2024-11-14 06:03 م

وثائق البيت الأبيض تكشف أسرار العلاقة مع الإخوان

2013-08-18
كتب عاطف الغمرى
يحدث أن يكون الرئيس أو نظام حكمه مقطوع الصلة بالشعب من خلال حبل سرى –بالتعبير المجازى– حينئذ يسعى إلى صلة تربطه بكيان خارج مجاله الطبيعى. تفعل هذا الأنظمة الاستبدادية التى لا تربطها بالشعب المحكوم عوامل الاختيار الحر، والرضا العام. فتتجه نحو قوة أجنبية طلبا للسند والحماية بديلا عن شرعية تفتقدها فى الواقع وهذا هو حال الأنظمة الديكتاتورية.

الشىء نفسه يحدث من الذين طمست فى عقولهم وأفكارهم معانى الارتباط بالوطن والانتماء الغريزى له، وهو ما فعله الإخوان فى مصر، بما لديهم من شعور متأصل، وعقيدة راسخة تربوا عليها، بأن الوطن عندهم يتخطى أرض مصر إلى مجال أوسع يمتد بعيدا إلى أوطان أخرى، بطريقة تخيلية، منزوعة الصلة بالواقع المحلى والدولى، وبعيدة عن المنطق والعقل.
والوطن فى عقيدتهم المتوهمة، يعبر عنه ويمثله تنظيم دولى متنوع الجنسيات يجمعهم فى إطار فكرة مقطوعة الصلة بالزمن والعصر المتغير أسموها «دولة الخلافة», وفى دروب هذا المسعى، كانت مسيرتهم منذ بدايات التنظيم لإيجاد سند وداعم وكانت أمريكا بالنسبة لهم هى الملاذ، وبدأت حبال الوصل تمد من أول الخمسينيات من القرن العشرين.
فعلوا هذا حين هانت مصر عليهم وانكمشت صورتها فى عقولهم.. مصر التى كرمها الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم، وأوصى بها المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما صارت أمريكا هى قبلتهم.

فى أمريكا - الوثائق كاشفة ومتاحة بوفرة ودون قيود
فى أمريكا.. وقت أن عملت بها لسنوات مديرا لمكتب الأهرام فى واشنطن، اعتدت أن أردد عبارة أصف بها ظروف عملنا المهنى فأقول: المعلومات تأتينا وكأنها تلقى علينا من النافذة. وهى متاحة لمن يسعى للحصول عليها, وأقربها إلينا مراكز متخصصة تعد بالمئات فى مقدمتها، المكتبات التى تحمل أسماء رؤساء أمريكا، والذين يحرص كل منهم فى نهاية حكمه على أن يؤسسها ويودع بها الوثائق الرسمية لفترة رئاسته، والتى تؤدى أيضا دورا ثقافيا واجتماعيا يذكر الأمريكيين به.
حين كنت أبحث عن جوانب من خفايا الدور الأمريكى فى حرب 1967 أو مدى علم الولايات المتحدة بترتيبات إسرائيل لهذه الحرب، كان توجهى إلى مكتبة جونسون، لأطلع على الوثائق المتاحة بعد رفع الحظر القانونى عليها لمرور ثلاثين سنة على وقوع الأحداث التى تغطيها الوثائق. أو زيارة «مركز نيكسون للسلام»، بحثا عما يتعلق بحرب أكتوبر 1973. أو إلى مكتبة كنيدى لقراءة وثائق أزمته مع دولة إسرائيل قبل اغتياله فى أول الستينيات بسبب إصراره على إرسال وفد من العلماء الأمريكيين لتفقد البرنامج النووى الإسرائيلى. أو الذهاب إلى مركز جيمس بيكر للسياسات العامة فى هيوستون بولاية تكساس، أو مركز برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومى للرئيس جورج بوش الأب. أو الإطلاع على ما تزخر به مكتبة أيزنهاور من وثائق تاريخية. كان من بينها ما يشرح بالتفصيل بداية العلاقة بين أمريكا والإخوان، والتى كانت وكالة المخابرات المركزية طرفا رئيسيا فيها.
إلى جانب ذلك يستطيع من يبحث عن المعلومات الموثقة، أن يجدها فى مراكز البحوث THINK TANKS، وندواتها المنتظمة طوال أيام الأسبوع والتى تدور فيها مناقشات ومناظرات يشارك فيها مسئولون حاليون وسابقون شغلوا أرفع المناصب، منهم وزراء الخارجية والدفاع ومستشارو الأمن القومى.
فى مكتبة أيزنهاور فى بلدة أبيلين بولاية كنساس يستوقف النظر ما احتوته من وثائق كان من بينها ما جاء فى وثيقة THE APPOINTMERNT BOOK والمكونة من 1400 صفحة مقسمة إلى أجزاء حسب السنوات وفيها شرح تفصيلى لبداية العلاقة بين أمريكا والإخوان، وكيف أسس الإخوان ترتيبات عمل منظمة مع أجهزة المخابرات الأمريكية بدأت مع دعوة سعيد رمضان زوج ابنة المرشد حسن البنا، لحضور مؤتمر فى أمريكا عام 1953. ومن يومها أخذت هذه العلاقة تتطور وتتسع.
