2024-03-29 06:45 م

سياسة قطر الخارجية وموازين القوى في الخليج

2014-09-13
لينا الخطيب
ترغب قطر، التي كانت لفترة طويلة لاعباً إقليمياً صغيراً في ظل المملكة العربية السعودية، في زيادة نفوذها. غير أن سياسة الدوحة الخارجية التوسّعية ابتليت بالحسابات المخطئة والتحدّيات المحلّية والضغوط الدولية، وهي كلها قضايا تتصّل بعلاقة الدوحة مع الرياض. ونتيجة لهذه النكسات، تضاءل دور قطر الإقليمي، وفي المستقبل المنظور، من المرجّح أن يبقى نفوذها الخارجي خاضعاً إلى توجيه المملكة العربية السعودية. 

أخطاء قطر في التقدير الاستراتيجي 

أثارت رغبة قطر في رسم مسار مستقلّ مواجهةً بينها وبين المملكة العربية السعودية، ولاسيما في السياسات إزاء مصر وسورية. وقد أضرّ ذلك بالقدرة الخارجية لهذين البلدين الخليجيين، وزاد من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. 
 
في البلدان التي تمرّ في تحوّلات ديمقراطية، دعمت قطر في البداية جماعة الإخوان المسلمين. إذ ترتبط الدوحة منذ فترة طويلة بعلاقات إيديولوجية مع جماعة الإخوان، وكانت تعتقد أن من المرجح أن تهيمن الجماعة على المشهد السياسي الجديد في البلدان التي تمرّ في فترة تحوّل.
 
عندما أُطيحَت حكومة الإخوان في مصر في تموز/يوليو 2013، دعمت المملكة العربية السعودية زعيم الانقلاب والرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي. استمرت قطر في دعم الإخوان، مادفع الرياض إلى زيادة الضغط على الدوحة لتغيير مسارها.
 
سعت كل من قطر والمملكة العربية السعودية إلى كسب النفوذ في سورية من خلال دعم جماعات متنافسة في الغالب، بما في ذلك الجهاديين. وقد أدّى ذلك إلى قسمة المعارضة السورية وتمكين الجماعات الجهادية التي تهدّد الاستقرار الإقليمي.
 
يركّز الأمير تميم بن حمد آل ثاني، الذي يواجه تحدّيات داخلية من المؤسّسة الدينية والمثقفين والقبائل المحلية في قطر، على الشؤون الداخلية على حساب أنشطة السياسة الخارجية.
توصيات إلى قطر والسعودية 

أعطوا الأولوية للتعاون الاستراتيجي. يجب أن تتعلّم الرياض والدوحة من أخطائهما وتتجاوزا مرحلة التنافس السياسي. إذ سيكون تعاونهما الاستراتيجي مهماً للحفاظ على ريادتهما السياسية.
إدعموا التوصّل إلى تسوية بين الحكومة المصرية وبين جماعة الإخوان. فقد أدّت حملة القمع التي شنّتها الحكومة على الإخوان بعد إبعاد الجماعة عن السلطة، إلى ظهور خلايا جهادية في جميع أنحاء مصر، وهذا ليس في مصلحة أمن قطر أو المملكة العربية السعودية.

تعاونوا من أجل توحيد وتمكين المعارضة السورية. يجب أن تعمل المملكة العربية السعودية وقطر مع الولايات المتحدة وتركيا لمساعدة الجبهتين الجنوبية والشمالية في سورية على التنسيق على المستوى الاستراتيجي.

نسّقوا جهود مكافحة الإرهاب عن كثب. يوفّر التقدّم الذي تحرزه الدولة الإسلامية المتشدّدة في كل من العراق وسورية فرصة للرياض والدوحة للعمل معاً بغية تحقيق الاستقرار في المنطقة.

عزّزوا مؤسّسات الدولة القطرية. ينبغي على الأمير تميم، قبل أن يسعى إلى الاضطلاع بدورٍ سياسي دولي أكثر أهمية، معالجة شواغل القطريين بشأن المسار الذي تتجّه إليه البلاد وكيف يمكن لسياساتها في المجالين السياسي والاقتصادي أن تفيد المواطنين.

مقدمة 

انتهجت قطر منذ فترة طويلة سياسة خارجية توسعية وبراغماتية في آن. وفي سياق سعيها إلى الحصول على دور إقليمي أكبر، راهنت هذه الدولة الخليجية الصغيرة على ذوي النفوذ، وعلى مجاراة التيارات السياسية والانخراط مع جهات فاعلة متعدّدة، حتى المتقلّبة منها مثل الجماعات الجهادية.1  أما أنشطتها على صعيد السياسة الخارجية فقد تطوّرت من التركيز على الوساطة بين الأطراف المتنازعة، إلى تمويل وتدريب المجموعات العسكرية بصورة مباشرة.2  لكن منذ بداية الانتفاضات العربية في العام 2011، 3 ابتليت السياسة الخارجية القطرية بالحسابات المخطئة والتحدّيات المحلّية والضغط الدولي، والتي ترتبط جميعها، إلى درجة كبيرة، بعلاقة قطر مع منافستها الإقليمية الرئيسة، المملكة العربية السعودية.4  ونتيجة لذلك، دخل دور قطر الإقليمي مرحلة من الانحسار.

بلغت التحدّيات التي تواجه قطر ذروتها في العام 2014، بسبب عاملين اثنين، على وجه العموم، تمثّلا بتورّطها في سورية ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين في مصر.5  في سورية، حاولت الدوحة إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، لكنها لم تنجح حتى الآن. لم تفشل الجماعات الجهادية المدعومة من قطر، أي جبهة النصرة،6  في ترجيح كفّة ميزان القوى ضد النظام وحسب، بل أصبحت الولايات المتحدة ودول الخليج تعتبر هذه الجماعات أيضاً مصدراً محتملاً لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. أما في مصر، فقد شدّدت الحكومة المدعومة من الجيش، والتي تولّت الحكم عقب الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، قبضتها على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين حليف قطر الرئيس في مصر،7  وحكمت على المئات منهم بالسجن. وتبعتها دول الخليج في آذار/مارس 2014 بالإعراب عن قلقها من جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تشكّل تهديداً للاستقرار في المنطقة، وحمّلت قطر المسؤولية عن مساعدة الإخوان.8 

في كلا الحالتين، ارتبطت قرارات وتداعيات السياسة الخارجية القطرية بشدّة بتنافسها القديم مع المملكة العربية السعودية حول حجم النفوذ الإقليمي للبلدين الخليجيين. فقد كانت الدوحة منذ فترة طويلة لاعباً إقليمياً ثانوياً في ظل الرياض. وقد أفضت رغبتها في زيادة نفوذها السياسي إلى حدوث مواجهة مع المملكة حول ملفَّي سورية ومصر. كان الخلاف بشأن مصر حادّاً بصورة خاصة، ذلك أن المملكة العربية السعودية تعتبر جماعة الإخوان المسلمين، أحد حلفاء قطر الرئيسين، واحداً من أكبر التهديدات السياسية التي تواجهها.

