2024-03-29 01:06 م

"ربيع غربي" يهدد أوروبا

2017-10-30
بقلم: سركيس ابو زيد 
انتھت مؤخراً المھلة التي منحتھا الحكومة الإسبانية في مدريد إلى رئيس إقليم كاتالونيا كارليس بوتشيمون، لوقف مسعى الإقليم الواقع شمال شرقي المملكة الإسبانية نحو الاستقلال. ومع انتھاء المھلة تقترب مدريد من فرض حكم مركزي على الإقليم الانفصالي لإجھاض مسعاه للاستقلال، فقد ھددت الحكومة الإسبانية بتفعيل المادة 155 من الدستور الإسباني، التي تمكّنھا من فرض حكم مباشر على أي إقليم يتمتع بحكم ذاتي فيھا إذا انتھك القانون، ما أدى إلى الزج بالبلاد في أسوأ أزمة سياسية في تاريخھا منذ محاولة الانقلاب العسكري العام 1981.
مسألة الانفصال والاستقلال باتت مطروحة على جدول أعمال بلدان عدة، وھناك من يربط ھذه الوجھة بالعولمة، وھناك من يربطھا بصعود الھويات أو انتھاء صلاح الدولة المركزية، لكن حتماً لا يوجد من يربطھا بالمؤامرة. فاستفتاء كردستان العراق الذي أطلق شرارة أزمة كبيرة في العراق والمنطقة، تنظر إليه جھات، وتحديدا تلك التي تعد معارضة ورافضة له، على أنه استفتاء مشبوه في توقيته وأھدافه وتدرجه في إطار مؤامرة على المنطقة لتقسيمھا إثنيا وعرقيا وطائفيا انطلاقا من العراق. ولكن "نظرية المؤامرة" المتداولة دائما في الشرق الأوسط، في العراق (شمالًا) أو في السودان (جنوبًا)، ھل ھي موجودة في الغرب، في أوروبا، في اسكتلندا وبلجيكا، في كندا وبريطانيا؟! ھل كان تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي مؤامرة أميركية أو روسية على أوروبا؟! ھل مطالبة اسكتلندا بالاستقلال عن بريطانيا مؤامرة أوروبية على بريطانيا؟! وأخيرا، الاستفتاء الذي جرى مؤخراً في إقليم كاتالونيا الإسباني ھل ھو مؤامرة على إسبانيا؟! وممن؟!
ما يختلف بين استفتاء الكرد في العراق واستفتاء الكاتالونيين في إسبانيا، أن استفتاء كردستان كان سلميا، فيما استفتاء كاتالونيا جاء دمويا وتخللته أعمال عنف وقمع من السلطات الإسبانية التي فعلت كل ما بوسعھا لإلغاء الاستفتاء أو إفشاله. وما يختلف أيضا أن الحكومة المركزية في إسبانيا غير قادرة على ممارسة ضغوط كبيرة ومؤثرة على الإقليم الكاتالوني، في حين أن الحكومة المركزية في العراق قادرة على ممارسة ضغوط قوية بالاتكاء على مصالح ومواقف دول الجوار. أما وجه الشبه فھو النتيجة: 92  % أكراد العراق يريدون الاستقلال، و 90 % من كاتالونيي إسبانيا.
فقد شهدت إسبانيا مؤخراً أكبر أزماتھا السياسية منذ 42 عاماً، مع توجه آلاف "الكتلان" إلى مكاتب الاقتراع للإدلاء بأصواتھم في الاستفتاء على استقلال الإقليم، في تحدٍ صارخ لحكومة مدريد والمحكمة العليا الإسبانية. وإطلاق عناصر مكافحة الشغب عملية أمنية بدأت بمصادرة صناديق الاقتراع، التي أدت إلى اشتباكات عنيفة مع متظاھرين كانوا يتوجھون للتصويت في الاستفتاء المحظور حول استقلال كاتالونيا ما أدى الى سقوط مئات الجرحى. ردود الفعل الغاضبة توالت على استخدام مدريد القوة ضد سكان الإقليم. فقد تعالت الأصوات المطالبة باستقالة رئيس الحكومة الإسبانية، وطالبت رئيسة بلدية برشلونة، ادا كولاو، باستقالة رئيس الوزراء الإسباني، وشاركھا في الطلبات عدد من قيادات إقليم كاتالونيا بعد استخدام قوات الأمن المدني التابعة لمدريد "القوة المفرطة" ضد الناخبين. بينما الحكومة الإسبانية وصفت عملية التصويت بغير الشرعية، وطالبت قيادات إقليم كاتالونيا بوقف ما أسمته "استفتاء المھزلة". حكومة الإقليم ردت على انتقادات مدريد باعتبار تصرفھا "عودة إلى عصور الديكتاتورية" وتجاھلا للديمقراطية. كما لفتت إلى أن حجم الضرر الذي سيلاحق سجل إسبانيا الحقوقي خلال السنوات المقبلة، سيكون كبيراً.
حكومة مدريد ترى أن الانتخابات المبكرة في الإقليم الحل الأمثل لحل ھذه الأزمة، التي قد تحتاج إلى نحو شھرين لإعلان النتائج، أي بنھاية العام الحالي، وفي حال عدم إجراء انتخابات مبكرة في الإقليم وعدم الرد سيكون أمام ماريانو راخوي رئيس الحكومة الإسباني بعض الوقت لجمع الوزراء، وعرض القضية عليھم، يلي ذلك عرض الأمر على البرلمان الإسباني في مدريد، ثم التصويت على تفعيل المادة 155، وھو ما قد يستغرق أياما عدة، وذلك لفرض سيطرة مدريد على الإقليم، تمھيدا لوقف العمل بالحكم الذاتي.
