2024-03-29 04:58 م

الأزمة القطرية ــ السعودية: حقيقتها وتداعياتها على القضية الفلسطينية

2017-06-21
منى النابلسي
على الرغم من أن الأزمة القطرية السعودية ليست بالجديدة، فهي قديمة قدم أسبابها، وكان قد سبق لها أن بلغت حدّ القطيعة الدبلوماسية عام 2014، إلا أن عودتها إلى السطح وبهذا الزخم والتهويل الإعلامي، يجعل السؤال عن حقيقة هذه الأزمة، والدور المتوقع أن تلعبه في المنطقة هو السؤال المفتاح.

إذ تبدو هذه الأزمة وسيلة أكثر منها غاية، وخصوصاً عند متابعة تداعياتها على القضية الفلسطينية، القضية المركزية في الصراع في المنطقة، ما يجعل تناول حقيقة الدور القطري والسعودي في المنطقة أهم من تناول أسباب الأزمة. فتطور الأزمة حتى الآن يصبُّ في الدور الوظيفي لطرفي الأزمة البارزين: قطر والسعودية، فما هي حقيقة الدور القطري والسعودي؟ وما هي حقيقة الأزمة؟ وما التداعيات المتوقعة لهذه الأزمة على القضية الفلسطينية؟
خلال السنوات الثماني الأخيرة، لعبت قطر دوراً بارزاً كأداة حيوية للاستراتيجية الأميركية التي تبنتها إدارة أوباما: الفوضى الخلاقة. فقد جمعت قطر بين تناقضات من الصعب اجتماعها خارج هذا الإطار، إذ إنها دعمت الثورة في ليبيا في الوقت نفسه الذي تدعم فيه العصابات المسلحة لتحول دون وحدة البلاد واستقرارها، ودعمت «القاعدة» و«داعش» في العراق، في الوقت نفسه الذي تحتضن فيه القاعدة العسكرية الأميركية التي تشنّ الغارات على مواقع «داعش». ودعمت أيضاً «جبهة النصرة» و«القاعدة» في سوريا، في الوقت نفسه الذي تحافظ فيه على علاقات دبلوماسية واقتصادية مع إيران، ودعمت بقوة جماعة «أنصار الله» في اليمن، وفي الوقت نفسه شاركت في قوات «التحالف» ضد اليمن، واحتضنت «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في الوقت الذي تحافظ فيه على علاقات علنية دافئة مع الكيان الصهيوني منذ 1996. واحتضنت الدوحة مبادرات المصالحة، في وقت شجعت فيه «حماس» على الانقسام في كل مرة تتدخل فيها بأموالها وتنقذ الموقف في غزة، فتحول دون التقاء المصالح الفلسطينية المشتركة، وفي الوقت الذي تحاول فيه الظهور بمظهر المتمنع عن دفع الجزية للسيد الأميركي، فإنها منخرطة في مباحثات حول صفقات شراء أسلحة من الولايات المتحدة هذا العام. من هنا، فإن قطر منضوية تحت عباءة المصالح الصهيو أميركية في المنطقة، وليست جزءاً من محور المقاومة، ولا الممانعة، وهي لاعب حذق يرقص على كل الحبال، وهذا هو الإطار الذي يجب أن تبقى صورة قطر فيه حتى لا تختلط الأوراق ولا تضطرب قراءة المشهد السياسي في المنطقة.
وهذا الدور الوظيفي لا يختلف في أهدافه وتوجهاته عن الدور الوظيفي السعودي، فكلتا الدولتان لهما هدف استراتيجي عام متمثل بتحقيق المصالح الصهيو أميركية في المنطقة. ولكن تختلف السبل بينهما، ففي حين تنتهج السعودية زعيمة التيار السلفي السني سبل تقليدية مباشرة لتحقيق الأهداف، فهي تعتبر حركة «الإخوان» إرهابية، وتنشر الفكر الوهابي التكفيري، وتدعم الحركات السلفية في مناطق الربيع العربي، وينطق شيوخها بأن هذا هو «الجهاد المقدس»، وتعادي إيران صراحة في كل ميدان، وتتبنى مواقف أقل تناقضاً تجاه القضية الفلسطينية من حيث إنها تحتفظ حتى الآن بتطبيع سري مع الكيان الصهيوني، وتدعم منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين، وتكتفي بتسهيلات الحج والعمرة، وبعض المنح المتفرقة للفلسطينيين، فإن السبل التي سارت بها قطر كانت أكثر حداثة وتعقيداً. وبهذا، نجحت قطر في اللعب على التناقضات والظهور عبر قناة الجزيرة بموقف الدولة الشريفة صاحبة المبادئ التي تدعم الثورة، وتدغدغ مشاعر ملايين العرب والمسلمين في العالم العربي عبر احتضانها رموز حركة «الإخوان المسلمين»، التيار القوي وصاحب المظلومية في الوعي العربي منذ أحداث رابعة، وعملت من خلال المال عبر سنوات «الربيع