اقترنت المواجهة مع السعودية بعدد من التحدّيات الداخلية في قطر. وأثارت هذه التحدّيات مخاوف بشأن الاستقرار الداخلي في هذه الدولة، وكذلك بشأن مكانتها في منطقة الخليج، ما أدّى إلى وقف مؤقّت على الأقلّ لأنشطة الدوحة التوسّعية، وإعادة تركيز اهتمام الأمير على الشأن الداخلي.

نتيجة لتلك الضغوط الخارجية والداخلية في قطر، تمكّنت المملكة العربية السعودية من إعادة الدوحة إلى فلكها. لكن على الرغم من أن ذلك يشكّل خسارة لطموحات قطر الإقليمية، إلا أنه لايعتبر مكسباً للمملكة العربية السعودية. فالتنافس السعودي-القطري أضرّ بحجم القوة الخارجية لدول الخليج وزاد من مستويات عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. واستشرافاً للمستقبل، ستكون إرادة قطر وقدرتها على التغلّب على التنافس مع السعودية عند التصدّي للتحدّيات المشتركة جوهرية بالنسبة إلى نفوذها الإقليمي. وبالتالي، يتطلّب ذلك إعادة النظر في العوامل التي أدّت إلى تضاؤل استقلالية السياسة الخارجية القطرية.

جماعة الإخوان المسلمين: فرصة ضائعة لقطر 

رأت قطر في الانتفاضات العربية التي اندلعت في العام 2011 فرصة سياسية لفرض نفسها كلاعب إقليمي. بيد أن مسار الربيع العربي شكّل اختباراً لبراغماتيتها. ويعود السبب في ذلك، جزئياً، إلى علاقاتها الإيديولوجية مع جماعة الإخوان المسلمين، التي ظنّت الدوحة أن من شأنها أن تضمن ولاء حليفتها الإسلامية هذه. ولذا ألقت قطر بثقلها وراء جماعة الإخوان في البلدان التي تشهد تحوّلات، أي مصر وتونس واليمن وليبيا.

نشأ دعم الدوحة لجماعة الإخوان أيضاً من توجّه قطر البراغماتي في اختيار ذوي النفوذ، حيث تحالفت مع الأطراف الفاعلة التي اعتقدت أنها ستنتصر سياسياً أو عسكرياً في مختلف البلدان. رغبة قطر في أن تكون طرفاً معنياً وصاحب مصلحة في الحكومات الجديدة في البلدان التي تمرّ في مرحلة تحوّل، دفعتها إلى أن تدعم الجماعة التي كانت تتصوّر أنها تملك أفضل فرصة للوصول إلى السلطة مالياً وسياسياً، وبالتالي لحماية مصالح قطر. عقب اندلاع الربيع العربي مباشرة، بدا أن جماعة الإخوان المسلمين هي الكيان السياسي الأكثر احتمالاً لتحقيق النجاح في أول انتخابات ديمقراطية في البلدان التي تشهد تحوّلاً، لأنها كانت الجماعة الأكثر تنظيماً بين الحركات السياسية الكثيرة التي ظهرت في تلك الدول.

ومع ذلك، لم تنجح الفرص التي أتيحت لجماعة الإخوان التي أثبتت أنها تعاني من أوجه قصور خطيرة في العديد من البلدان.

لم تَفُز جماعة الإخوان بأغلبية المقاعد في البرلمان في الانتخابات الليبية. وعندما انزلقت ليبيا إلى دورة من العنف بين العديد من الجماعات المسلحة، أكّدت التحدّيات الأمنية المتصاعدة في البلاد أنه ما من كيان سياسي يمكنه الإمساك بزمام السلطة في البلاد بمفرده، بما في ذلك الإسلاميون المرتبطون بجماعة الإخوان.

في اليمن، حصلت جماعة الإخوان على مناصب حكومية رئيسة. بيد أنها فشلت في الحفاظ على علاقاتها مع شركائها السياسيين بعد مبادرة مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية التي نقلت السلطة من الرئيس آنذاك علي عبد الله صالح إلى نائبه، وبالتالي أنهت الانتفاضة وأبقت على الإشراف السعودي على البلاد.9 

تمكّنت جماعة الإخوان المسلمين من الحصول على أغلبية المقاعد في البرلمانَين المصري والتونسي، غير أن نفوذها السياسي في هذين البلدين تراجع بسرعة. ففي تونس، أسفرت محاولات "النهضة"، الحزب السياسي الرائد المرتبط بجماعة الإخوان، للهيمنة على المناصب الحكومية الرئيسة عن نتائج عكسية، حيث دفعته المعارضة العلمانية إلى قبول تسوية سياسية. وفي مصر، كان انتخاب محمد مرسي، المدعوم من جماعة الإخوان، رئيساً للبلاد في العام 2012 مؤشراً على بداية عام من محاولات جماعة الإخوان لاحتكار السلطة. وقد أغضبت جهودها الجيش المصري والنشطاء العلمانيين الذين بدأوا سلسلة من الاحتجاجات ضد مرسي والجماعة.

