2024-11-26 01:39 م

خريطة النفط المتغيّرة

2013-11-14
السر سيد أحمد*
في السادس عشر من شهر تشرين الاول/ أكتوبر الماضي، مرت ذكرى قيام السعودية ودول عربية أخرى بإنفاذ قرارها غير المسبوق بحظر صادرات النفط عن الولايات المتحدة وهولندا وخفض الإنتاج بين 5 - 10 في المئة بسبب دعمهما لإسرائيل، الأمر الذي أدى الى مضاعفة سعر برميل النفط، وبروز منظمة أوبك على الساحة الدولية مطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد. واليوم، وبعد 40 عاما على تلك الخطوة، تبدو سوق النفط العالمية على موعد مع خطوات معاكسة ستكون لها تبعاتها الجيوـ إستراتيجية.
وقتها، تمثل رد فعل الولايات المتحدة على تلك الخطوة في قيام الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون برفع شعار تحقيق استقلال أميركا النفطي وتقليص اعتمادها على النفط الأجنبي المستورد الذي كان يشكل وقتها 36 في المئة من احتياجاتها، وأراد أن يتحقق ذلك في غضون سبع سنوات فقط. لكن، ورغم تتالي ست إدارات ما بين جمهورية وديموقراطية، فإن نسبة اعتماد واشنطن على النفط الأجنبي بلغت ذروتها أبان رئاسة جورج بوش الابن، ووصلت إلى 65 في المئة من احتياجات الولايات المتحدة. إلا أن قوى السوق وبعض السياسات أدتا الى تطوير تقنية جديدة أسهمت خلال السنوات الخمس الماضية في نمو الإنتاج المحلي، بما يعرف بـ«النفط الصخري» الذي نجح في اضافة 2.5 مليون برميل يوميا إلى الإنتاج الأميركي.
أهمية هذا التطور لا تتلخص فقط في تراجع اعتماد الولايات المتحدة على النفط الأجنبي، خاصة من منطقة الخليج العربي، بكل ما يمكن أن يعنيه هذا من تبعات سياسية واقتصادية، وإنما في أن النمو في الانتاج المحلي الاميركي جاء نتاج تقنية جديدة تعرف بالتكسير الهيدرولوجي، نجحت في الوصول الى موارد جديدة من النفط والغاز كانت محبوسة في الصخور. ويمثل مدى امكانية استمرار هذه التقنية في تعزيز الإمدادات وانتشارها الى خارج الولايات المتحدة تحديا لا سابق له أمام الدول المنتجة للنفط والغاز بالطرق التقليدية.

