2024-04-24 02:18 م

وعد بلفور: هل تواطأ عبدالعزيز مع الإنكليز؟

2017-11-05
علي فواز  
العلاقة بين وعد بلفور وبين المملكة السعودية يكتنفها الالتباس. الباحثون عن هذه العلاقة قد يتوهون بين محركات البحث على الإنترنت وبين عدد قليل من المراجع العربية الموثوقة. ماذا عن الحقيقة المجردة؟ هل وافق عبدالعزيز بشكل صريح أو ضمني على المشروع الصهيوني، أو تواطأ ضد القضية الفلسطينة وتماشى مع التوجهات البريطانية؟.
في الوثائق التاريخية، هناك ما يعزز وجود رابط بين القضية الفلسطينية والملك عبدالعزيز آل سعود. من هذه الوثائق واحدة ممهورة بتوقيع عبدالعزيز نفسه. لم يمانع مؤسس الدولة السعودية الثالثة وفق الوثيقة "من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود". يؤكد فيها أيضاً أنه لن يخرج "عن إرادة بريطانيا حتى تصيح الساعة".


يؤكد السعوديون أن تلك الوثيقة مزورة. هذا مرجح وليس مستبعداً. لكنهم يذهبون أبعد من ذلك. هناك مئات المقالات والكتب المطبوعة والمنشورة في السعودية، تؤكد جميعها دعم الحكام السعوديين للقضية الفلسطينية منذ البداية.
تحت عنوان "الملك عبدالعزيز والقضية الفلسطينية" تورد صحيفة اليوم السعودية مواقف مؤسس المملكة في هذا الإطار. مواقف واجه فيها إبن سعود إرادة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، كما يؤكد كاتب المقال.

موقع "الوطن" يتطرق إلى تفاصيل أكثر خلال مراحل استيطان الحركة الصهيونية واحتلال فلسطين. مواقف حاكم نجد آنذاك وملك السعودية لاحقاً لا تحتمل اللبس بحسب التفاصيل التي يوردها الموقع. كلها تدعم وقوف ابن سعود إلى جانب القضية.

كذلك يستند أمين عام دارة الملك عبدالعزيز الدكتور فهد بن عبدالله السماري إلى وثائق محفوظة في أرشيف دار السجلات العامة في لندن. يفنّد ما اعتبرها معطيات غير صحيحة نشرتها صحيفة "الأردن" الأسبوعية حول لقاءات سرية سعودية صهيونية في لندن. يكشف ما دار خلال "مؤتمر المائدة المستديرة" المنعقد عام 1936 في لندن. المؤتمر الذي سيثار حوله الكثير والذي يعتبر من المحطات الهامة في مسلسل التنازلات عن القضية الفلسطينية، كما تُتهم السعودية وغيرها من القادة العرب الذين حضروا المؤتمر.

من بين الكتب "موقف الملك عبدالعزيز من قضية فلسطين" الصادر عن مكتبة العبيكان في الرياض.

في المقابل هناك من يتحدث بثقة مستنداً إلى أدلة ووثائق تثبت التآمر. لكن ماذا عن الحقيقة المجردة بعيداً من أي غايات أو مبالغات؟ هل وافق عبدالعزيز بشكل صريح أو ضمني على المشروع الصهيوني، أو تواطأ ضد القضية الفلسطينة وتماشى مع التوجهات البريطانية؟.

الحاجة إلى الإنكليز والوهابية
تصعب قراءة أي موقف من هذا النوع بمعزل عن الظروف السياسية التي كانت سائدة آنذاك.

من المهم العودة إلى تلك الفترة من التاريخ. مضى 100 عام على وعد بلفور. إنه العام 1917. زمن "الثورة العربية" ضد العثمانيين. الحرب العالمية الأولى تشارف على الانتهاء. عبدالعزيز بالتحالف مع الوهابية لم يكن استولى بعد على الحجاز. لم تكن قواته وصلت عسير في الجنوب ولا حائل في الشمال. لم تكن مملكة آل سعود اكتملت بعد. بناء عليه، لم يكن لعبدالعزيز أي صفة قومية تعطي موقفه وزناً، كما لم يكن له أي دور "عروبي" يؤهله للاعتراف أو لرفض المشاريع الخارجية الكبرى.

كان من الهام لزعيم بدوي طموح ورث الدهاء بالفطرة واكتسب الحنكة من طبيعة الصحراء القاسية أن يحافظ على علاقته مع الإنكليز. لم يعرف عن الأسرة السعودية الحاكمة التدين. إلا أنها حافظت على علاقة مع الوهابية، النسخة المتشددة من الإسلام، التي أعاد محمد بن عبدالوهاب إحياءها إبان حكم الدولة السعودية الأولى عام 1744 بالتحالف مع أسلاف عبدالعزيز.  