استمرت قطر في دعم جماعة الإخوان المسلمين بغضّ النظر عن هذه الأخطاء السياسية التي رأت المملكة العربية السعودية أنها تتجاوز الحدود المقبولة. فدعم دولة قطر غير المشروط على مايبدو للجماعة، خاصة في مصر، حدا بالسعودية إلى القيام بعدد من الإجراءات العقابية التي جرى إظهارها على أنها تحذيرات حول دور الدوحة كعنصر عدم استقرار في منطقة الخليج. ولذا دعمت الرياض وموَّلت الانقلاب الشعبي المدعوم من الجيش على مرسي،10  والذي أقصى جماعة الإخوان المسلمين من السلطة. كما ضغطت الرياض على حاكم قطر آنذاك، الأمير حمد بن خليفة آل ثاني، للتنازل عن الحكم لابنه الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قبل تنفيذ الانقلاب. (فقد كان تسليم السلطة بعد الانقلاب سيضعف صورة قطر ومكانة الأمير الجديد، الأمر الذي خشيت المملكة العربية السعودية من أن يعرّض الخليج إلى مزيد من عدم الاستقرار).11 

تصاعد الضغط السعودي ليصل إلى مستويات غير مسبوقة في آذار/مارس 2014، عندما بادرت المملكة مع اثنتين من دول الخليج الأخرى، هما البحرين والإمارات العربية المتحدة، إلى سحب سفرائها من الدوحة، ماتسبّب في إحراج علني لدولة قطر.12  كما صنّفت الحكومة السعودية جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية ودعت الدول الأوروبية إلى أن تحذو حذوها. وفي آب/أغسطس 2014، بعد سيطرة الكتائب الإسلامية المدعومة من قطر على مطار طرابلس في ليبيا، نفّذت دولة الإمارات ضربات جوية ضد تلك الميليشيات.13  وفي الوقت نفسه، أرسلت السعودية وفداً إلى قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة في محاولة لتسوية التوتّرات ودفع الدوحة إلى قبول "العمل المشترك" في منطقة الخليج.14 

تسبّب دعم قطر الثابت لجماعة الإخوان المسلمين ببعض الضرر لعلاقاتها مع الولايات المتحدة أيضاً. فحين فاز الإخوان بأغلبية المقاعد البرلمانية ومن ثم الرئاسة في مصر، قدمت قطر نفسها للولايات المتحدة كوسيط مع الجماعة. وقد ساعدت تطمينات الدوحة، بصورة جزئية، في ضمان أن تُظهِر واشنطن نوعاً من "الصبر" تجاه تجاوزات قيادة الإخوان السياسية والحقوقية، مثل مرسوم مرسي الرئاسي الذي صدر في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، والذي منحه سلطة شبه مطلقة. وقد أكدت قطر للولايات المتحدة ثقتها بأن الوضع في مصر يمكن أن يكون تحت السيطرة، ونصحت واشنطن بالانتظار وتجنّب ممارسة الضغوط الدبلوماسية على القيادة المصرية.15  وعندما أُقصي الإخوان من السلطة، اتّضح أن هذه التطمينات لم تكن في محلّها، وخسرت قطر بعض نفوذها لدى الولايات المتحدة.

نتيجة لهذه الخسارة أصبحت قطر في موضع التابع للمملكة العربية السعودية. فبعد انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر في أيار/مايو 2014 بدعم من المملكة العربية السعودية، أعلنت قطر دعمها للنظام المصري الجديد بسبب الضغوط السعودية والأميركية التي مورست عليها للقيام بذلك، وبسبب براغماتيتها ورغبتها في إنقاذ موقفها الإقليمي. ولكن على عكس السعودية، لم تُقدِّم قطر دعماً مالياً لإدارة السيسي.

كان للتصرّف السعودي تأثير مقيّد على النفوذ الإقليمي لقطر. إذ تضيّق الحكومة المصرية الحالية المدعومة من السعودية الخناق على جماعة الإخوان المسلمين، ولاتتيح للإخوان الفرصة لاستعادة السلطة في مصر في المستقبل المنظور. هذا يعني أنه لايمكن لقطر استعادة نفوذها في مصر في المدى المتوسط لأن مصر أصبحت الآن تحت رعاية السعودية. وقد استجابت الدوحة إلى ضغوط الرياض عبر تخفيف علاقتها مع جماعة الإخوان، ومواصلة تمويل التنظيم في مصر وليبيا وسورية وتونس ولكن بوتيرة أقلّ من ذي قبل .16

المفاوضات التي جرت في القاهرة في صيف العام 2014 بشأن الأزمة بين إسرائيل وحماس، توضح بجلاء هذه الديناميكية الجديدة. فقد اختارت المملكة العربية السعودية أن تضطلع بدور ثانوي بعد مصر في المفاوضات التي تهدف إلى التوسّط في وقف إطلاق النار في الصراع، حيث اقتصر دورها على إعلان دعمها استضافة القاهرة للمحادثات غير المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أما قطر، التي كانت تفتخر تقليدياً بتأدية دور قيادي كوسيط في الصراعات المختلفة في الشرق الأوسط، فقد دعتها السعودية إلى لعب دور ثانوي كمحاور مع حركة حماس.

يمثّل إسناد السعودية هذا الدور إلى قطر استجابة ضمنيّة لعلاقة الدوحة المستمرة مع حماس، والتي تشكّل جزءاً من ارتباطها الأوسع على المدى الطويل مع جماعة الإخوان المسلمين. ومن المرجّح لهذه العلاقة أن تستمر، خصوصاً أن قطر بارعة في استخدام عملية إعادة الإعمار التي تعقب الصراعات كأداة في مجال الدبلوماسية العامة، وستكون حريصة على المساهمة في إعادة إعمار غزة، كما فعلت في أعقاب المواجهة التي وقعت بين إسرائيل وحماس في العام 2012. 17 وفي الوقت نفسه، تسعى المملكة العربية السعودية إلى إعادة تعريف العلاقة بين حماس وقطر، بحيث تصبح قناة مفيدة لتنفيذ السياسة السعودية. كما أن دعم المملكة لمبادرة وقف إطلاق النار التي قدمها حليفها السيسي، يشكّل بدوره محاولة لتمكين النظام المصري الجديد وتشجيعه، وهو ما من شأنه أن يزيد الضغط على جماعة الإخوان المسلمين وحليفيها حماس وقطر، مايجعل هذه الأطراف الثلاثة تلعب دوراً ثانوياً بالنسبة إلى الرياض.18 

في جميع البلدان التي تمر في مرحلة انتقالية، والتي راهنت فيها الدوحة على جماعة الإخوان المسلمين، كانت محاولات قطر لاختيار النافذين قصيرة النظر تماماً. فقد تراجعت جماعة الإخوان تقريباً بالسرعة نفسها التي برزت فيها على الساحة. الرهان على اللاعب الخطأ، ومن ثم التمسّك بالإخوان، أضعفا مكانة قطر السياسية في الشرق الأوسط ككل، وكذلك أمام المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة على وجه الخصوص.

