بعد فترة صمت) نعم، حدث ذلك بالفعل فى التليفزيون المصرى، فلقد كان ينسب أى نجاح أحققه أو تميز فى العمل إلى كونى زوجة «الباز»، وليس لاجتهاد شخصى أو مثابرة وتعب، ووصل الأمر إلى أن ترقيات المناصب الروتينية التى تحدث بالأقدمية منذ تاريخ التعيين لم أحصل عليها لمجرد أننى زوجته، والمفارقة الحقيقية أننى بدأت أحصل على حقى المهنى بعد أن ابتعد عن الأضواء وترك مؤسسة الرئاسة.

• لكن على الأقل فى فترة عمله كمستشار لـ«مبارك»، كان من المتوقع أن تحصلى على امتيازات خاصة من باب التملق مثلاً؟

- لا، لم يحدث، بل على العكس تماماً كان يتم تعمد إقصائى لأننى زوجة أحد مستشارى الرئيس الأسبق «مبارك»، وعلى أفضل الفرضيات كان يتم التعامل معى بتحفظ شديد.

• لماذا لم تطلبى وقتها من «الباز» أن يتدخل لرفع الظلم عنك؟

- لم أطلب، وهو كان يدرك ذلك تماماً وكان يحترم إرادتى، فأنا فضلت أن أكون زوجة لــ«الباز» فى المنزل فقط ولم أرِد له أن يرفع يوماً سماعة التليفون على أحد ما فى التليفزيون لكى يقول ارفعوا الظلم عن زوجتى، كنت أراه أباً وأخاً وصديقاً وزوجاً وداعماً لى، لكن يجب أن أخوض معركتى وحدى للنهاية احتراماً له ولى قبل كل شىء.

• كثر الحديث مؤخراً عن رواية تتعلق بزواج الفنانة نبيلة عبيد من الراحل أسامة الباز لمدة 9 سنوات وأنك كنت طرفاً مباشراً فى إنهاء هذه الزيجة عن طريق مؤسسة الرئاسة.

- جملة من كلمتين: لا تعليق.

• هل تعتقدين أن «الباز» لم يلقَ التكريم المناسب لشخص وُصف بأنه عميد الدبلوماسية المصرية لعهدين متعاقبين، سواء كان ذلك فى حياته أو مماته؟

- لا، على العكس تماماً، فتكريم «الباز» الحقيقى لم يعتمد على كلمة حق تقولها عنه مؤسسة الرئاسة فى عهد «مبارك»، أو نوط امتياز أو قلادة تمنحها الدولة له، لقد كُرم «الباز» حياً وميتاً بحب الناس له، بسمعته الطيبة التى يتداولها الناس البسطاء قبل النخبة اليوم، بالتفاف الكثيرين ممن لا أعرفهم قبل من أعرفهم حولى وحول ابنته «مريم» للشد من أزرى ومواساتى، فالتكريم الحقيقى يأتى من أناس لم تربطهم به مصالح أو مناصب أياً كانت، وأنا أشكر كل من اهتم به سواء فى الفترة الأخيرة من حياته وبعد وفاته كذلك، ولو بمجرد سؤال إنسانى نابع من القلب، فـ«الباز» اعتمد على ضميره فقط فى كل ما فعل لأجل مصر، وهذا وصل تماماً إلى قلوب وعقول المصريين، لهذا بادلوه التقدير والاحترام تكريماً لوطنية هذا الرجل.

• هل ندم «الباز» يوماً ما على اختيار ما أو قرار معين فى حياته؟

- لا أعتقد ذلك، يمكن القول إن معظم قراراته كانت واقعية ووطنية ويحكمها فيها ضميره فقط، ويجب ألا أنكر أيضاً فضل الله عز وجل عليه فى توفيقه كذلك فى كل خياراته وقراراته، خاصة المصيرى منها، وعلى الرغم من أنه عانى فى نهاية حياته، لكن هذه هى الحياة.

• ماذا عن أسامة الباز زوجاً وأباً وجداً؟

- (بعد فترة صمت وبعينين دامعتين): كان أباً رائعاً وزوجاً حنوناً ويعامل زوجته بكل احترام ومودة وإخلاص وتفانٍ، أما الجد فهو طفل صغير يلاعب أحفاده بمنتهى العفوية والبراءة، لقد كان «الباز» كتلة من الحنان المتحرك على الأرض، لله الأمر من قبل ومن بعد، فى أوقات كثيرة لا أتخيل أنه لم يعُد موجوداً بيننا أنا وابنتنا مريم «12 سنة»، لدرجة أن «مريم» فى أوقات كثيرة تسألنى: «يا مامى هو أنا مش هشوف بابى تانى ومش هلعب معاه ولا هيحكى لى حواديت حلوة تانى!».

• ما آخر كتاب قرأه الراحل أسامة الباز؟

- الوقت والزمن «Being And Time» لـ«مارتن هيدجر».
عن صحيفة "الوطن" المصرية