كان حاكم نجد يحتاج إلى الإنكليز لحماية سلطته الناشئة والاعتراف بها وتوسيعها. في الداخل احتاج إلى ذراع الوهابية العسكرية الضاربة (جماعة من أطاع الله). اعتمد على الإنكليز لحمايته من الخارج وعلى الوهابية لتوسيع نطاق حكمه الجغرافي عبر الغزوات.

على العكس من عبدالعزيز، كان الشريف حسين بن علي يتمتع بسلطة معنوية عند العرب والمسلمين. ملك الحجاز الذي قاد "الثورة العربية" ضد العثمانيين سوف يدفع لاحقاً ثمن مواقفه غير المتوافقة تماماً مع المخططات الإنكليزية. سيجني عبدالعزيز ثمار ذلك محققاً خطوة إضافية باتجاه حلمه الكبير الذي يفوق لديه أي اعتبار آخر.

عودة إلى المصادر البريطانية والإسرائيلية
يتجاوز عدد من الباحثين في القضية الفلسطينية المصادر والمراجع العربية. يبرزون وثائق تعود إلى الأرشيف البريطاني والأرشيف العبري. من بين المستندات التي توضح علاقة عبدالعزيز بالحركة الصهيونية وثيقتان تاريخيتان محفوظتان في الأرشيف البريطاني تحت رقم  CO 733/443/18 و CO 733/443/19، وتعودان إلى عام 1943.

خلاصة الوثيقتين أن مؤسس المملكة السعودية دخل في مفاوضات سريّة لجهة بيع فلسطين مقابل 20 مليون جنيه.

وفق الوثيقتين كان صاحب الاقتراح الأكاديمي والمتخصص في الشؤون العربية هاري سانت جون فيلي، فيما جرت المفاوضات السرية بين عبدالعزيز ومستشاره جون فيليبي من جهة، وبين وحاييم وايزمان (رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين آنذاك)، والكولونيل هوسكنس (المبعوث الخاص للرئيس الأميركي روزفلت إلى الشرق الأوسط)، وروزفلت نفسه أيضاً.

يعتبر عدد من الباحثين ومن بينهم الدكتور فؤاد إبراهيم أنه بعد أن قام مستشار عبدالعزيز فيليبي بتسريب القضية، انسحب ابن سعود من المفاوضات ونفى أي علاقة سابقة له في الموضوع.

يقول إبراهيم إن افتضاح خبر الصفقة دفع عبدالعزيز للمبالغة في انحيازه لقضية فلسطين، ولكن ذلك في الظاهر فحسب.

بكل الأحوال فإن التواصل بين أسرة عبدالعزيز وبين حاييم وايزمان الذي أصبح لاحقاً أول رئيس للكيان الإسرائيلي، يعود إلى ما قبل فترة الأربعينيات من القرن المنصرم بسنوات كثيرة.

تشير الوثائق إلى لقاءات عديدة بين مستشارين للملك عبدالعزيز وقادة ومستشارين صهاينة. من بينها لقاء في لندن بين ديفيد بن غوريون وسفير السعودية في ثلاثينيات القرن المنصرم. لقاء آخر بين بن غوريون وموشيه شيرتوك من جهة، وبين حافظ وهبة أحد كبار مستشاري الملك عبدالعزيز من جهة أخرى.

هذه اللقاءات وغيرها يتطرق إليها بالتفصيل ميخائيل كهنوف في كتابه "المملكة العربية السعودية والصراع في فلسطين". الكتاب عبارة عن أطروحة دكتوراه في جامعة تل أبيب، والكاتب هو الضابط السابق في وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في الخمسينيات، ولاحقاً مسؤول رفيع في الموساد.

يستعين كاهانوف بمصادر متنوعة من الأرشيف البريطاني ومذكرات قادة الوكالة اليهودية. يورد بوضوح تقبّل عبدالعزيز لفكرة وجود اليهود على أرض فلسطين ورفض مقاومتهم. يشير إلى مصلحة أخرى لعبدالعزيز في الاستيطان الصهيوني عدا عن مجاراته ودعمه لمصالح بريطانيا. إنها خشيته من توسع نفوذ حاكم الأردن الشريف عبدالله بن الحسين والحؤول دون سيطرته على فلسطين بكاملها.
بريطانيا تكرّس ملك السعودية "بابا للمسلمين"
يروي حمادة إمام في كتابه "دور الأسرة السعودية في إقامة الدولة الإسرائيلية" (مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى 1977) فصولاً مما يعتبره تواطؤ عبدالعزيز لمصلحة رغبات بريطانيا ومصالحها.