سورية: سوء تقدير قطري آخر

أثبتت سورية أيضاً أنها تمثّل نوعاً من سوء التقدير بالنسبة إلى الدوحة. فقد كانت هذه الأخيرة معنيّة في البداية بالقضايا المتعلّقة بسورية من خلال السير على خطى المملكة العربية السعودية. بيد أن المملكة غيّرت موقفها من التقارب مع الرئيس السوري بشار الأسد، واستبدلته بالسعي إلى إسقاط النظام في صيف العام 2011، بعد أشهر قليلة من بداية الثورة السورية، الأمر الذي أدّى إلى تخلّي قطر أيضاً عن محاولتها تسوية خلافاتها مع الأسد. غير أن الدوحة سارعت إلى البحث عن مسار مستقلّ بشأن هذه المسألة.19 

على غرار المملكة العربية السعودية، راهنت قطر على استبدال نظام الأسد بمعارضة من شأنها أن تتعاطف مع مصالحها الخاصة، وسعى كل بلد إلى رعاية مجموعته الخاصة من الحلفاء السوريين لضمان حدوث ذلك. وفي حين كان هناك نوع من التنسيق بين دول الخليج بشأن الملف السوري، كانت الغلبة للتنافس في نهاية المطاف، الأمر الذي كانت له عواقب سلبية على الثورة السورية. والواقع أن ذلك التنافس أدّى إلى اتّساع رقعة الخلافات السياسية بين أطياف المعارضة.

منذ بداية الانتفاضة ضد نظام الأسد، كانت المعارضة السورية تتشكّل من مجموعات متنافسة مختلفة. وانطلاقاً من الرغبة في تعزيز دورها كوسيط وضمان وجود حليف لها في النظام السياسي السوري بعد الأسد، استضافت قطر في آب/أغسطس 2011 اجتماع تأسيس المجلس الوطني السوري، وهو كتلة جامعة تضم أطياف المعارضة. وكما فعلت في بلدان أخرى تمرّ في مرحلة انتقالية، اختارت قطر دعم جماعة الإخوان المسلمين السورية كعضو أساسي في المجلس الوطني السوري. وقد ثبت أن هذا كان سوء تقدير آخر من جانبها.

لم تظهر قطر فهماً كافياً للديناميكيات الاجتماعية السورية، عبر اختيارها دعم جماعة الإخوان المسلمين السورية في سعيها من أجل الوصول إلى السلطة. ففي سورية، وخلافاً للوضع في مصر، كانت جماعة الإخوان ضعيفة نسبياً على الأرض قبل انتفاضة العام 2011. أما في مصر، فكانت جماعة الإخوان تحظى بتأييد شعبي كبير، وهذا يعود جزئياً إلى أنها عملت على مدى عقود على توفير الخدمات الاجتماعية، في ظل غياب نظام خدمات الدولة في المناطق الفقيرة. هذا الأمر لم ينطبق على سورية، حيث لم يكن لجماعة الإخوان تأثير يذكر في جميع أنحاء البلاد، وكانت تحظى بقدر محدود من التأييد في أوساط السكان قبل الانتفاضة ضد الأسد. كانت جماعة الإخوان السورية ضعيفة أيضاً لأن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد شنّ حملة صارمة ضد الجماعة في ثمانينيات القرن الماضي، وهي الحملة التي بلغت ذروتها في مذبحة العام 1982 في حماة، التي قُتِل فيها الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان وأنصارها.20 

واصلت قطر مساعيها لتوحيد المعارضة السورية، في الوقت الذي سعت إلى أن يكون لها تأثير عليها، الأمر الذي حدا بها فيما بعد إلى دعم واستضافة تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في العام 2013، والذي أصبح المجلس الوطني السوري عضواً فيه. وبالتالي، توضح حالة الائتلاف الوطني علاقةَ قطر المتقلّبة مع المملكة العربية السعودية، وتبيّن أن معالم التنافس بين الدولتين ليست محدّدة ولا واضحة.

تعاونت قطر مع السعودية في البداية في مسألة تأسيس الائتلاف، حيث استضافت الدوحة المؤتمر الافتتاحي للائتلاف. لكن بعد فترة وجيزة من تأسيس الائتلاف، سعت المملكة العربية السعودية إلى تأمين قدر أكبر من السيطرة عليه. وهي حققت هذا الهدف بعد انتخاب أحمد الجربا، الذي يُعتبَر مؤيّداً بارزاً للسعودية، رئيساً للائتلاف الوطني. وفي حزيران/يونيو 2014 استُبدِل الجربا بهادي البحرة، وهو الآخر مؤيّد للسعودية.

مع ذلك، لم يكن التأثير السعودي على الائتلاف شاملاً قطّ، حيث إن لمختلف أعضاء الائتلاف جهات أجنبية راعية متباينة، بعضها موالٍ للسعودية فيما جهات أخرى موالية لقطر. وقد أفضى هذا الاستقطاب إلى تخلخل الثقة داخل الائتلاف الوطني نفسه، ما أدّى إلى حدوث احتكاك داخلي ضمن القيادة العليا. وهذا بدوره دفع بعض أعضاء الائتلاف إلى السعي إلى تنفيذ أجنداتهم الفردية في سورية خارج نطاق الائتلاف.21  ولم يؤدِّ ذلك سوى إلى تقليص فعّالية الائتلاف الوطني وصدقيّته في نظر كثير من السوريين على الأرض.

في الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر جنيف 2، في شباط/فبراير 2014، والذي كان من المفترض أن يدفع باتجاه إيجاد حلّ للصراع السوري، انسحبت جماعة الإخوان المسلمين السورية من المجلس الوطني السوري لأنها لم تكن موافقة على مشاركة المجلس في المؤتمر تحت مظلة الائتلاف الوطني. وبانسحابها كانت جماعة الإخوان تعبّر أيضاً عن موقف مناهض للمملكة العربية السعودية، التي كانت الطرف الفاعل الرئيس الذي يدفع الائتلاف الوطني إلى المشاركة في المحادثات. ومع أن بعض أعضاء جماعة الإخوان عادوا في نهاية المطاف إلى المجلس الوطني السوري، منذ مؤتمر جنيف 2، شهدت جماعة الإخوان المسلمين السورية تراجعَ دورها السياسي بسبب التوتّرات داخل الجماعة، ولاسيما بين القيادة وشباب الإخوان الذين يشعرون بالإحباط ويتوقون إلى شقّ طريقهم بأنفسهم.22  وقد أدّى ذلك إلى إضعاف قدرة قطر على التأثير على التطورات في سورية.

