2024-03-19 01:05 م

عن أميركا وبناء الجيوش في لبنان والعراق

2017-08-12
أحمد مهنا
بعد تحرير الموصل أخيراً، طالب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، في زيارته للسعودية ولقائه ولي العهد محمد بن سلمان بحلّ «الحشد الشعبي» وحصر السلاح بيد الجيش العراقي. لطالما سمعنا هذه المقولة في لبنان أيضاً، خصوصاً في الآونة الأخيرة بعد معركة تحرير جرود عرسال التي حظي من خلالها حزب الله بشبه إجماع وطني حول دوره في مكافحة الإرهاب وحماية الوطن.

تحدثت هنا، أيضاً، «الجوقة» القديمة نفسها التابعة للأميركي، من سياسيين وإعلاميين ومثقفين ورجال أعمال عن معنى استعادة الأرض في الوقت الذي نخسر فيه الوطن. بعيداً عن هؤلاء غير المؤثرين، هذا المقال هو محاولة لفهم طبيعة العلاقة الراهنة بين الجيش الأميركي من جهة والجيشين اللبناني والعراقي من جهة أخرى، في ضوء وجود حزب الله و«الحشد» كقوتين فاعلتين في كلا البلدين.
نلاحظ أن الجيشين العراقي واللبناني يتشابهان بأن تشكيلهما هو انعكاس ونتاج للمجتمعين المتعددين طائفياً ومذهبياً. هذه المذاهب التي أصبحت مع مرور الزمن وفي سياقات وتحالفات خارجية خاصة بها، كيانات سياسية واقتصادية فريدة يتعايش بعضها مع بعض في مجتمعاتها سلماً أو حرباً.
فبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 وانتصار سوريا وحلفائها، شرع النظام السياسي القائم حينها في عملية إعادة بناء الجيش وهيكلته في سياق عقيدة واضحة تتلخّص بالعداء لإسرائيل، والعلاقة المميزة مع سوريا، ودعم المقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي. نذكر أن الجيش اللبناني في الحرب الأهلية انقسم إلى مجموعة «جيوش» أحدها بقيادة سعد حداد العميل لإسرائيل، وآخر مثلاً بقيادة سامي الخطيب واللواء السادس، ودخلوا جميعاً في دورة لا تنتهي من الاقتتال. لقد أقصت مرحلة الوجود السوري جميع المناوئين لدمشق في لبنان، وتحديداً الأطراف السياسية «المسيحية» المؤثرة، واستمرت حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. بعدها، ومع بروز نسق جديد في الحياة السياسية عنوانه الصراع بين 8 آذار (حلفاء سوريا) و14 آذار (حلفاء أميركا)، استطاع الجيش اللبناني باتباعه الحيادية ومبدأ عدم التدخل في الأحداث السياسية أن يضمن وحدته الداخلية في مواجهة هذه الانقسامات العمودية. ينطبق هذا الأمر أيضاً على دور الجيش إبّان حرب تموز 2006، الذي اقتصر على إغاثة المهجرين على الرغم من استهدافه من قبل العدو. ثم جاءت معركة مخيم نهر البارد مع تنظيم «فتح الإسلام» حيث استطاع من خلالها إبراز صورة وطنية مقبولة لدى مكونات المجتمع بأنه يستطيع صيانة الاستقرار، إلى أن عاد لدوره الحيادي إزاء الحرب المندلعة في سوريا مع انقسام لبنان إلى معسكرين: الأول مؤيد لحكومة دمشق تمثّل بتدخّل حزب الله العسكري، والثاني معارض ومساهم في عملية إسقاط الدولة.
وقد استطاع الجيش إلى الآن الحفاظ على وحدته إلى أن برزت الحركات التكفيرية على الحدود. هذا العدو يمكن أخذ المبادرة والتصدي له إذا كان هناك إجماع داخلي على اعتباره إرهابياً، لكن مثلاً، لا يستطيع الجيش المشاركة في دحر «النصرة» التي لها مؤيدون في «السياسة» و«المجتمع» في الداخل اللبناني، فيما «داعش» يراها «الجميع» إرهابية وتشكّل خطراً.
إذاً، تبقى إشكالية النظام الطائفي عاملاً سلبياً ينعكس على أداء الجيش، ويحدّ من قدرته على المبادرة... أما الشعارات والصور والأناشيد الدعائية فتبقى بعيداً عن الواقع.
في العراق، وبعد حلّ الجيش على يد بول بريمر إثر الاحتلال الأميركي عام 2003، ومع انتشار حركات المقاومة وتفجّر الصراع الطائفي، لم تستطع الولايات المتحدة عبر برامجها المتعددة بناء جيش يعاني من معضلة زميله اللبناني. تجلى ذلك بوضوح بانهياره في الموصل أمام بضعة مئات من مقاتلي «داعش» عام 2014، بعد ثلاث سنوات من خروج الأميركي من العراق. ثم جاءت فتوى المرجعية الدينية لتشكيل «الحشد الشعبي» الذي استطاع خلال 3 سنوات إنهاء معظم وجود التنظيم الارهابي، تماماً كما استطاع حزب الله تحرير الأرض عام 2000 والصمود في حرب تموز 2006، وهزيمة 14 آذار في 2008، ولاحقاً تغيير دينامية الحرب في سوريا (كما اعترف السفير الأميركي هناك روبرت فورد)، وأخيراً دحر «النصرة» من جرود عرسال.
في السياق نفسه، تشير سينثيا انلو من جامعة جورجيا في دراستها (1980) للجنود الإثنيين بعنوان «أمن الدول في المجتمعات المتعددة»، أن الجيوش المتعددة الطوائف تنشط وتعيد تدعيم الولاءات الأولية، ولا تستطيع بناء جيش موحد بالعقيدة نفسها، وهكذا لا يكون الجيشان اللبناني والعراقي استثناءً لهذا الاستنتاج.
الجيش اللبناني في مرحلة ما بعد سوريا