الصين على الطريق

على ان الشهر الماضي شهد تطورا آخر ملحوظا، اذ خرجت إدارة معلومات الطاقة الأميركية، وهي الذراع الإحصائية لوزارة الطاقة في واشنطن بتقرير تقول فيه انه حسب أرقام شهر أيلول/سبتمبر الفائت، فإن واردات الولايات المتحدة من النفط الأجنبي بلغت 6.24 ملايين برميل يوميا، بينما كانت حصة الصين 6.3 ملايين. وتعتقد الوكالة أن هذا الاتجاه سيستمر طوال العام المقبل، الأمر الذي يهيئ الصين لاحتلال مرتبة الدولة الأكبر المستوردة للنفط في العالم.
لكن الصين لم تقبل بالأرقام الأميركية التي تضعها في مرتبة أكبر مستورد للنفط في العالم، إذ استشهدت بباحثين جامعيين في ميدان الطاقة وبأرقام من مصلحة الجمارك الصينية لتشير إلى أن واردات بكين من النفط الخام في شهر أيلول/ سبتمبر ذاك بلغت 25.6 مليونا. وفي الأشهر التسعة الأولى من هذا العام، استوردت الصين 210 ملايين طن، وذلك مقابل 304 ملايين طن واردات الولايات المتحدة من النفط الأجنبي خلال الفترة نفسها. وتضيف الوكالة انه مع وجود فارق يقارب 100 مليون طن، فليس من المتوقع أن تحل الصين محل الولايات المتحدة كأكبر مستورد للنفط الخام هذا العام.
أما زيادة حجم الواردات النفطية في شهر أيلول/سبتمبر فأرجعته الصين الى تحسن الوضع الاقتصادي والنمو في سوق السيارات، وفي مجال التحضر، والانتشار المديني بصورة عامة. فالاقتصاد الصيني شهد في الربع الثاني من هذا العام نموا بلغ 7.5 في المئة مقابل 2.5 في المائة لوصيفه الأميركي، كما سجلت مبيعات السيارات خلال أيلول/سبتمبر معدلا بلغ 16 مليون وحدة، بزيادة 12.7 في المئة عن المبيعات التي سجلها
قطاع السيارات قبل عام، علما أن الصين تجاوزت الولايات المتحدة كأكبر سوق لمبيعات السيارات منذ العام 2009. وهذا الدفاع الصيني ينطلق في ما يبدو من رغبة في عدم تسليط الضوء على تقدم الصين واحتلال مرتبة الدولة الأولى في العالم، الأمر الذي له تبعاته، خاصة بالنسبة لسلعة استراتيجية مثل النفط ترتبط بالعديد من المتاعب في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر خزان النفط الرئيسي في العالم.
وفي واقع الأمر، فإن تبوء الصين مرتبة أكبر مستورد للنفط في العالم كان مسألة وقت. ففي آب/اغسطس الماضي، نشرت الدار الاستشارية الايرلندية المعروفة في ميدان الطاقة «وود ماكينزي» تقريرا توقعت فيه أن تتسلم بكين مرتبة أكبر مستورد للنفط في غضون أربع سنوات، وأنها ستنفق على ذلك 500 مليار دولار بحلول العام 2020، وهو ما يزيد على أكبر مبلغ أنفقته واشنطن على وارداتها النفطية في تاريخها، وهو 335 مليار دولار. بل ان فاتورة واردات النفط الأميركية ستهبط إلى 160 مليارا في غضون سبع سنوات وفق «وود ماكينزي»، وذلك بسبب نمو الإنتاج المحلي. وأضافت الدار ان الواردات النفطية الصينية سترتفع من 2.5 مليون برميل يوميا في 2005 الى 9.2 ملايين بحلول العام 2020، في الوقت الذي ستتراجع فيه الواردات الأميركية من 10.1 ملايين الى 6.8 ملايين خلال الفترة نفسها، علما أن واشنطن ستتجه الى تركيز وارداتها من مصادر في الأميركتين مثل كندا وفنزويلا والبرازيل، في الوقت الذي سيتزايد فيه اعتماد الصين على نفط الشرق الأوسط ومنظمة أوبك.
ووفقا لباحثين في مؤسسة «بروكنغنز» في واشنطن، فإن الصين تستورد نفطا من منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي إقليم آخر. وفي العام 2011 بلغ إجمالي وارداتها من الإقليم 2.9 مليون برميل يوميا، تشكل نحو 60 في المئة من حجم الواردات، بينما كان نصيب الولايات المتحدة 2.5 مليون برميل تمثل 25 في المئة من حجم وارداتها. السعودية جاءت في المرتبة الأولى بحجم صادراتها النفطية الى الصين التي بلغت 1.1 مليون برميل يوميا.
لكن، وبرغم تراجع الواردات الأميركية من النفط الأجنبي، إلا أن واشنطن لن تستطيع إدارة ظهرها لمنطقة الخليج بصورة نهائية وذلك بسبب عالمية سوق النفط. واكتفاؤها الذاتي من الذهب الاسود لن يحصنها من تبعات تقلبات سعر البرميل حيث تؤثر أي تطورات في سعر البرميل وفي سعر بيعه للمستهلك. كما انه بسبب مرور نحو 17 مليون برميل يوميا عبر مضيق هرمز، فإن الانشغال الأميركي بما يجري في المنطقة سيظل مستمرا بصورة أو بأخرى، إضافة الى قضايا حيوية لواشنطن مثل إسرائيل ومكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية... وكلها تتطلب اهتماما سياسيا ووجودا عسكريا.