عانى الائتلاف الوطني أيضاً من التنافس داخل المملكة العربية السعودية الناجم عن الرؤى المتنافسة بين الأمراء بشأن ملف سورية. فقد اتّخذ الأمير بندر بن سلطان، رئيس جهاز المخابرات السعودية السابق، موقفاً متشدّداً تجاه الصراع السوري، معتبراً أن دعم الجهاديين سيكون أفضل وسيلة لإسقاط نظام الأسد. هذا في حين ركّز وزير الخارجية سعود الفيصل بصورة أكبر على إنشاء بديل سياسي للأسد، ما أدّى إلى تأسيس الائتلاف الوطني. بعد انتخاب الجربا، الذي يُعتبَر موالياً لمعسكر سعود الفيصل، رئيساً للائتلاف الوطني، أسّس الأمير بندر الجبهة الإسلامية في سورية، وهي كتلة جامعة تضم مختلف جماعات المعارضة الإسلامية في سورية. كان هدف الأمير بندر أن تصبح الجبهة الإسلامية بديلاً للائتلاف الوطني.

على الرغم من تحفّظات قطر على الائتلاف الوطني بعد أن تعاونت في البداية على تأسيسه لتستولي عليه الرياض، لم ترغب الدوحة في نهاية الأمر، ببراغماتيها المعهودة، في أن تفشل تلك الهيئة الجامعة. فقد رأت قطر في الائتلاف الوطني أفضل رهان للمعارضة للحصول على اعتراف دولي. واعتقدت الدوحة أنه سيكون من مصلحتها على المدى الطويل البقاء على علاقة جيدة مع الائتلاف الوطني، على الأقل طالما استمر في حشد الدعم الدولي. ولذا أرسلت وزير خارجيتها إلى تركيا لإجراء محادثات مع قادة الجبهة الإسلامية لإقناعهم بعدم الاعتراض على الائتلاف الوطني. في هذه الحالة، اعتقدت قطر أنه ما من طرف فاعل دولي سيدعم الجبهة الإسلامية لأنها تؤوي جماعات إسلامية متطرّفة.23 

ومع ذلك، ضعف الائتلاف الوطني بسبب عوامل عدّة. إذ كان أعضاء المعارضة يفتقرون إلى النضج السياسي، ولم تكن لديهم استراتيجية عسكرية قابلة للتطبيق. كما أن قوة النظام السوري وجيشه تفوق كثيراً قدرات المعارضة، ويفتقر الائتلاف إلى الصدقية بين السوريين داخل سورية. يضاف إلى ذلك أن الدعم الدولي للمعارضة السورية ليس كافياً. ولعب التنافس السعودي-القطري أيضاً دوراً في إضعاف الائتلاف الوطني. وكشف الضعف السياسي للائتلاف الوطني أوجه القصور في السياستين الخارجية السعودية والقطرية، وكذلك ضعف كلمتهما في المجتمع الدولي. 

ثمة كيان معارض آخر عانى من التنافس السعودي-القطري هو الجيش السوري الحر. فقد استضافت الدوحة قيادة الجيش السوري الحر، الذي يتألف من الجنود والضباط الذين انشقّوا عن جيش الدولة السورية، وأصبح الذراع العسكرية للائتلاف الوطني عقب تأسيس الأخير. ومع ذلك، حاولت المملكة العربية السعودية باستمرار ممارسة نفوذ أكبر على الجيش السوري الحر، كما يتّضح من عملية تغيير قيادة الجيش الحر التي جرت في شباط/فبراير 2014، والتي تم فيها استبدال القائد المؤيد لقطر (سليم إدريس) بأحد الموالين للسعودية (عبد الإله البشير). رتّب قادة الائتلاف الوطني الموالين للسعودية عملية التغيير في قيادة الجيش السوري الحر، والتي شكّلت محاولة لتوسيع دعم الائتلاف الوطني وزيادة شرعيته داخل سورية. كان من المفترض أن يجذب البشير المقاتلين الموجودين على الأرض في سورية لأنه من الخلفية نفسها، إذ قاتل مع الجيش السوري الحر داخل سورية. في نهاية المطاف، لم يسهم تغيير القيادة سوى في جعل الائتلاف الوطني والجيش السوري الحر يبدوان وكأنهما دمية في يد قطر والمملكة العربية السعودية.

لم تتوقف مشاكل الجيش السوري الحر عند هذا الحدّ. فلا قطر ولا السعودية تمتلكان القدرة على تقديم ما هو أكثر من الدعم المادي والمعنوي للجيش السوري الحر. وإلى جانب الافتقار إلى الدعم الكافي من المجتمع الدولي الأوسع، تكبّد الجيش السوري الحر خسائر كبيرة في معاركه مع النظام السوري ومع الدولة الإسلامية (حتى حزيران/يونيو 2014 ظلّت تُعرَف باسم الدولة الإسلامية في العراق والشام).24  وبالتالي لم تسفر الأموال، في ظل عدم وجود استراتيجية، عن نتائج عسكرية في الصراع السوري، الأمر الذي أضرّ أكثر، إلى جانب عدم وجود نتائج سياسية، بصدقية قطر والمملكة العربية السعودية. إضافة إلى ذلك، اقتصر نطاق نفوذ الجيش السوري الحر إلى حدّ كبير على الجبهة الجنوبية التي تدعمها المملكة العربية السعودية. فحتى وقت قريب، لم تكن الجبهة الجنوبية تقوم بأي تنسيق تقريباً مع الجبهة الشمالية التي تدعمها قطر وتركيا، الأمر الذي ساهم في إضعاف المعارضة في مواجهة النظام السوري المركزي.

رعت كل دولة خليجية شبكتها الخاصة من الزبائن الجهاديين في سورية، في محاولة منها لممارسة ضغط عسكري على نظام الأسد. تزعّم الأمير السعودي بندر على وجه الخصوص عملية تمويل عدد من الجماعات، مثل جيش الإسلام، والتي انضوى الكثير منها في وقت لاحق تحت مظلة الجبهة الإسلامية.25  وفي الوقت نفسه، وجدت مجموعات مدعومة من قطر تابعة لتنظيم القاعدة، مثل جبهة النصرة، ملاذاً لها في سورية. بيد أن استخدام الجهاديين بدأ يأتي بنتائج عكسية. فبدلاً من تركيز جهودها على النظام السوري انخرطت الجماعات الجهادية المدعومة من قطر والسعودية في جبهتين أخريين: محاربة الدولة الإسلامية ومحاربة بعضها البعض.26 