عدد من الكتاب الأمريكيين اهتموا بالبحث فى خفايا هذه العلاقة ليس فقط بالرجوع إلى وثائق أيزنهاور بل أيضا بالاطلاع على وثائق أخرى موجودة فى أمريكا وأوروبا، وعمل لقاءات مع شخصيات كانت طرفا مباشرا فى هذه العلاقة أو قريبة منها.
كان منهم أيان جونسون وهو من أبرز المراسلين لكبريات الصحف الأمريكية والذى أجرى ثلاثين مقابلة مع شخصيات على علم بهذا الموضوع.
ومنهم أيضا روبرت دريفوس الذى اهتم بتقصى الحقائق التى تتضمنها الوثائق السرية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة والتى اوردها فى كتابه «كيف ساعدت أمريكا على إطلاق العنان للمتشددين الإسلاميين؟!».
يسجل روبرت دريفوس فى أوراقه التى جمعها فى كتابه بداية العلاقة ويقول: قبيل اغتيال المرشد حسن البنا تم إيفاد سعيد رمضان إلى عدة دول عربية بهدف إنشاء فروع لتنظيم الإخوان فى الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وغزة.
وينقل دريفوس ما جاء فى مقال كتبه المؤرخ اليهودى المتخصص فى الشئون الإسلامية برنارد لويس عام 1953 ودعا فيه لوضع استراتيجية لتشجيع الحركات الإسلامية فى الدول العربية ودعمها، لتكون سلاحا ضد النفوذ السوفيتى فى الشرق الأوسط. وقد تبنى مشروع لويس، جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكى وشقيقه ألان دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية. وفى العام نفسه (1953) رتب دالاس بالاتفاق مع الرئيس أيزنهاور مؤتمرا عقد بجامعة برينستون والذى حضره أعضاء من تنظيم الإخوان المسلمين من دول عربية.
فى عام 1953 وقبل قرار عبد الناصر حل جماعة الإخوان المسلمين، بدأت الولايات المتحدة برنامجا سريا تولت تنظيمه الوكالة الأمريكية للإعلام، ودعت لحضوره ثلاثين من الدارسين والقيادات المدنية معظمهم من دول إسلامية للاشتراك فيما تم تعريفه رسميا بمؤتمر أكاديمى بجامعة برينستون. لكن السبب الحقيقى وراء هذا المؤتمر كان القيام بجهود لنيل إعجاب هؤلاء المشاركين، بالقوة المعنوية والروحية للولايات المتحدة، اعتقادا من الأمريكيين بأن هؤلاء يستطيعون التأثير على الرأى العام فى بلادهم بطريقة أفضل مما يستطيعه حكامهم.
أحد الحاضرين فى المؤتمر وفقا لما جاء فى وثيقة
EISENHOWER’S APPOINTMENT BOOK
هو سعيد رمضان موفد الإخوان للمؤتمر وكان يوصف بوزير خارجية الجماعة. وكان هذا المؤتمر بداية علاقة تطورت بشكل كبير بين رمضان ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
وكان روبرت دريفوس قد نشر فى عام 2005 تحقيقا استقصائيا عن الجوانب السرية فى السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام. وبنى تحقيقه على بحثه فى أرشيفات السياسية الأمريكية، ولقاءات مع سياسيين، وأفراد من أجهزة الخدمات السرية، ومسئولين بوزارتى الخارجية والدفاع. واستطاع من خلال هذا التحقيق الكشف عن كثير من خفايا تاريخ الشرق الأوسط منذ بداية الاحتلال البريطانى للمنطقة، وحتى وقت حرب العراق عام 2003. وضمن ما ورد فى هذا التحقيق الاستقصائى الموثق البدايات الأولى لعلاقة الإخوان بالإنجليز، حين قدمت شركة قناة السويس للمرشد حسن البنا تمويلا مقداره 500 جنيه، لإنشاء جماعة الإخوان المسلمين فى مصر.
....
تتفق الوثائق التى استند إليها كل من دريفوس وأيان جونسون الى أن المسئولين فى حكومة أيزنهاور كانوا يعرفون ما الذى كان يفعلونه. ففى سنوات الصراع ضد الشيوعية اقتنعوا بأن المنظمات الدينية تعتبر قوة يمكن للولايات المتحدة أن تستخدمها فى مواجهة الاتحاد السوفيتى باعتبار أنه لا يؤمن بالأديان بينما أمريكا دولة تؤيد الحريات الدينية.
وقد كشفت الوثائق السرية لوكالة المخابرات المركزية التى أفرج عنها حديثا وصف محللى الوكالة لسعيد رمضان بأنه شخص جامد الحس وفاشى النزعة وأن كل اهتمام جماعته مركز على التمكين من السلطة. لكن البيت الأبيض تجاهل هذا الرأى وقرر دعوة رمضان للقدوم للولايات المتحدة.