في الواقع استفتاء كاتالونيا على الاستقلال تسبب بأزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة في إسبانيا منذ عودتھا إلى الديمقراطية في العام 1977، ومع تھديد قادة كاتالونيا، بإعلان الاستقلال، تزداد المخاطر الاقتصادية في إسبانيا. تساھم كاتالونيا، أغنى الأقاليم الإسبانية والواقعة في شمال شرقي البلاد، في قرابة 20 % من الاقتصاد الإسباني، وھو مقر لآلاف الشركات المحلية والأجنبية التي توظف الملايين. ويمثل ثقلا اقتصاديا ومركزا للصناعة والسياحة يمثل نحو خمس الاقتصاد الإسباني، ويضم قاعدة إنتاجية لشركات عالمية كبرى مثل فولكسفاغن ونستله، كما أن به أسرع موانئ الشحن نموا في أوروبا.
في المقابل، ھددت مصارف كبرى بمغادرة إقليم كاتالونيا بعد أن تعھد قادة الإقليم بالانفصال عن إسبانيا إثر رفض الحكومة في مدريد دعوات الوساطة في الأزمة المستعرة.
وذكرت تقارير إعلامية أن بنك كايكسا، أكبر بنوك كاتالونيا، يدرس أيضا تغيير مقره بعيدا عن الإقليم. وسيطرت المخاوف حيال رابع أقوى اقتصاد في أوروبا على تغطية الإعلام الإسباني للأزمة. وعنونت صحيفة "إل باييس" اليومية البارزة أن التراجع في البورصة ھو الأسوأ منذ الموافقة على "بريكست" في استفتاء بريطانيا في حزيران 2016.
وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز أعلنت أنھا قد تخفض من تصنيف الدين السيادي في كاتالونيا في الأشھر الثلاثة المقبلة. وذكرت الوكالة: نعتقد أن ھذا التصعيد قد ينسف التنسيق والتواصل بين الحكومتين، وھو أمر ضروري لقدرة كاتالونيا على خدمة دينھا بشكل كامل وفي أوانه.
إن إعلان استقلال كاتالونيا من جانب واحد سيقحم الدولة الإسبانية في أزمة دستورية ويقربھا من المجھول، ويثير قلق أوروبا، نظرا لأبعاد الأزمة والمتغيرات والسيناريوھات التي ستحصل في حال الانفصال. وفي الواقع، تعيش إسبانيا راھنا مرحلة عصيبة في تاريخھا المعاصر، فالتطورات الحاصلة في كاتالونيا تنذر بعدد من المؤشرات التي قد تھدد وحدة إسبانيا بشكل خاص، والاتحاد الأوروبي نفسه بشكل عام. وھو ما دفع كثيرا من المراقبين بوصف الأزمة في إسبانيا بأنھا الأكثر إضرارا بمنطقة اليورو، وقد تكون أسوأ وقعاً حتى من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وإذا مضى القادة القوميين في إقليم كاتالونيا قدما في مشروع إنجاز الاستقلال عن المملكة الإسبانية، تصبح إسبانيا مھددة بالتفكك، لأنه قد لا يكون إقليم كاتالونيا وحده الذي سيطالب بالانفصال خلال المرحلة المقبلة، إذ يشجع ھذا الموقف كثيرا من الحركات القومية الانفصالية في إسبانيا إلى انتھاج الطريق نفسھا، وخصوصا إقليم الباسك وإقليم الأندلس.
ومن المفارقات الزمنية أن مشروع كاتالونيا الإسبانية للانفصال تحرك في العام ذاته لمشروع كردستان العراقية، وأن الاستفتاء في الإقليمين جرى في الفترة ذاتھا. ورغم أن لا شيء يجمع بين الإقليمين الإسباني والعراقي، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا ولا في العوامل المؤثرة والظروف المحيطة، وإنما يجمعھما مسار دولي ذاھب باتجاه إحياء النزعات القومية والاقلوية والانفصالية، في موازاة تفكك وانھيار الأنظمة الشمولية والتكتلات الكبرى والدول المركّبة.
ورغم الاختلاف والتباعد بين الإقليمين، يظل السؤال: ھل يصيب مشروع "الانفصال الكاتالوني" في إسبانيا ما أصاب مشروع الانفصال الكردي في العراق، وتلحق به انتكاسة مبكرة من جراء تضافر عوامل خارجية وداخلية، إن لجھة رفض دول الجوار لتعارض الانفصال الأحادي مع مصالح المجموع، أو لجھة بروز انقسامات  داخل كل إقليم بين مؤيدين ورافضين للانفصال والاستقلال: المؤيدون "متھوّرون" والرافضون "خونة"، حسب لائحة الاتھامات المتبادلة بين الطرفين. فأوروبا غير بعيدة عن المتغيرات الإقليمية التي أصابت الشرق الأوسط، ورياح العاصفة الشرق أوسطية تُنذر بربيع غربي بدأ يضرب أوروبا والنزعات الإنفصالية بدأت تلوح بالأفق، فهل سنشهد سايكس – بيكو بصنع وختم الغرب يغير حدود الخارطة الأوروبية؟ لننتظر.
المصدر: العهد