ولعل ماعقّد الأمور أكثر هو أن اللاعبين غير الحكوميين في قطر والمملكة العربية السعودية، وبعضهم أمراء طامعون في السلطة، عمدوا إلى تمويل جماعاتهم المسلحة الخاصة في سورية، حتى لو لم تكن تلك الجماعات تتصرّف بما يتماشى مع السياسات الخارجية القطرية أو السعودية. فقد تلقّت الدولة الإسلامية نفسها تمويلاً غير حكومي من دول الخليج وسواها، على الرغم من أنها لاتعتمد على هذا التمويل كمصدر أساسي للدخل. أما الدافع وراء التمويل الذي تقدمه الجهات الخاصة في الخليج فيكمن في مصالحها الشخصية وطموحاتها السياسية، فهي تستخدم الجماعات الجهادية التي تدعمها كأداة للمساومة بهدف الضغط على حكوماتها. وساهم تنوّع الجهات الأجنبية الراعية وأجنداتها وأساليبها في حدوث اشتباكات بين جماعات جهادية تتّخذ من سورية مقراً لها وتأتمر بأوامر تلك الجهات الراعية المختلفة وتخضع إلى إشرافها. تمخّضت تلك الاشتباكات عن غياب استراتيجية عسكرية متماسكة بين الجماعات الجهادية المتمرّدة المدعومة من قطر والسعودية لمحاربة الأسد والدولة الإسلامية.

عندما نمت مكانة الدولة الإسلامية وثروتها، تفوّقت على جبهة النصرة المدعومة من قطر باعتبارها الجماعة الجهادية الأبرز في سورية، مادفع بعض ألوية جبهة النصرة إلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية. وقد شكّل تراجع جبهة النصرة ضربة قاسية لرهانات قطر في سورية.27 

مع استمرار الصراع السوري، واجهت قطر تداعيات متجدّدة جرّاء سياستها الخارجية. فقد انضم جهاديون من جميع أنحاء العالم إلى الجماعات الإسلامية المتشدّدة في سورية، بما في ذلك من دول الخليج، ما أثار مخاوف دولية وإقليمية بشأن عدم الاستقرار الداخلي الذي قد يظهر في دول الخليج عندما يعود هؤلاء الجهاديون إلى بلدانهم. وقد حدا هذا الخوف بالولايات المتحدة إلى الضغط على الدوحة لوقف دعمها للجهاديين. أما المملكة العربية السعودية، فقد عمدت، بضغط أيضاً من الولايات المتحدة، وبسبب مخاوفها بشأن الجهاديين الخليجيين الذين اعتبرتهم بمثابة تهديد أمني محتمل في الشرق الأوسط، إلى إجراء تعديل في قيادتها استجابةً للمخاوف الأمنية الناجمة عن مسار الصراع السوري. تسلّم وزير الداخلية محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود الأكثر اعتدالاً، والذي كان قد ترأس برامج مكافحة الإرهاب في السعودية، ملفّ سورية من الأمير المتشدّد بندر. كما ضغطت السعودية على قطر للتعاون معها بشكل وثيق بهدف دعم المعارضة السورية المعتدلة داخل سورية، أي الجيش السوري الحر.28  في آب/أغسطس 2014، أدّى تزايد القلق الدولي إزاء الجهاديين الذين يتّخذون من سورية مقراّ لهم إلى صدور قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمكافحة توجيه التمويل إلى الدولة الإسلامية وجبهة النصرة.

بدأت خيارات قطر في سورية تضيق. إذ أن الضغط الدولي، إلى جانب تراجع جبهة النصرة وزبائن الدوحة السياسيين من السوريين، وضعا البلاد في موقف حرج. حاولت قطر اللجوء مرة أخرى إلى أسلوبها المعتاد في الوساطة للحفاظ على صدقيّتها السياسية، وتوسّطت في صفقات مع جبهة النصرة في البداية لإطلاق سراح المختطفين اللبنانيين في العام 2013، ومن ثم لتحرير الراهبات السوريات اللواتي احتُجِزن كرهائن في العام 2014. ومع ذلك، كان الثناء الدولي على قطر في هاتين الحالتين فاتراً لأن المخاوف الأمنية الكبيرة حول الصراع السوري، مثل امتداداته الإقليمية مع تقدّم الدولة الإسلامية في العراق، ألقت بظلالها على الجهود التي بذلتها.

السياسة الخارجية القطرية والتحدّيات الداخلية

ظهرت المتاعب التي واجهتها السياسة الخارجية القطرية على خلفية معقّدة من التحديات الداخلية. فقد أدّت الضغوط التي تعرّضت إليها السياسة الخارجية القطرية والناجمة عن مسار التطوّرات في مصر وسورية، ولاسيما بعد أن نفد صبر الرياض مع الدوحة، إلى مفاقمة المخاوف الداخلية في قطر. وأدّى هذا بدوره إلى تركيز الأمير تميم طاقاته على الشؤون الداخلية على حساب أنشطة السياسة الخارجية. وثمة تحدٍّ محلي أساسي تنامى هو الآخر نتيجةً لأنشطة السياسة الخارجية القطرية وانعكاساتها الدولية، يتمثّل في ضعف تميم في مواجهة المنافسين المحليين.

ورث تميم دولة من دون مؤسّسات قوية. فسلطة اتّخاذ القرار في الدوحة تتّبع نموذجاً تراتبياً بتوجيهٍ من الأمير، يشترك فيه هو وحاشيته وعائلته فقط. ولايوجد في قطر مجتمع مدني مستقل لمحاسبة الحكومة ولا برلمان للتصويت على قرارات السياسة الخارجية أو الداخلية. ويختار الأمير أعضاء مجلس الوزراء الذي يتألّف من موالين للبلاط أو أفراد قبائل يسعى الأمير إلى استرضائها.29 

اختار تميم، بعد استلامه السلطة، عدم الاستمرار في عملية مأسسة جدّية لسياسات الدولة، وهو قرار اتّخذه إلى حدّ كبير بسبب افتقاره إلى الثقة في اللاعبين القطريين. فقد تسلم تميم السلطة في الوقت الذي كان يواجه تحدّيات من المؤسّسة الدينية وأنصار والده ووالدته والأمراء المحليين الطامعين في السلطة.