بحسب الكاتب أصرّ الشريف حسين بن علي على رفضه القبول بدولة لليهود في فلسطين. باعتباره من نسل الرسول، وما كان يحتلّه من مكانة معنوية، كان يصعب على بريطانيا مواجهته مباشرة. تلاقت مصالح الإنكليز مع عبدالعزيز فاستولى الأخير على الحجاز والأماكن المقدسة بخطط وأسلحة إنكليزية.

انتهى حكم الشريف حسين بعدما تيقنت بريطانيا أن مواقفه لن تلين. قبل ذلك، في ميناء العقير بتاريخ 20 آب/ أغسطس 1920، اجتمع ابن سعود مع وزير المستعمرات البريطانية. تمخض الاجتماع على أن يخلف ابن سعود الشريف حسين في المنطقة، مقابل مساعدة بريطانيا في تنفيذ أحلامها على أن تقوم الأخيرة بتخليصه من كل أعدائه.

إلا أن اتفاقية موقعة بين حاييم وايزمان (بصفته ممثلاً  للمنظمة الصهيونية) والأمير فيصل بن الحسين (بصفته ممثلاً للمملكة العربية في الحجاز) بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 1919، تؤكد اعتراف الأخير بوعد بلفور. تتضمن المادة الثالثة من الاتفاقية "إعطاء كافة الضمانات" لتطبيق "وعد بلفور" عند إنشاء دستور وإدارة فلسطين.

استغل الإنكليز حاجة ابن سعود إليهم وطواعيته فاهتموا بتعزيز دوره كـ"بابا المسلمين". بعدما دان له حكم الحجاز وباتت مكة والمدينة خاضعتين لسلطته، تطلع ابن سعود منذ عام 1929 إلى أن تكون له سيادة نوعية على العالم الإسلامي.

أخطر ما قام به عبدالعزيز
من أخطر ما قام ابن سعود في خدمة المشروع الصهيوني دوره في إخماد ثورة 1936 التي قامت في فلسطين ضد الإنكليز، ولاقت تأييداً واسعاً في العالم الإسلامي. هنا يورد كتاب سعوديون وقائع مختلفة.

لكن في كتاب حمادة إمام يرد في الصفحة 48 أن عبد العزيز بعث حينها برسالة إلى أمير الأردن عبدالله بن الشريف حسين، يقترح فيها توجيه نداء بمشاركة الملك غازي في العراق والإمام يحيى في اليمن. الهدف هو دعوة أهل فلسطين إلى وقف الاضطرابات وإفساح المجال أمام الحكومة البريطانية لإنصافهم. وجهت الدعوة إلى اللجنة العربية المتابعة للقضية وأشارت إلى استعداد بريطانيا للنظر في قضية فلسطين بعين العطف لكن بعد أن تهدأ الحالة.. هدأت الحالة. أعادت بريطانيا إحكام قبضتها. ماذا كان الرد البريطاني على مبادرة عبدالعزيز؟.

ورد هذا الرد تحت قبة مجلس العموم حيث أكد وزير المستعمرات أن الحكام العرب "أبدوا تلقائياً رغبتهم في استخدام نفوذهم لدى عرب فلسطين لصالح السلام". وتابع "لم تقدم حكومة صاحبة الجلالة أي تعهدات أو دعوة صريحة أو ضمنية، كما أنه كان واضحاً للحكام المعنيين أن حكومة صاحبة الجلالة غير مستعدة للدخول في أي نوع من التعهدات على الإطلاق".

في كتابه يبرز حمادة إمام عدداً من المواقف التي سعى من خلالها مؤسس السعودية إلى لجم مناصرة القضية الفلسطينية والتواطؤ مع الإنكليز لصالح مخططهم. لكن أهم ما في الكتاب قد يكون شهادات عدد من المستشارين والشخصيات، ممن عملوا مع عبدالعزيز أو تعاملوا معه. شهادات مستقاة من مذكراتهم الشخصية رغم أنه يُؤخذ على الكاتب عدم إيراد مصادره ومراجعه وفق المنهجية العلمية. من بين هذه الشخصيات نجد رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق سعيد الكردي، ومستشار عبدالعزيز السياسي جون فيلبي، ومسؤول المخابرات البريطانية للمنطقة العربية برسي كوكس. إضافة إلى آراء رئيس وزراء بريطانيا تشرشل ورئيس الولايات المتحدة السابق روزفلت.
المصدر "الميادين نت"