العربي» على تدجين قيادات «الإخوان»، وعصر فكرهم في فتاوى أربكت الواقع العربي، وزعزعت دول «الربيع» المتهالكة، وساهمت في إطالة أمد تشرذمها وصراعاتها، فمن غير قطر تستطيع عبر أدواتها الإعلامية الضخمة خوض غمار السياسة العربية في المنطقة كمن يدير برنامج الاتجاه المعاكس: تدعم «أنصار الله» وتقاتلهم في الوقت نفسه، وتعادي إيران في سوريا والعراق وتدعي أنها تدفع ثمن علاقتها السياسية الطيبة معها. وتحتضن حركات المقاومة الفلسطينية وتضغط على حركة «حماس» لإعلان وثيقتها الجديدة قبل القمة الأميركية السعودية بأسابيع قليلة، ولها علاقات دافئة اقتصادية وسياسية مع الكيان الصهيوني. وهذا يقودنا إلى السؤال المهم: إذا كانت كل من قطر والسعودية لهما الأهداف نفسها، وتخدمان نفس السيادة الصهيو أمريكية في المنطقة، فعلامَ تختلفان؟
إنهما تختلفان على النفوذ في المنطقة. ففي المشهد الخليجي، تبدو السعودية هي الحوت سياسياً واقتصادياً، ودول الخليج أسماك تعوم على جانبيه ومن خلفه، وحدها قطر السمكة الصغيرة الحجم، تعوم عكس التيار السعودي، وتركب موجة أخرى، برغم أنها تسير في الاتجاه ذاته نحو خدمة مصالح أميركا والكيان الصهيوني، إلا أنها تريد فعل ذلك على طريقتها. لقد تعمدت قطر مدّ أيدي أخطبوطها الإعلامي الذي خلقته خصيصاً لتحريك القضايا الساخنة بأذرعه الثماني وتعكير الرؤية أمام الإنسان العربي، والعبث في ولائه، وجعله يتبنى مواقف وقضايا من الزاوية التي تظهره لها قنوات الإعلام القطري، على رأسها «الجزيرة». فقطر اليوم تستطيع حشد الرأي العام من خلال قصة مثيرة يرويها هارب من الجيش السوري عن الجوع والعذاب (!) وهذه القوة تستفز السعودية والإمارات والبحرين، ليس لأن قطر تؤمن بالحرية وهذه الدول مستبدة، لكن لأن قطر قدّمت منابرها للخارجين على هذه الدول، وفتحت لهم حدودها واحتضنتهم، وقادرة عبر إعلامها على حشد الوعي العربي بالاتجاه الذي تربد، وهذا شكل استفزازاً كبيراً للسعودية وحلفائها، كما عمدت قطر إلى مخالفة مواقف السعودية في مسألة الإخوان المسلمين، وفي علاقتها السياسية مع إيران، هذا الاستفزاز أفرز قطيعة دبلوماسية وسحب سفراء عام 2014، وانتهى بعد ستة أشهر بإغلاق قناة «الجزيرة مباشر» مصر.
إذاً، يمكن فصل القضايا التي أثارت الأزمة أخيراً إلى قسمين: قضايا تتعلق بصراع النفوذ بين قطر التي ترعى «الإخوان المسلمين»، وتمتلك السلطة على الرأي العام من خلال فضائياتها الإعلامية، وتقول للسعودية «لا»، في الاصطفاف السني لمحاربة إيران مباشرة، وبين السعودية السلفية من جهة، وقضايا أساسية تتعلق بتحقيق المصالح الصهيو أميركية في المنطقة، كقضية حركات المقاومة الفلسطينية، وأمن القاعدة العسكرية الأميركية، وتدفق الغاز إلى الكيان الصهيوني، وصفقات الأسلحة التي تدفع من خلالها الجزية للسيد الأميركي. والقراءة السريعة في المشهد القطري السعودي تظهر أن ملف حركات المقاومة الفلسطينية كان أول الملفات سقوطاً من بين يدي قطر التي أبلغت حركة «حماس» بمغادرة أراضيها منذ اليوم الثاني للأزمة انسجاماً مع رغبة دونالد ترامب، وأن الوضع مهما تأزّم فإنه لن يفضي إلى تدخل عسكري، حفاظاً على أمن القاعدة العسكرية الأميركية. وما زال الغاز يتدفق إلى الصهاينة، وتشير الأنباء إلى قرب توقيع صفقة الأسلحة بـ 22 مليار دولار بين قطر والولايات المتحدة الأميركية، وإذا أضفنا إلى هذا كله طبيعة العلاقات السياسية بين عمان وإيران، والعلاقات الطيبة بين الكويت وإيران، والعلاقات الاقتصادية المتينة بين الإمارات وإيران، نجد أن مسالة العلاقة مع إيران لا تقلق السعودية إلا لأنها تأتي من طرف يرفض الانضواء تحت عباءتها، بالإضافة إلى الصراع الدموي الذي شهدته التيارات المسلحة الممولة من قطر والسعودية في إدلب والريف السوري أخيراً، الأمر الذي يؤكد أن حقيقة الأزمة صراع نفوذ في المنطقة، وهو صراع يتجنب المساس بمصالح أميركا أو الكيان الصهيوني، وهذا يشير إلى أن القضية الفلسطينية ستكون الخاسر الأكبر في هذه الأزمة. فما تداعيات هذه الأزمة على تلك القضية؟
