2024-03-19 05:04 ص

أوروبا 2018 إلى أين؟

2018-01-16
كثيرة ھي الأحداث التي شھدتھا أوروبا في العام 2017 على الصعد الأمنية والاقتصادية والسياسية، والحركات الانفصالية المطالبة بالاستقلال. واليوم يقف الاتحاد الأوروبي في مفترق طرق ليس بفعل التراجع الاقتصادي فحسب، وإنما بفعل صعود اليمين المتطرف، الذي يسعى إلى تدمير الاتحاد وعودة الدولة القومية، والجدل المحتدم بشأن المھاجرين، وإذا كانت عوامل كثيرة ساھمت في صعود اليمين الأوروبي، من بينھا التراجع الاقتصادي للاتحاد، ومخاوف الأوروبيين من "الإسلاموفوبيا"، ومن ديموغرافيا الإسلام، بفعل التكاثر السريع للوافدين الأجانب، وبخاصة المسلمين، حتى أصبحوا كتلاً سكانية وتصويتية مؤثرة، في المقابل ثمة اعتبارات أخرى تنال من الصورة الذھنية للاتحاد وتزيده انغماساً في ھمه الداخلي، وتوفر في الوقت ذاته بيئة خصبة لدعاوى اليمين المتطرف لتفكيك العائلة الأوروبية، أولھا أن الاتحاد الأوروبي يمر الآن بمرحلة حرجة كشفتھا النقاشات الساخنة حول مستقبله.

سياسياً، تقدم اليمين المتطرف في ألمانيا مؤخراً مع فوز لافت لـ"حزب البديل" المتطرف، بالتزامن مع وصول حزب "الحرية والديمقراطية" النمساوي المتطرف الى الحكم. وقبل ذلك، تقدم اليمين في فرنسا مع حصول زعيمة الجبھة الوطنية المتطرفة مارين لوبن على 33% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في الدورة الثانية. وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في العام 2016، أحدث ارتجاجا عنيفا في الاتحاد. والآن تأتي الأزمة السياسية في ألمانيا لتھدد مكانة ميركل وتضعف الدور القيادي الألماني، والمعادلة بسيطة "ألمانيا ضعيفة يعني اتحادًا أوروبيًّا ضعيفًا"، كما حصلت محاولات انقسام واستقلال في عدد من البلدان كان أوضحھا وأشھرھا في كاتالونيا الإسبانية.
فمسألة الانفصال والاستقلال باتت مطروحة على جدول أعمال بلدان عدة، وھناك من يربط ھذه الوجھة بالعولمة، وھناك من يربطھا بصعود الھويات أو انتھاء صلاح الدولة المركزية. والواقع أن صعود ظاھرة اليمين في أوروبا وسيطرة الشعبوية على الخطاب السياسي باتت مقلقة ومثيرة للخوف، لما سيترتّب عليھا من تأثيرات وانعكاسات على المجتمعات الأوروبية، والأھم أنھا تفتح الباب واسعاً بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي. ناھيك عن كونه أكثر تقارباً مع أفكار بوتين وترامب التي تدعو إلى تفكيك المؤسسات والتكتلات الجماعية.

فالحركات الانفصالية تتنامى داخل أوروبا، في ظل وضع يشھد تنامي التيارات القومية واليمين المتطرف نتيجة أزمات الھجرة ومستويات دين خارجي مرتفعة وتھديد الإرھاب. وتسعى حركات الانفصال والتطرف إلى إعادة رسم خريطة أوروبا عبر الارتكاز على معايير اثنية ولغوية أو ثقافية، واستنادا إلى عدم تمتّع ھيئات الاتحاد الأوروبي بالشرعية الديمقراطية، والزوال التدريجي للحدود، وتوحيد سبل الحياة، وفرض اللغة الإنكليزية لغة مشتركة.


