2024-03-28 05:49 م

تحديات البحث عن راعٍ بديل لسلام الشرق الأوسط

2018-02-09
محمد فايز فرحات 

في ردة فعل، متوقعة، على قرار دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، طرح كثيرون إعادة النظر في رعاية واشنطن عملية السلام في الشرق الأوسط، انطلاقاً من افتقادها شروط الوسيط النزيه. فكرة البحث في راعٍ بديل ليست جديدة، فهي تتصاعد في كل مناسبة تتراجع فيها الثقة في الوسيط الأميركي، لكنها تكتسب درجة كبيرة من الجدية والمشروعية عقب قرار ترامب. كما اكتسبت هذه المرة بُعداً جديداً، تمثّل في طرحها على مستويات فلسطينية رسمية عليا، بدءاً مما جاء في كلمة محمود عباس في القمة الإسلامية الطارئة (إسطنبول) والتي قال فيها إن الولايات المتحدة «اختارت أن تفقد أهليّتها كوسيط، وإنّنا لن نقبل بأن يكون لها دور في عمليّة السلام»، وانتهاءً ببيان المجلس المركزي الفلسطيني الصادر في منتصف الشهر الماضي والذي أكد الأمر نفسه.

وهناك حالة من السيولة يمر بها النظام العالمي نتيجة التغير المضطرد في هيكل توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، في اتجاه صعود الثقل النسبي لروسيا والصين، وثمة مؤشرات كثيرة على هذا التحول، لكن ما يهمنا هنا هو موقع إقليم الشرق الأوسط بالنسبة إلى هذه القوى في المرحلة الراهنة. وعموماً كان الشرق الأوسط أحد الأقاليم المهمة الكاشفة عن عمق التحول في بنية النظام العالمي، وتدشين لحظات الانتقال من نظام عالمي إلى آخر. ويمكن أن نقرأ التنافس الروسي- الأميركي في سورية، والمحاور الدولية- الإقليمية التي تتشكل على خلفية هذه الأزمة، وعلى خلفية قضايا أخرى في الإقليم مثل الحرب على الإرهاب، وتحجيم النفوذ الإيراني، على أنها تجسيد لإعادة بناء خرائط النفوذ والقوة في الإقليم كجزء من التوازنات العالمية الجديدة. وعلى رغم ضعف الحضور المباشر للصين في الأزمة السورية حالياً، إلا أنها لعبت في مرحلة سابقة دوراً كبيراً في ضبط السلوك الأميركي من خلال استخدام حق الفيتو ضد المحاولات الأميركية والأوروبية داخل مجلس الأمن لمحاكاة الحالة الليبية.

ومن ثم، يصبح من الجائز، حال توفر شروط إضافية أخرى، استغلال اللحظة الراهنة في حياة النظام العالمي لدفع روسيا والصين للدخول على خط القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي، لتُضاف إلى قائمة القضايا والصراعات الإقليمية الكاشفة عن عمق التحول الجاري في بنية النظام.

تاريخياً، كانت روسيا أحد رعاة عملية التسوية في الشرق الأوسط (الرعاية السوفياتية المشتركة مع الولايات المتحدة لمؤتمر مدريد، ثم تجربة الرباعية الدولية التي تأسست في 2002 التي ضمت روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة). ورغم أن الصين لم تلعب هذا الدور من البداية، لكن المتابع للسلوك الصيني يلاحظ حرص بكين خلال السنوات الأخيرة على حجز دور لها ضمن هذا المستوى. هناك مؤشرات كثيرة تؤكد هذا الافتراض، بدءاً من تعيين مبعوث صيني دائم لعملية السلام (2002)، وتوالي طرح الصين لمبادرات سلام، كان آخر ما طرح الرئيس شي جينبينغ في تموز (يوليو) 2017، التي قامت على أربع نقاط: إقامة دولة فلسطينية على حدود ما قبل حرب 1967 عاصمتها القدس الشرقية، التمسك بمفهوم الأمن المشترك- الشامل- التعاوني- المستدام، الوقف الفوري لبناء المستوطنات واتخاذ إجراءات فورية لمنع العنف ضد المدنيين واستئناف محادثات السلام في أسرع وقت ممكن، وأخيراً تعزيز السلام من خلال التنمية والتعاون بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وسبق هذه المبادرة طرح الصين في أيار (مايو) 2013 ما وصفته بـ «الرؤية الصينية» للتسوية، والتي أكدت التمسك بمبادئ «الأرض مقابل السلام»، وحل الدولتين، والتعايش السلمي، والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. أضف إلى ذلك إعلان الصين في تموز (يوليو) الماضي عزمها إنشاء «آلية ثلاثية» للحوار تضمها مع إسرائيل والفلسطينيين، وتنظيم محادثات سلام غير رسمية في كانون الأول (ديسمبر) الماضي بين وفدين الأول برئاسة نبيل شعث، والثاني برئاسة حليك بار.