وبحلول نهاية الخمسينيات كانت وكالة المخابرات المركزية قد القت بكل دعمها وراء رمضان وطبقا لما جاء بالوثائق فقد كان من اليسير أن يطلق عليه فى الولايات المتحدة فى الخمسينيات والستينيات «عميل أمريكى». وقد أيدته الولايات المتحدة فى تنفيذ عملية السيطرة على مسجد فى مدينة ميونخ فى ألمانيا، وإقصاء المسلمين المحليين من إدارة المسجد وهم الذين قاموا ببنائه عام 1958 والذى تحول بعد ذلك إلى واحد من أهم المراكز التى يسيطر عليها الإخوان المسلمون فى أوروبا، ومأوى لتجمع مجموعات منهم هاجرت من بلادها.
وابتداءً من الثمانينيات اختار تنظيم الإخوان المرشد السابق مهدى عاكف ليتولى إدارة مركز مسجد ميونخ الذى أسهم فى صعود غير مسبوق لتنظيمات الجماعات الإسلامية فى أوروبا. وكان محمود أبو حليمة الذى تولى التخطيط لتفجير مبنى مركز التجارة العالمى فى نيويورك عام 1993 من الذين كانوا يترددون على مسجد ميونخ.. وفى هذا المسجد الذى صار مركزا لنشاطات سياسية، تم إنتاج عقول مهيأة لممارسة الإرهاب.
استمرت العلاقة دائرة فى عالمها السرى والذى شهد تعاونا فى حرب أفغانستان ضد السوفيت، ثم فى القتال الذى دار بعدها بسنوات فى التسعينيات فى البلقان. ثم اتخذت العلاقة منحى جديدا من الصعود فى عهد الرئيس جورج بوش ابتداءً من عام 2005 والذى شهد تكثيفا للتنسيق بين أمريكا والإخوان وبدعم من المخابرات المركزية.
إلى أن وصلت الأمور إلى فترة حكم أوباما الذى آلت إليه تركة واسعة ومتشابكة من العلاقات مع الإخوان – العميل الرئيسى لهم فى المنطقة – والتى تمثل استثمارا سياسيا واستراتيجيا وماليا وجد أوباما من الصعب عليه الاستغناء عنه. وقد ظهرت مؤشرات تعاطفه مع الجماعة قبيل تنحى مبارك، وأثناء مظاهرات ميدان التحرير، حيث خرج روبرت جيبس المتحدث باسم البيت الأبيض ليدعو مبارك لإجراء انتخابات يشارك فيها الإخوان المسلمون.
وتتابعت الأحداث إلى أن فاز مرسى بالرئاسة وما كشف عنه دبلوماسيون أمريكيون بشأن ما قدمه حكم مرسى للولايات المتحدة من تطمينات بمحافظته على المصالح الأمريكية، وعلى المعاهدة مع إسرائيل. وتحدث هؤلاء الدبلوماسيون الأمريكيون عن الزيارات المنتظمة وغير المعلنة لقيادات الإخوان إلى واشنطن بعيدا عن وزارة الخارجية المصرية.
ولما عزل مرسى عقب الموجة الثانية للثورة فى 30 يونيو 2013، ظهر بوضوح انحياز أوباما وإدارته للإخوان والضغوط السافرة التى لم تتوقف لصالحه، وهو ما كان يعكس المأزق الشديد الذى وجد أوباما نفسه فيه، فهو متمسك بوجود الإخوان فى الحكم ولا يستطيع فى نفس الوقت التفريط فى العلاقة مع دولة محورية كمصر، بالإضافة إلى أن هذا الموقف الأمريكى يمكن أن يجعل أمريكا تخسر رضا الشعب المصرى نفسه، وما يلحق به من خسائر مماثلة من جانب الرأى العام العربى.
إن ملف العلاقة بين أمريكا والإخوان متخم بالأسرار التى تكشفها وثائق سعى وراء الحصول عليها كتاب عديدون من أبرزهم بيان جونسون وضباط المخابرات المركزية روبرت باير، وروبرت دريهر، وليندا هيرد، والمؤرخ برنارد لويس بالإضافة إلى تفاصيل عديدة عن حماس ونشأتها ودورها فى إطار التنظيم الدولى للإخوان.
إن طبيعة العلاقة بين أمريكا والإخوان قد تكون خافية عن الغالبية العظمى من أعضاء الجماعة وشبابها والذين انضموا إليها مدفوعين بإيمانهم بالمعانى النبيلة عن الدعوة الإسلامية، لكن القيادات خاصة فى الدائرة الضيقة منها محكومون بحسابات أبعد ما تكون عن فكرة الدعوة ومرتبطة كلية بمقتضيات السياسة وبكل ما يجرى فى أبوابها الخلفية من ترتيبات لها أهداف أكبر وأوسع مدى من القدرات السياسية والفكرية لقيادات الجماعة والذين رهنوا مشروعهم السياسى فى يد قوة كبرى لها استراتيجيات تعمل لحساب مصالحها فى العالم أولا وأخيرا.