فأوروبا الغربية تحتضن نموذج كاتالونيا، وھو الأكثر رمزية. وھو وثيق الشبه بما يجري في بلجيكا مع الحركة الفلامندية أو في شمال إيطاليا مع لومبارديا. ومطالب ھذه المناطق تلفظ فكرة المواطنة. فالفلامنديون لا يريدون المواطنة البلجيكية، والكاتالونيون يرفضون الانتماء الإسباني، والكورسيكيون لا يريدون الجنسية الفرنسية. وھذه الحركات ھي حركات مناطق ثرية. ويعود الثراء ھذا إلى موقعھا الجغرافي وسكانھا واقتصادھا، وھي ترى أنھا تسدد ضرائب كثيرة إلى الدولة تفوق حصة غيرھا من المناطق. وھذه ليست حال كورسيكا حيث تنقل فرنسا القارية نحو كورسيكا حوالى بليوني يورو سنوياً، وھذا مبلغ ضخم. لذا، لا يطالب الكورسيكيون بالاستقلال والانفصال الفوري.
فأزمة الاتحاد الأوروبي تُنسب إلى شوائب أساسية في بنيته الدستورية أو إلى ابتلائه بشح في الديمقراطية. ولا مناص من الإقرار بأن أزمة المھاجرين ساھمت في تغيير طبيعة السياسة الديموقراطية على المستوى الوطني، فأزمة المھاجرين ھي وراء ذعر أخلاقي في أوساط أوروبيين يخشون الإرھاب، وتقلقھم التغيرات الكبيرة والعنيفة التي تطعن في أفكار الديمقراطية والتسامح والتطور والمبادئ الليبرالية التي تسم المشھد الأيديولوجي الغربي. فھي منعطف في دينامية المشروع الأوروبي السياسية...


ملامح القلق في مسيرة الاتحاد دفعت رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى صياغة وثيقة موجزة عن مستقبل العائلة الأوروبية تحمل عنوان "كتاب أبيض حول مستقبل أوروبا". حدد يونكر خمسة مسارات إلى الوحدة، أھمھا استمرار الاتحاد كما ھو، والعودة إلى صيغة السوق المشتركة أي "تكتل تجاري"، وخلق أوروبا "متعددة السرعات".

اليوم، يستغل رئيس المفوضية الأوروبية جون كلود جونكر ضعف موقف الحكومة البريطانية نتيجة الانقسام الداخلي في الحزب "المحافظ" الحاكم بين مؤيد لـ"بريكست" يتضمن شروط تعاون مع الاتحاد (سوق مفتوح وقوانين ھجرة وتنقّل وغيرھا) وبين مؤيد لـ"بريكست" حازم يقطع كل العلاقات الاستثنائية مع اليورو. يعلم جونكر أنه في نھاية المطاف سيضطر الى التفاوض مع لندن، لأنھا ليست أثينا ولا يمكنه سحقھا والتنكيل بجسدھا كما حصل مع اليونان، وخصوصاً مع انشغال ألمانيا بحل أزمة داخلية لن تنتھي بانتصار صلب لأحد. عودة الحيوية السياسية إلى برلين تعني أن ميركل لم تعد المھيمن في بلادھا حتى تھيمن على سياسة الاتحاد.  