بداية نشير إلى تصريح قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، جوزف فوتل، في آذار 2017 أمام لجنة الاستخبارات والدفاع في الكونغرس، حين قال (عن منطقتنا) إنّ إيران وحلفاءها هم التهديد الرئيسي لمصالح الولايات المتحدة، يضاف إليها الوجود الروسي الحديث في سوريا.
علاقات أميركا مع الجيوش في المنطقة تأتي في ضوء هذه المصالح، وهي تتلخص في لبنان بتقويض نفوذ حزب الله، وضمان أمن إسرائيل، ومحاربة الحركات الإرهابية (عند الحاجة)، بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية.
في دراسة للباحث الأميركي أرام نرغيزيان من معهد CSIS حول «تحديات تطوير القوة لدى الجيش في مرحلة ما بعد الوجود السوري في لبنان»، يشير الكاتب في استعراضه للدروس المستفادة من حرب تموز وأحداث نهر البارد ثم أحداث أيار إلى ما يأتي:
ـ فيما أدى الجيش دوراً حيادياً في فترة ما بعد اغتيال الحريري، كان وقيادته واعياً أن حزب الله لم يلحظه في حساباته عندما أراد القيام بعملية خطف الجنود الإسرائيليين، بل إن ما يمكن أن يفعله أو لا يفعله الجيش لم يعنِ الحزب، بل إن خوف الجيش على وحدته مكَّن الحزب من عدم استشارته.
ــ في معركة مخيم نهر البارد، فقد أثبتت للكاتب أن الجيش قادر على التغلب على منظمات إرهابية، على الرغم من قلة الخبرة لدى وحداته، ونقص التجهيزات العسكرية واللوجستية لديه.
ـ أما أحداث أيار 2008، فأثبتت أن تطوير الجيش لم يكن بالقدر الكافي الذي يجبر حزب الله على التفكير مرتين قبل قيامه بعمل أحادي الجانب في الداخل اللبناني أو عند الحدود مع العدو الإسرائيلي أو سوريا.
يذكر الكاتب، في دراسته التي تهدف إلى البناء على الفرص المتاحة أمام الجيش وحلفائه الخارجيين لتقويته كمؤسسة محلية وكقوة استقرار في المنطقة، أنه يمتلك ميزة تجعله أكثر مقبولية من حزب الله، وهي تعدده الطائفي بعكس حزب الله الذي يمتلك هوية وبُعداً عقائدياً واضحاً. يُقدم الكاتب توصياته للإدارة الأميركية إزاء العلاقة مع الجيش، فيشير إلى أنّ أي محاولة لحثّه على مواجهة عسكرية مع حزب الله ستكون فاشلة، بحيث إن 30 في المئة من عديده هو من الطائفة الشيعية. بل يوصي الكاتب أن الحل لمواجهة حزب الله يقتضي دعم الجيش عسكرياً (تدريب وتسليح)، وتحديداً لتشكيلات القوات الخاصة (فوج مكافحة الإرهاب، المجوقل، مغاوير البر والبحر) التي تمتاز بالولاء للقيادة بالمقارنة مع الولاءات الطائفية، كما يوصي بإعادة هيكلية التراتبية العسكرية لضباط الجيش لإدخال أكبر قدر من ضباط مرحلة ما بعد الوجود السوري في لبنان. كذلك يشير إلى منح الجيش مساعدة سنوية بقيمة مليار دولار، والتغلب على البيروقراطية الإدارية في أميركا من خلال استعمال الصلاحية 1206 (هذه الصلاحية تتيح لوزارة الدفاع تدريب الجيوش الأجنبية وتسليحها لهدفين رئيسيين: مكافحة الإرهاب والمحافظة على الاستقرار، وذلك بوقت سريع من دون المرور بالقيود الإدارية البيروقراطية).
هذا كله، يجب أن يتزامن مع تهدئة عسكرية طويلة الأمد على الحدود الجنوبية مصحوبة بنجاحات يحققها الجيش في معركته مع الحركات الإرهابية، وذلك لخلق قناعة عند المجتمعات المذهبية اللبنانية بأنه القوة الوحيدة الضامنة للاستقرار والقادرة على الحفاظ على الأمن، ما يمنع حزب الله عسكرياً واعتبارياً من التحرك بمفرده.