مجلس العلماء في قطر، وهو أعلى سلطة دينية في البلاد، هيئة وهّابية موالية للمملكة العربية السعودية. وقد تم تقليص دوره منذ أن تولّى والد تميم، الأمير حمد، السلطة في تسعينيات القرن الماضي. بيد أن الضغوط التي مارستها المملكة العربية السعودية على قطر نتيجةً لسياسات الدوحة في مصر وسورية، تُرجِمَت إلى مزيد من الصلاحيات للمجلس لفرض نفسه مجدّداً في مواجهة الأمير تميم.30 

بعد رحيل حمد، ظهرت الخلافات بين تميم ووالدته الشيخة موزة بنت ناصر المسند بخصوص تأثيرها على علاقات قطر الخارجية. وثمة توتّرات أيضاً بين تميم ومدير شبكة الجزيرة الإعلامية، الذي يرتبط بتميم من طرفَي والدته ووالده على السواء. وإلى جانب تقارب شبكة الجزيرة مع جماعة الإخوان المسلمين وسمعتها بوصفها الناطقة بلسان الثورة السورية، الأمر الذي أضرّ بصدقيّتها، دفعت تلك التوتّرات تميم إلى إطلاق تكتّل إعلامي جديدة باسم "العربي الجديد"، برئاسة المستشار الأقرب إلى الأمير، عزمي بشارة. ومن المفترض أن يصبح العربي الجديد منافساً لقناة الجزيرة ووسيلةً رئيسةً للتعبير عن وجهات نظر الدولة القطرية. ويسعى تميم، من خلال مباركته إطلاق هذه الوسيلة الإعلامية الجديدة، إلى تكريس رأي مستقلّ.31  غير أن حمد لم يَغِب عن الساحة تماماً على الرغم من أنه غادر البلاد. فقد وضع قبيل تنازله عن الحكم، رؤية قطر الوطنية 2030، التي لاتزال تشكّل الوثيقة التوجيهية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.32 

يواجه تميم أيضاً تحدّيات من القبائل القطرية التي ترى في وصوله إلى السلطة فرصة للاستيلاء على البلاد، ولاسيما قبيلة مرّة التي حاولت إطاحة والده في العام 1996. 33 ويشترك عدد من الأمراء في هذه الفكرة عن تميم مع جانب قبيلة مرّة والقبائل الأخرى، ويرون أيضاً أن ثمّة فرصة محتملة لكسب النفوذ السياسي. كما أن بعض هؤلاء الأمراء مسؤولون عن تمويل الجماعات الجهادية في سورية خارج نطاق الدولة القطرية. وكما كانت الحال مع حمد، استجاب تميم لتحدّيات القبائل المحلية والأمراء بتعيين عدد كبير من أفرادها في الوظائف المدنية والمناصب الوزارية. ولذا أُجريَت عملية إعادة تنظيم للوزارات على وجه الخصوص لتحقيق هذه الغاية في مطلع العام 2014. 34

المخاوف بشأن تميم ومتانة نظام آل ثاني تُبقي مؤسّسات الدولة ضعيفةً، لأن المحسوبية تتجاوز عملية بناء المؤسّسات. ومن المستبعد أن يتم تمكين مؤسّسات الدولة التي من شأنها السماح بأن تؤول السلطة إلى أيدي واضعي السياسات من غير الأمير وحاشيته، بالنظر إلى المخاوف من حدوث انقلاب سياسي. وهذا يُضعِف قدرة قطر على متابعة مبادرات السياسة الخارجية التي يتبنّاها الأمير، أو ابتكار استراتيجيات طويلة الأمد لتنفيذها.35 

وثمة مصدر قلق محلي إضافي يواجه تميم، ويتمثّل في نظرة السكان القطريين إلى السياسات الخارجية والاقتصادية لبلادهم. إذ لايُعرَف سوى القليل عن رأي المواطنين القطريين بسياسات حكومتهم ودولتهم بسبب غياب نتائج الدراسات الاستقصائية العامة أو الحرية الإعلامية أو المجتمع المدني المستقل في البلاد. ومع ذلك، يساور القلق القطريين حول السياسات الخارجية والاقتصادية التوسّعية لحكومتهم، وحول نظرة مواطني دول الخليج الأخرى السلبية إلى قطر. وقد تم الكشف عن هذه الاتجاهات في نتائج استطلاع سرّي أجرته الدولة القطرية بين الشباب لقياس مواقفهم تجاه رؤية قطر الوطنية 2030. إذ أظهرت النتائج أن مايقرب من نصف الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع لايتّفقون مع الرؤية في حين لايعرف النصف الآخر بوجود هذه الرؤية أصلاً.36

كما عبّر المواطنون القطريون سرّاً عن عدم موافقتهم على السياسات الخارجية والاقتصادية القطرية، في ضوء تصاعد الضغط السعودي والاهتمام الدولي بانتهاكات بلادهم لحقوق الإنسان ومشاكل الحكم. وحظيت التقارير التي تتحدث عن انتهاكات وفساد مزعومين يتعلّقان بمباريات كأس العالم 2022، التي من المفترض أن تستضيفها قطر،37  باهتمام خاص. إضافة إلى ذلك، أثارت الضغوط الأميركية على قطر لوقف تمويل الجهاديين في سورية، ودفع دول الخليج الدوحة إلى خفض مستوى علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين، الشكوك والتساؤلات أيضاً. ونتيجةً لهذه التطورات، بدأ المثقفون القطريون بطرح التساؤلات حول زعيمهم، وحول محاولات بلادهم تعزيز مكانتها الإقليمية، التي لايرون فيها سوى القليل من الفائدة للمواطنين القطريين.38 

وقد أقلق هذا الرفض المحلي الأمير تميم لأنه لايريد أن يخسر ناخبيه الأساسيين. وفي سياق الردّ على ذلك، حوّل تميم تركيزه الأساسي من الشؤون الخارجية إلى الشؤون الداخلية، ووجّه طاقاته نحو رعاية شرعيته على الصعيد المحلي. وكانت نتيجة ذلك تقليص الانخراط في السياسة الخارجية.

دروس لقطر والمملكة العربية السعودية

على الرغم من محاولات قطر زيادة نفوذها الإقليمي والتناقضات الداخلية في المملكة العربية السعودية، لاتزال الرياض أقوى لاعب سياسي في الخليج. فقد تغلّبت المملكة على قطر في مصر وسورية. وبسبب مركزية العلاقة بين قطر والسعودية، من الضرورة بمكان أن تتناول الحلول كلا البلدين.