برغم أن من الصعب تبرئة قطر من دورها في غسل أدمغة الإسلاميين، ومن بينهم حركة «حماس» في غزة، إلا أن المقال سيركز على القضايا الأكثر وضوحاً، كإغراء قطر لحركة «حماس» بمغادرة سوريا مع بداية الأزمة السورية، وفتح أبوابها لها، مانحة إياها الأمان الوهميّ المطلوب، لتمارس من خلاله ضغوطها الناعمة عليها، وعزف قطر من خلال المال السياسي الذي منحته لحركة «حماس» المرة تلو المرة على وتر السيادة والزعامة، ولعبها دور طوق النجاة الذي مكّن غزة من البقاء خارج الكل الفلسطيني طوال سنوات الانقسام العشر. وفي كل مرة، كانت قطر تنقذ إدارة «حماس» كانت تجعل المصالحة الفلسطينية أبعد، والشرخ بين غزة والضفة أكبر، وبعدما تمكنت «حماس» حقيقة من أن تكون (دولة) مستقلة في غزة، فهي تسيطر على الداخلية والقضاء والحكم، وشكّلت اللجنة الإدارية أخيراً لتسيير أمور الناس خارج إطار الحكومة الفلسطينية، فإنها دخلت فعلياً مرحلة اللاعودة إلى الحضن الفلسطيني، وهذا هو المطلوب لتنفيذ التصفية النهائية للقضية الفلسطينية كما يريد لها ترامب، الذي لم يعد إلى ذكر حلّ الدولتين، ويروّج لفكرة الحل الإقليمي، الذي لا يكون للفلسطينيين فيه دور يذكر.
لقد كانت خطورة الانقسام الذي ظهر لنا طوال الوقت على أنه موقف مشرّف للمقاومة الفلسطينية الرافضة لنهج أوسلو، في أنه أفضى أخيراً إلى وثيقة حماس الجديدة، والتي مهما استخدمت اللغة في تمويه النص، إلا أنها شكّلت قبولاً حمساوياً بفكرة الدولة الفلسطينية المجزوءة، وهذا تمهيد لاستخدام الذرائع التي يقدمها تعنّت الرئاسة الفلسطينية تجاه غزة، وتهديدها بالتضييق عليها في قضايا حيوية كالرواتب والكهرباء. وها هو الخليج العربي برغم صراعاته وأزماته يسارع مرة أخرى إلى احتواء حركة المقاومة قبل أن تصل محور المقاومة والممانعة. ففي حين أعلن العاروري أنه سيتوجه إلى لبنان ليكون قريباً من الحدود الفلسطينية، وأعلن هنية أنه سيزور طهران، فإن السعودية تلكأت في إدراج أسماء شخصيات من «حماس» في قائمة الإرهابيين الذين تريد من قطر طردهم من أراضيها لحلّ الأزمة القطرية السعودية، وهذا ضمن المصالح الصهيو أميركية التي أرادت للقاء دحلان بالسنوار أن يتم في مصر، والذي تمخّض عن اتفاق من المتوقع أن يُعلن عنه خلال الأيام القليلة القادمة، والذي بموجبه ستعلن «حماس» استغناءها عن العودة إلى الحضن الفلسطيني. وبموجب هذا الاتفاق ستمنح دحلان حقيبة الخارجية والعلاقات الدبلوماسية، وستشاركه في إدارة ملف معبر رفح، وتمنحه إدارة ملفات المعابر البرية مع الكيان، وقد وعدها دحلان القادم من الإمارات بالمقابل بتسوية الأمور المالية، ووعدتها مصر السيسي بحل أزمة الكهرباء جذرياً كرمى لدحلان العزيز!
هذا التوافق السعودي ــ القطري ــ الإماراتي على احتواء الملفات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، يؤكد أنهم مهما اختلفوا في الخليج، فإنهم متفقون على خدمة الكيان العبري وأمه أميركا. وهذا التسابق في مدّ أطواق النجاة المثقوبة الواحد تلو الآخر لحركات المقاومة التي وجدت نفسها فجأة بلا سندها القطري بعدما لم يعد بمقدورها العودة إلى وضعها السابق كحركة تحرر بعد عشر سنوات من الحكم الفعلي، سيجعل مشروع دولة غزة ممكناً، وسيجعل تصفية القضية الفلسطينية مسألة وقت. وستكون هذه التصفية إحدى «بركات» الأزمة القطرية التي من المتوقع لها أن تنتهي دبلوماسياً بعد أن تستنفد أهدافها، ويصبح الهدوء في المنطقة مصلحة صهيو أميركية من جديد.
الكرة الآن في الملعب الفلسطيني بين محمود عباس و«حماس»، وما زال من الممكن تجاوز المخططات، إن صدق الحرص على المصلحة الوطنية، وتقديمها في مصلحة الحزب الضيقة.
* كاتبة وروائية فلسطينية