الصين والعراق

العلاقة الوثيقة مع الدول الخليجية ستكون مرشحة لتردٍّ بدأت بوادره في الخلاف بين الرياض وواشنطن الذي خرج إلى العلن بسبب ملفات تتعلق بكيفية التعامل مع الأزمة في سورية ومع إيران مثلا. من الناحية الأخرى، فإن تزايد اعتماد الصين على منطقة الخليج يمكن ان تكون له انعكاسات متقاطعة. وأول ملاحظة ان العراق أصبح ثاني أكبر مورد للنفط الى الصين التي تخطط لاستيراد 850 ألف برميل يوميا من العراق في العام المقبل، وهو ما يشكل تقريبا ثلث حجم الصادرات العراقية. ويعود هذا التطور الى الاستثمار الصيني الضخم في الصناعة النفطية العراقية. فلشركة «بتروشاينا» مثلا حصة 25 في المئة في مشروع غرب القرنة، وهي حصة اشترتها للمفارقة من الشركة الأميركية العملاقة «أكسون/موبيل». كما تشارك الشركة الصينية وصيفتها «بريتش بتروليوم» في حقل الرميلة الذي يعتبر أكبر حقل نفطي منتج في العراق حاليا. وهما تمكنتا من زيادة الإنتاج من 400 ألف برميل يوميا إلى 1.4 مليون برميل، هذا بالإضافة إلى مشاركتها في إدارة حقلي الأحدب والحلفاية، الأمر الذي يجعلها أكبر مستثمر أجنبي في الصناعة النفطية العراقية.
هذا الوجود القوي للصين في العراق في ميدان استكشاف وإنتاج النفط الخام، الذي لا تسمح به السعودية للشركات الأجنبية، يرشح العلاقات الصينية - العراقية للدخول في مرتبة أعلى ويعزز من قدرات بغداد النفطية وقد يدفعها مع تزايد انتاجها الى مطالبة السعودية بخفض حصتها الحالية الى ما بين 9 ملايين الى عشرة ملايين برميل يوميا، وذلك لأن هذه الحصة السعودية تمددت على حساب غياب الإنتاج العراقي في الماضي. وإذا حدث هذا وصحبه ضعف في الأسعار، فإنه ستكون له انعكاساته على الدول الخليجية التي تعودت خلال السنوات الماضية على العائدات المالية النفطية الضخمة بسبب انتاجها الكبير وتصاعد سعر البرميل. لكن الأمور قد لا تصل الى هذه المرحلة بسبب الاضطرابات المستمرة في عدد من الدول المنتجة، بما فيها العراق، وتراجع صادراتها مما يطمئن السعودية الى وضعيتها كمصدر مأمون للإمدادات.
تطور العلاقة النفطية الصينية مع العراق يعود في جزء منه الى المشاكل التي تجابه وارداتها من ايران بسبب المقاطعة الأميركية لطهران (العقوبات على برنامجها النووي)، مما أدى إلى تراجعها الى المرتبة السادسة من الثالثة بين الدول التي تصدر النفط الى الصين. فقد تراجعت هذه الواردات من 555 ألف برميل يوميا في العام 2011 الى 439 ألفا في العام الماضي ثم الى 402 ألف برميل في فترة الأربعة أشهر الأولى من هذا العام. كما يلاحظ ان الصين لم تتقدم كثيرا على طريق تنفيذ تعاقداتها في المشاريع الإيرانية مثل أزادي قان وبارس الجنوبي وياداقاران، مما جعل طهران تهدد بإلغاء هذه التعاقدات بسبب عدم حدوث تقدم في التنفيذ.
وينبع هذا الحذر الصيني في ما يبدو من عاملين: أولهما مساندتها للموقف الغربي الداعي لوقف البرنامج النووي الإيراني، وذلك في إطار دعوتها لجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وسياساتها في «تقليل الصراعات»، ولهذا تكرر دائما ضرورة إبقاء ممر هرمز مفتوحا، وذلك في رد مباشر على تهديد إيران بإغلاقه. أما السبب الثاني فيعود الى أن الأسواق الأميركية بإمكانياتها المالية الهائلة تمثل مجالا حيويا لا يمكن للشركات الصينية تجاهله، خاصة في مجال عمليات الاندماج وشراء الشركات العاملة. ويعتقد ان الصين أنفقت 8 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية في هذا الميدان الذي تأمل في الاستمرار فيه.
خلاصة الوضع ان الولايات المتحدة سيتراجع اعتمادها على النفط الأجنبي، خاصة من منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي سيتصاعد فيه الاعتماد الصيني على نفط المنطقة. فهل سينعكس هذا على التزامات الأمن والدفاع التي أخذتها واشنطن على عاتقها منذ الانسحاب البريطاني العسكري من المنطقة في مطلع سبعينيات القرن الماضي. وهل يمكن توقع دخول الصين لتحمل جزءا من العبء، على الأقل حماية لمصالحها الحيوية. ولا يبدو هذا واردا في وقت قريب، وذلك لأن الولايات المتحدة استثمرت وقتا وجهدا وأقامت لها نظاما دفاعيا يحتاج الى إحلال نظام بديل محله. وبكين في ما يبدو ليست على استعداد لذلك، في الوقت الراهن على الاقل. ويظهر هذا في ان بكين طلبت من واشنطن الاستمرار في تحمل مسؤولياتها هذه، وألا تأتي توجهات إدارة أوباما بالتركيز على منطقة شرق آسيا على حساب التزامات أميركا الدفاعية في الخليج.

* كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط
عن صحيفة "السفير" اللبنانية