في مصر، ردّت قطر على تراجع حليفتها جماعة الإخوان المسلمين بصورة براغماتية، حيث أعلنت تأييدها لنظام السيسي، على الرغم من دعم الدوحة المستمر لجماعة الإخوان، والذي أصبح الآن على مستوى منخفض. غير أن العلاقة طويلة الأمد بين قطر وجماعة الإخوان المسلمين تقوم على علاقات إيديولوجية وسياسية واقتصادية معقّدة لايمكن أن تنفسخ عراها بسهولة. لذا يجب أن تدرك المملكة العربية السعودية أن قطر غير قادرة على التخلّي تماماً عن زبونها الرئيس، ويتعيّن عليها بدلاً من ذلك محاولة الدفع باتجاه التوصّل إلى حل وسط، بدلاً من شنّ هجوم شامل على جماعة الإخوان المسلمين. كما أن لموقف السعودية القاسي ضد الإخوان أيضاً آثاره السلبية على الرياض نفسها. فالدعم السعودي لحملة القمع التي تقوم بها حكومة السيسي ضدّ الإخوان، يزيد من حجم الغضب الشعبي ويشجّع التطرّف الإسلامي، كما تُظهِر الهجمات الإرهابية المستمرة في سيناء، وبروز عدد من الخلايا الجهادية في جميع أنحاء مصر. هذه الاتجاهات لاتخدم المصالح الأمنية للمملكة العربية السعودية.

أما في سورية فيبدو الوضع أكثر تعقيداً. إذ أصبحت قطر والمملكة العربية السعودية رهينتين لجماعات المعارضة السورية المضطربة التي أوجدتاها أو دعمتاها. ومع تراجع تلك الجماعات في مواجهة صعود الدولة الإسلامية وقوة النظام السوري، تقلّص التأثير القطري والسعودي في سورية، ما أضعف نفوذ البلدين الخليجيين إجمالاً. فالخسائر العسكرية التي تكبّدها الجيش السوري الحر وجبهة النصرة، والخسائر السياسية التي مُنيَت بها جماعة الإخوان المسلمين السورية، وضغوط الولايات المتحدة لوقف تدفّق الأموال إلى الجهاديين، دفعت قطر إلى تعديل سياستها الخارجية تجاه سورية. وفي الوقت نفسه، قامت المملكة العربية السعودية أيضاً بمراجعة سياستها تجاه سورية في ضوء تحدّيات مماثلة.

تنسّق قطر والمملكة العربية السعودية الآن مع الولايات المتحدة وتركيا في محاولة لتوحيد المعارضة السورية وتمكينها عسكرياً. ويمثّل هذا التعاون خطوة مهمة بالنسبة إلى الجيش السوري الحر، وإذا ما استمرّ هذا الجهد بكفاءة، فسيسمح بقيام تنسيق استراتيجي بين الجبهتين الجنوبية والشمالية في سورية للمرة الأولى منذ بداية الصراع. فالتعاون الاستراتيجي الدولي هو السبيل الوحيد لمواجهة نظام الأسد والدولة الإسلامية.

لايمكن للسعودية ولا لقطر السيطرة بمفردهما على الجهاديين الذين تموّلهم جهات فاعلة غير حكومية. فكلا البلدين يشعران بالقلق بشأن رّد الفعل المحلّي المحتمل نتيجة القيام بحملة شاملة على المموّلين غير الحكوميين للجماعات الجهادية. كما أن أمير قطر الجديد الشاب يشعر بالقلق بصورة خاصة إزاء القيام بخطوات قد تؤدّي إلى عدم استقرار محلّي، وتعرّض موقفه إلى الخطر. ولذا من شأن التنسيق الدولي أن يعزّز أجندات البلدين لمكافحة الإرهاب وتنسيق الجهود للقضاء على الدولة الإسلامية.

يوفّر التقدّم الذي تحرزه الدولة الإسلامية في العراق، والذي تسبّب بتدخّل عسكري أميركي، إضافة إلى زيادة التعاون من جانب تركيا، فرصةً يمكن لقطر والسعودية الاستفادة منها للتنسيق في مابينهما بصورة وثيقة، وبالتالي بصورة أكثر فعالية، بشأن مكافحة الإرهاب. وهذا يعطي قطر أيضاً فرصة لاستعادة بعض نفوذها الإقليمي، وإن لم يكن بالقدر الذي يسمح لها بالخروج من عباءة المملكة العربية السعودية. وقد أعطى التهديد الذي يمثّله تقدُّم الدولة الإسلامية المملكة العربية السعودية وخصمها اللدود إيران مصدر قلق أمني مشترك، لأنه لايمكن لإيران أن تتسامح مع تولّي جماعة جهادية سنّية السلطة في جوارها، كما أن السعودية تشعر بالقلق من عدم الاستقرار الداخلي الناجم عن تدفّق التيار الجهادي السنّي إلى داخل المملكة. وقد بدأت التلميحات عن تنسيقٍ محتملٍ بين البلدين بالظهور عندما فتح البلدان قنوات اتصال سرّية للتعاطي مع المخاوف الأمنية المشتركة. تمتّعت قطر دائماً بعلاقات ودّية مع إيران، ويمكنها استغلال هذه العلاقة لدعم الجهود الدولية لمواجهة نمو الدولة الإسلامية. ومع ذلك، فإن التقارب الإيراني-السعودي يعني تقليص المجال أمام قطر لكي تشقّ لنفسها مساراً مستقلاً عن المملكة العربية السعودية.

الحصول على موافقة الشعب القطري أمر ضروري كي تكون أنشطة السياسة الخارجية القطرية عملية وقابلة للتنفيذ. إذ يتمثّل أحد أوجه القصور الرئيسة في الدوحة في أن الأسرة الحاكمة قلّلت من تقدير تأثير السياسة الخارجية على الصعيد الداخلي. وقد تصرّف حكّام قطر، بمَن فيهم الحاكم الحالي، بأمور السياسة الخارجية للبلاد على نحوٍ يتجاهل إلى حدّ كبير العلاقة بين هذه الممارسات وبين التصرفات الخارجية والبيئة الداخلية. وفي الوقت نفسه، أصبح السكان في الداخل يشكّكون في سمعة البلاد الدولية والإقليمية. ولذا يبدو الأمير بحاجة إلى معالجة شواغل مواطنيه بشأن المسار الذي تتجّه إليه البلاد، وكيف يمكن لسياساتها في المجالين السياسي والاقتصادي أن تفيد مواطنيها، فيما يفكّر في الخطوات التي ينبغي على قطر اتّخاذها في مجال السياسة الخارجية فيما بعد.

كما ينبغي على قطر العمل مع دول الخليج الأخرى برويّة وتأنٍّ، لأن الاستقرار الإقليمي في منطقة الخليج لايزال، بنظر الدول الخليجية، أهم من الطموحات السياسية الفردية. وبالتالي، ينبغي على قطر إيجاد وسائل مبتكرة لإحياء مكانتها السياسية، التي شوّهتها صورتها كعنصر عدم استقرار في منطقة الخليج، مع الحفاظ على علاقات ودّية مع جيرانها. فالانخراط ف