مع أهمية العوامل الموضوعية السابقة التي تؤسس لتدويل حقيقي لرعاية عملية السلام وإسباغ صفة تعدد الأطراف على تلك العملية، فإن هذا المسعى يصطدم بمعضلات ثلاث. الأولى، تتعلق بضعف أوراق الضغط العربية التي يمكن توظيفها في مواجهة التطورات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. فما لم تقرر موسكو وبكين الدخول على خط القضية الفلسطينية وتصنيفها ضمن قائمة القضايا الإقليمية موضوع الصراع مع الولايات المتحدة لتدشين نظام عالمي متعدد الأطراف، لن يكون الخطاب العربي بهذا الشأن كافياً لتحول الاهتمام بهذه القضية من مجرد أداة لبكين وموسكو للحفاظ على المستوى اللازم من علاقاتهما مع العالم العربي، إلى قضية جوهرية لإعادة هيكلة النظام العالمي. وعلى العكس، فإن المصالح والعلاقات الإسرائيلية مع الصين وروسيا باتت تتسم بدرجة من التشابك والتعقيد (سياسياً واقتصادياً وعسكرياً) إلى الحد الذي قد يضمن عدم دخول هذه القوى في صدام مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.

المعضلة الثانية، تتعلق بطبيعة الرعاية الدولية ذاتها لعمليات تسوية الصراعات، والتي تتأسس استناداً إلى شروط محددة، إما توافق أطراف الصراع على قوى دولية بعينها لرعاية عملية التسوية، أو لكون هذه القوى الدولية أطرافاً غير مباشرين في الصراع، ومن ثم يصبح التوافق بينها على رعاية عملية تسوية وفق شروط محددة هو شرط ضروري لتحققها وضمان استدامتها (مثل محادثات جنيف والآستانة وسوتشي بالنسبة إلى الأزمة السورية)، أو لقناعة هذه القوى بضرورة تسوية نزاع أو صراع بعينه لوجود مصلحة مشتركة في تجنب الصدام العسكري (مثل المحادثات السداسية بشأن أزمة كوريا الشمالية برعاية الولايات المتحدة، وروسيا والصين واليابان وبمشاركة الكوريتين، التي انطلقت في آب (أغسطس) 2003 وانهارت عقب آخر جولة في حزيران (يونيو) 2008. وهي شروط لا تتحقق في شكل كامل في حالة الصراع العربي- الإسرائيلي. فرغم تأكيد الكثير من القوى الدولية أهمية تسوية القضية الفلسطينية كشرط مهم لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، إلا أن خبرة الإقليم خلال السنوات الأخيرة أثبتت أن حالة عدم الاستقرار باتت أكثر ارتباطاً بتسوية أزمات أخرى أكثر تعقيداً، حيث تراجعت نسبة مسؤولية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عن حالة عدم الاستقرار والعنف والتدمير في الإقليم بالمقارنة بمشكلات الإرهاب والطائفية وانهيار الدولة. أضف إلى ذلك الموقف الإسرائيلي الذي يتسم بدرجة شديدة من التشدد والتعنت في إدارة الصراع، فإذا كانت إسرائيل باتت تحظى بدعم أميركي واضح، وطوّرت قدرة على رفض الضغوط الأميركية عليها في لحظات معينة، فليس من المتوقع أن تقبل إحلال رعاة جدد محل الرعاية الأميركية أو حتى إضافتهم إليها. ومن ثم، فإن «عملية السلام» لا تصبح في حقيقتها، من وجهة النظر الإسرائيلية والأميركية، عملية تفاوض برعاية دولية (أحادية أو جماعية) بقدر ما تتعلق بفرض صيغة محددة على أطراف الصراع.

وأخيراً، وبافتراض نجاح الديبلوماسية الفلسطينية والعربية في إدخال رعاة جدد أو إضافيين، على غير رغبة الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يمكن إغفال المعضلة المالية المتوقعة التي سيتعين على السلطة الوطنية الفلسطينية إدارتها، على خلفية حقيقة كون الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين يمثلون المصادر الأساسية للدعم المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية.
(الحياة اللندنية)