خاتمة

إن هذه العملية المعقّدة من إعادة بناء الجيش ودعمه من الجانب الأميركي هي في خدمة مصالح واشنطن فقط. في مقابل هذا المخطط، تأتي معادلة الشعب (الفئة الوطنية منه)، والجيش (الذي تتبنى قيادته محاربة إسرائيل والإرهاب)، والمقاومة لتحرر لبنان ولتحمي سيادته. وهذا ما ينطبق على العراق أيضاً. إن الحركات أو التنظيمات الأيديولوجية في المجتمعات المتعددة تستطيع أن تقوم بدورها وتبادر بعكس الجيوش التي تتحكم بقرارها المعطيات والولاءات الطائفية المتعددة الاتجاهات.
إن حزب الله الذي تألّف من بضع مئات في ثمانينيات القرن الماضي أصبح الآن جيشاً مدرباً من عشرات الآلاف، ويؤدي دوراً محورياً في رسم المشهد الإقليمي من بيروت إلى صنعاء... وها هو في أيام يُفشل استراتيجية جوزف فوتل في لبنان. وهكذا أيضاً، سيكون لـ«الحشد الشعبي» الذي يريد مقتدى الصدر حلَّه الدور الأبرز في رسم مشهد العراق الحديث في المحور المقاوم لسياسات الطغيان والهيمنة الأميركية في منطقتنا.
* باحث لبناني
"الاخبار" اللبنانية