فأنظار الحلفاء الأوروبيين تركزت على فشل مفاوضات تشكيل حكومة جديدة في ألمانيا متخوفة من احتمالات عدم استقرار محتمل في البلاد ستكون له انعكاسات خطيرة على الاقتصاد الأوروبي ومستقبل الاتحاد الأوروبي. وذكرت صحيفة "تايمز" البريطانية أن فشل ميركل سيضر بألمانيا وأوروبا، ووصفت الأزمة الحكومية الحالية بأنھا "أسوأ ازمة سياسية تواجه ميركل خلال حكمھا الذي استمر 12 سنة، وأن ما يحصل في ألمانيا يمثل أخباراً سيئة لأوروبا، لا سيما أن خطط ماكرون الإصلاحية تعتمد على ألمانيا قوية داعمة محور برلين – باريس". واعتبرت صحيفة "غارديا"  أن ھذه السيناريوھات كلھا توحي بغموض سياسي كبير في قوة أوروبا على خلفية إعادة تشغيل المشروع الأوروبي وقضايا ملحة مثل الھجرة واللجوء والإرھاب الدولي والأمن الأوروبي المشترك، فضلاً عن تدخلات الرئيس بوتين في الشؤون الداخلية للبلدان الأعضاء والعلاقات مع تركيا، والتراجعات في المسار الديموقراطي في ھنغاريا وبولندا... و"البريكست" فبوتين يعمل من جھته جاھداً لتفكيك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، من خلال تشجيع الحركات الانفصالية الأوروبية. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فلم يضيع الوقت للبدء بعملية تفكيك المؤسسات متعددة الأطراف، ووقف إلى جانب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.


 قد تتراوح الآراء حول موقع ألمانيا في الاتحاد ودورھا، بين السلبي والإيجابي، كما قد تتراوح الآراء حول الاتحاد دعماً ومعارضة، ولكن لم يعد بإمكان أحد البت بأنه قابل للاستمرار سياسياً في بنيته الحالية. الفوضى الألمانية ھي خبر سيئ بالنسبة إلى خروج بريطانيا، لأن تيريزا ماي كانت تأمل بمساعدة ميركل، وفرنسا ھي القوة الرائدة في الاتحاد الأوروبي، واستدركت أن ماكرون مصاب بالوھن بسبب ضعف ميركل. وعلقت صحيفة "لو فيغارو" أن "ماكرون الذي كان يريد مع ميركل تقوية أوروبا وإعطاءھا دفعة جديدة، يواجه تحدياً بفقدان شريك حاسم لخططه وبرامجه، وسيكون من دونھا وحيداً في بحر هائج".


اقتصادياً، يشھد الاقتصاد الأوروبي حاليا قوة دفع إيجابية تنتشر عبر جميع الدول الأعضاء. وتعتبر الفترة الحالية الأحسن، إذ تشھد أعلى معدلات نمو في عشر سنوات مع تقديرات تصل الى مستوى يقارب 2,2 % مقابل 7,1 % في الربيع الماضي. وقد يكون النمو الذي تشھده أوروبا حاليا طفرة رغم أن الكثير من المستثمرين والاقتصاديين يرون في ھذا النمو أنه مبني على أسس صلبة. ويعود الفضل في النمو في الواقع الى ألمانيا، أكبر اقتصادات المنطقة.


لكن، الأمر المقلق يبقى أنه وعلى رغم تحسن الحالة لا تزال ھناك تحديات ھامة من بينھا استمرار ارتفاع مستوى الدين العام في أوروبا حوالي 90 % من الناتج المحلي الإجمالي، واستمرار ارتفاع مستوى البطالة في بلدان مثل إسبانيا واليونان وانخفاض نمو الأجور، ويحذّر الاقتصاديون من طفرة التفاؤل ھذه سيما وأن العملة الموحدة لا تزال تواجه مشاكل عدة في حاجة الى معالجة أھمھا قد يكون الوحدة المصرفية وأسواق المال.
ھذه الآفاق المشرقة في منطقة اليورو ھي في تناقض صارخ مع توقعات المملكة المتحدة، حيث أن الشكوك تكتنف الطلاق مع الاتحاد الأوروبي الأمر الذي أضعف الاستثمار والجنيه معا. لذلك يبدو المشھد ورغم التفاؤل الذي يثيره ھذا النمو ضبابيا، فأوروبا في النهاية تبقى رھينة ظروفھا الجيوبوليتكية وحالات الانفصال في بعض دولھا مما يضفي فترات من عدم الاستقرار التي ستنعكس على الحياة الاقتصادية والمالية في دول المنطقة.